هذا
الكتاب من منشورات ’ريبوست لاييك’، أو الردّ ّالعلمانيّ، وهو موقع يناضل
ضدّ المدّ الأصوليّ الإسلاميّ في فرنسا. يجد القارئ في فاتحته شهادات
الأساتذة والإداريين التربويين الذين قاوموا أولى محاولات اختراق
الأصوليين للمجال المدرسيّ الفرنسيّ، وكثير من النشطاء والمثقّفين الذين
ما زالوا واقفين بالمرصاد لجنون الأصوليين. يستعرض كلّ حيثيات استعمال
عرّابي الأسلمة لتلميذات من أصول إسلامية من1989 وإلى 2009 بغية افتكاك،
بادئ ذي بدء، حقّ ارتداء الحجاب في المدارس والثانويات ثمّ الانتقال إلى
ما هو أوسع وأشمل عند تـأكّدهم من ضعف أسوار المؤسّسات الجمهورية وتهاونها
في مقاومة مشروعهم الظلاميّ.
في 380 صفحة، يحكي الكتاب كلّ الحكاية. يسترجع كلّ النضالات، ويُذكّر
بخيانات السياسيين وجبن بعض المثقفين وقصر نظرهم. يحكي لنا أساتذة في
ثانوية "فاندوم" عن تجربتهم المرّة مع الحجاب سنة 1993، ويسردون المقاومة
البطولية للأساتذة اللائكيين في محيط كان في ذلك الوقت غافلا غير مدرك
لأخطار الأصولية وتكتيكاتها وأهدافها الإستراتيجية (1). نقرأ عن وزارة
تربية فرنسية ضائعة في حسابات سياسوية ومزايداتية، وعن أصولية منظمة
الصفوف تتستر تحت يافطة حرية الفرد!
نقرأ عن الكيفية التي انطلت بها هذه الأزعومة على كثير من الفرنسيين
آنذاك على مختلف مشاربهم السياسية والفلسفية. ويحكي أساتذة آخرون عن
محاولات حجابية عنيفة أخرى في "فلير" سنة1999 وليون سنة 2003 فضلا عن أمّ
المعارك الأولى سنة 1989 في مدينة "كراي" التي أظهرت أنّ الإسلام قد بات
معضلة في بلد فولتير.
نخرج من قراءة الشهادات بأنّ قانون2004 المانع للرموز الدينية الظاهرة
لم يأت صدفة ولا تقييدا لحرية المسلمين الدينية، كما يكذب الإعلام العربيّ
المتأسلم المجترّ لكلمة إسلاموفوبيا، وإنّما فرضته هجمات الأصوليين
واستماتة المناضلين العلمانيين، وردّ فعلهم البطوليّ، دفاعا عن حرمة
المدرسة وضرورة بقائها مكانا حرّا بعيدا عن مخالب المتديّنين ومفاهيمهم
المتخلّفة للإنسان والكون.
نقرأ عمّا يجري في مدينة مرسيليا من اعتداءات على القيم الجمهورية،
وكيف انتشرت الأحجبة والبوركات وقريبا البوركيني على الشواطيء.. يفضح
المتدخّلون مواقف اليمين واليسار المتخاذلة وزبانيتهم الإنتخابوية التي
تهدم صرح اللائكية، ولا تخدم سوى الإسلاميين في نهاية المطاف. وبدون حذلقة
تربط مقاربة من مقاربات الكتاب بين الهجرة المتعاظمة وصعود الأصولية في
فرنسا، وتبيّن كيف يعمل النظام الرأسماليّ على استغلال المغتربين
واستعمالهم في حربه ضدّ المكاسب الاجتماعية، بغية القضاء على التضامن
الإجتماعي، وهدم الفضاء المجتمعي العلمانيّ الوحيد الذي يجمع بين الناس،
واستبداله بالنظام الإنجلو ساكسوني المرتكز على التعدّد الإثني الثقافي
الموصل حتما إلى سياسة الغيتو..
