هل
اختطفت الثورة في مصر؟ هل انتهت الموجة العظيمة التي تكونت فجأة في الخامس
والعشرين من يناير، وتعاظمت في الثامن والعشرين، وجرفت «الفرعون» في
الحادي عشر من شباط / فبراير الماضي؟ هل تفرقت الموجة بعدما عرّت كل
الفساد والقبح المختبئ ولكنها لم توصل البلاد إلى أي شاطئ جديد، بل تركت
الجميع عراة بكل عيوبهم، يتقاتلون مسلمين ومسيحيين، وإسلاميين وعلمانيين،
ومطالبين بحقوق فئوية ورجال أعمال خائفين، وشرطة كفّت عن ممارسة عملها
وراحت تراقب حالة التسيب الأمني، بل وصارت تنفخ فيها كي يشعر بها الجميع..!
ربما تبدو الصورة هكذا من زاوية الكثير من وسائل الإعلام الرسمية التي
تركز فقط على التسيب الأمني الذي عادة ما ترجع أسبابه، طبقا لتغطيات تلك
الوسائل، إلى المواطنين «الهمج» الذين يعتدون على رجال الشرطة المساكين،
أو إلى العمال الأشرار الطمّاعين الذين أوقفوا عجلة الإنتاج، من أجل مطالب
«فئوية» لا تخصّ أحدا غيرهم. ربما تبدو الصورة هكذا من زاوية العلمانيين
«الطائفيين» الذين أصبحوا يرون كلّ لحية أو حجاب على انه دليل جديد على أن
الدولة القادمة في مصر ستكون إسلامية، على غرار أفغانستان أو إيران على
أحسن تقدير، بينما تطالب بيانات المجلس العسكري الجميع بالعودة إلى
منازلهم وترك الساحة خالية كي يتمكن المجلس من عمله ـ الذي لا تحدده
البيانات المتتابعة - ويلقي باللوم على الجميع في توقف عجلة الإنتاج التي
لا نعرف متى كانت تدور وأين كان إنتاجها الذي توقف الآن!
لكن هل إن الصورة حقا على هذا القدر من السواد؟ هل تحولت مصر إلى مقاطعات
طائفية يختبئ فيها المسيحيون خوفا من القتل على يد الإسلاميين
«المتوحشين»، ويعد السلفيون والإخوان النقاب الجديد الذي سترتديه مصر؟
بالقطع لا. لم تصل مصر إلى هذه الدرجة، ولا تؤهلها حالتها الراهنة
وتاريخها الماضي للوصول إلى هذا الوضع.
المسألة فقط تحتاج إلى إعادة تركيب عناصر الصورة، كي نتمكن من رؤية الحالة
المصرية. فنحن أمام مجتمع اختنق تماما تحت سيطرة نظام حكم أوصل هذا
المجتمع إلى حد الانفجار بجميع طوائفه وطبقاته واتجاهاته في وجه خانقيه
وجلاديه، وبعد أن سقط رأس النظام الذي اتحد على إسقاطه الجميع، بقي لكلٍ
مطالبه التي يرى بها صلاح الأمور.
نحن أيضا أمام مجتمع منعت عنه كل أشكال التنظيم السياسي والأهلي منذ ستين
عاما. ومنذ ثلاثين عاما أطلق النظام الحاكم بعض القوى الإسلامية، ليس
إيمانا منه بالحرية والديموقراطية ولكن من اجل القيام بلعبة توازنات من
مواجهة قوى أخرى، وظلت العلاقة بين النظام وهذه القوى هي علاقة سيطرة من
ناحية النظام ومساومة من ناحية الإخوان.
نحن أمام طبقات فقيرة تمثل أكثر من نصف المجتمع، علما بأنه حتى الآن لا
زالت المطالبات الفئوية – التي يشكو منها المجلس العسكري - تخص الفئات
الدنيا من الطبقات المتوسطة ولم تصل إلى الفئات «تحت المتوسطة». ويعاني
أفراد هذه الطبقات من رواتبهم القليلة والأسعار التي ترتفع حولهم بجنون،
ومن علمهم المباشر بفساد مسؤوليهم بحكم الاحتكاك بهم في مقرات العمل.
والمراقب لكل الاحتجاجات الفئوية التي لم تبدأ حقيقية بعد «25 يناير»،
ولكنها بدأت قبل ذلك، وكانت من ممهدات الثورة، فسيجد أن جميعها تتمحور حول
مطالب واحدة تتعلق بمحاسبة المسؤولين الفاسدين، وإيقاف سيل الأموال
المنهوبة بسبب هذا الفساد، ورفع الأجور بما يتناسب مع تكاليف المعيشة.
ولكن القائمين على الأمر في مصر يريدون تصوير المسألة مجزئة بهذا الشكل،
لجعلها السبب في توقف «عجلة الإنتاج»، وبالتالي تصبح الشماعة الملائمة
لعدم تحقيق أي انجاز يذكر على المستوى الاجتماعي.
نحن أمام مجلس عسكري ظل ولاؤه الأساسي طوال الفترة الماضية للنظام السابق،
ويقف على رأس مؤسسة ضخمة تدار بشكل سريّ، ولا أحد يعلم شيئا عن ميزانيتها
أو مصادرها، وبالتالي عن فسادها. وتعرضت هذه المؤسسة العسكرية للتهميش
خلال العقد الأخير لحكم مبارك، من اجل مشروع التوريث التي كانت تعارضه.
وفجأة وجدت المؤسسة العسكرية جموع المصريين تطيح مبارك وعائلته، ووجد
العسكر أنفسهم يديرون البلاد، من دون رغبة حقيقية منهم في لعب هذا الدور.
فرغبتهم الحقيقية هي استمرار وضعهم وامتيازاتهم كما كانت مع وجود رئيس
يمكنه ضمان استمرار هذا الوضع.
وما يصنعه المجلس العسكري الحاكم في مصر منذ الخامس والعشرين من يناير حتى
الآن هو المحافظة على الوضع كما كان سابقا، مع تغيير الوجوه القديمة التي
ثارت ضدها الناس.
والمجلس العسكري ليس وحيدا في هذا الأمر، ولكنه يجد من يعاونه من قوى
سياسية ترى فقط مصلحتها الضيقة في الاستفادة القصوى من المرحلة الراهنة،
وطبقة رجال أعمال من مصلحتها الاستفادة من الظروف الاجتماعية الحالية بعد
القضاء على الأعداء القدامى الذين كانوا يقبضون وحدهم على السوق.
الجميع هنا يحاول شدّ الحبل إلى الوراء من اجل العودة إلى الوضع الماضي، بعد إزالة بعض العوائق التي كانت تقلقهم.
وهناك على الناحية الأخرى هذه الكتلة المختلفة الألوان، التي لا تريد
العودة إلى الوراء. هذه «الجماهير» التي خرجت ضد الفرعون، والتي يتم
تصويرها على أنها تأكل بعضها بعضا، والتي لا توافق على أن تلقّم اللجام
مرة أخرى. فالإضرابات لم تتوقف والتظاهرات تندلع كل يوم ضد مظالم جديدة
وقديمة. وهذه الكتلة التي دخلت فرنا هائلا بعد سنين من «الحبس في
الثلاجة»، تبدو كأنها لا تعرف الطريق، ولكنها ترفض بعناد العودة إلى
الوراء. هذا الشعب يحتاج وقتا لإنهاء تفاعلاته التي بدأها للتوّ، لإتمام
ولادته الكبيرة. يحتاج نفسا طويلا لإتمام الطريق. نفس باتساع ثمانين مليون
شخص اسمهم مصر.