يعود بنا الكتاب في أحد فصوله إلى جذر المشكلة، مستعرضا علاقة الإسلام
بالدولة الفرنسية منذ نابليون إلى اليوم، موضّحا كيف تعاملت السلطات
الفرنسية بطريقة غير ذكيّة مع الإسلام، بل يحمّلها الكاتب مسؤولية عدم
تحرّره من لاهوته.
دفاعا عن العلمانية وقيم الجمهورية، لم يهادن النص أحدا ولم يكترث
كاتبوه بالنعوت الجاهزة ولا بالمحاكمات القضائية التي قد تتهاطل عليهم.
لقد ندّدوا بتواطؤ المثقفين ونشطاء العولمة البديلة والتطرّف اليساريّ
واليمينيّ والخُضر مع الفاشية الخضراء. وندّدوا بتخاذل الطبقة السياسية
الكلاسيكية وأحزابها أمام المدّ الإسلامي في فرنسا.
يخرج قارئ الكتاب بشعورين متناقضين؛ أوّلا الخوف المشروع من الأصولية
الزاحفة المتستّرة بغطاء الدفاع عن الحريات لإعادة النظر في أسس الحداثة،
وفتح المجال لعودة الدين إلى الحياة العامة في فرنسا، وبمباركة كثير من
الفرنسيين المعادين للحداثة، والذين لم يهضموا بعد هزيمة الكنيسة وما
جاورها. أمّا الشعور الثاني فهو شعور الغبطة بردّ الفعل العلمانيّ المقاوم
الذي بدأ ينمو شيئا فشيئا، إذ بدأت الأصولية الإسلامية تبدو على حقيقتها
للرأي العام الفرنسيّ الذي بات مدركا لمكر الأصوليين. سفور فحجاب فجلباب
فنقاب! ألا يضغطون على غير المتحجّبة لتتحجّب وعلى المتحجّبة لتتنقّب إلى
أن يعمّ السواد بلاد الجنّ والملائكة؟
لو اقتصر الأمر على إرادة المنتخبين لانهارت الجمهورية العلمانية على
مذبح الربح الأنانيّ الإنتخابويّ في غضون عشرية أو عشريتين، لكن ليحمد
الفرنسيون ربّهم المطرود خارج الحياة العامّة على وجود نساء ورجال انتبهوا
لخطر الأصولية الإسلامية، تتكسر على جدران إرادتهم وعلمانيتهم موجاتها
العاتية المغلّفة في ذلك القبر المحمول المسمّى لباسا شرعيا.
لا يستر الحجاب شيئا بل يكشف أهداف الأصولية المخفيّة كلّها، هكذا يمكن
تلخيص الكتاب. فليس الحجاب سوى شجرة تغطّي غابة أصولية تنمو باطّراد قد
تطال تراب الجمهورية الفرنسية كلّه.
الهامش: (1) لمست آثار ذلك شخصيا بعد 16 سنة من تلك
الزوبعة في "فاندوم" الجميلة حينما حللت ضيفا على لجنة فاندوم للدفاع عن
اللائكية لأناقش مسألة الحداثة والإسلام بمناسبة اجتماع الجمعية السنوي،
ويترأّسها كاتبا الفصل الأوّل من الكتاب؛ ماريزهاسلي أستاذة الأدب
الكلاسيكي، وفيليب دوفران المدير السابق لثانوية "فاندوم"، التي كانت
’’مسرح هجوم الأصوليين’’ كما يقول عنوان الفصل. لقد امتلأت القاعة
بأصوليين متستّرين في زيّ مدنيّ حاولوا بكلّ الطرق تحريف النقاش وتأثيم
الحضور، وقد ثارت ثائرتهم أمام ما أطرحه صراحة دائما؛ وهو عدم صلاحية
الإسلام لكلّ زمان ومكان، واستحالة أيّ توافق بين الإسلام والحداثة.