منذ
أحداث تونس، وبهمّة أكثر أيضا بعد أحداث ميدان التّحرير، تحتفل الطّبول
الإعلاميّة بـ "الثّورة الرّقميّة" العربيّة. ومع تحرير وائل غنيم، مدير
تسويق غوغل الشّابّ في منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا الّذي صار رمزا
لحركة احتجاج أدّت إلى سقوط الرّئيس مبارك، صارت المسألة مفروغا منها :
إنّ الأمر يتعلّق فعلا، حسب الاختيار، بـ "ثورة 2.0" أو كذلك "ثورة فايس
بوك". ستُستخدم مستقبلا كلمات إنترنيت وفايس بوك وأيضا تويتر بمثابة
الطّوطم لدى قبيلة بأكملها من المعلّقين الّذين يكتشفون الفضائل
الدّيمقراطيّة للشّعوب العربيّة بعد فضائل الإنترنيت! هاهم اليوم، بعد أن
ظلّوا لسنوات طوال عميانا لا يرون لا هذه ولا تلك، يجعلون أنفسهم جوقات
تتغنّى بالقدرات التّحريريّة للرّقميّ. يفعلون ذلك بطريقة جدّ ساذجة تجعل
الرّدّ على خطاباتهم الملتهبة بتحاليل مفرطة أحيانا في التباسها أمرا
مغريا.
لا يتمثّل دور المختصّين في العلوم الإنسانيّة في الحلول محلّ
المعلّقين المحترفين على الأحداث. إنّهم كثيرا ما يخطئون، مع بعض
الاستثناءات البارزة، حين يقترحون تحليلات معيّنة دون أن يستفيدوا من
أدنى فسحة زمنيّة للرّجوع إلى الوراء. منذئذ، سيكون مفهوما أنّ ما سيأتي
لاحقا ليس إلاّ مقترحا لتأويل نهائيّ بشأن الأحداث الّتي جدّت مؤخّرا،
وتفصل بينها بضع أسابيع، في بلدين عربيين. ومن ثمّة، فإنّي لا أقوم بعرض
هذه الملاحظات الوقتيّة البسيطة للعموم باعتبارها نشرا، بالمعنى الّذي
اتّخذته هذه الكلمة منذ تطوّر الطّباعة، بل باعتبارها اتّصالا، تمشّيا مع
أفضل تقاليد المجتمع العلميّ حين يقبل بأن يخضع إلى تعاليق أولئك الّذين
يطّلعون عليه عن طريق الأنترنيت بل وحتّى إلى انتقاداتهم…
ثورة… على الأقلّ في العقول! على الرّغم من أنّ
هذا ليس موضوعنا بشكل خاصّ، من الجدير أن نذكر فورا أنّه من التّهوّر
الحديث، في لحظة كتابة هذه الأسطر، عن ثورة، في الحالة التّونسيّة كما في
الحالة المصريّة. طبعا، غادر زين العابدين بن علي من جهة وحسني مبارك من
الجهة الأخرى السّلطة الّتي تولّتها اليوم مبدئيّا هيئات انتقاليّة. ولكنّ
مسألة طبيعة النّظام القادم، واحتمال بقاء بنى قديمة في شكل مرمَّم
تقريبا، تظلّ مطروحة. بعبارات أخرى، لا نعرف بعد هل هي ثورة، بالمعنى
الحقيقيّ للكلمة، أم هو شكل من الانقلاب، ثورة قصر إن أردنا. وعندما
نتساءل عن الدّور الّذي لعبته تقنيات الاتّصال الحديثة بصفة عامّة – ذلك
أنّ دور التلفزيونات الفضائيّة لا يجب أن يستهان به – فإنّ هذا السّؤال عن
الطّبيعة الحقيقيّة للتّحوّلات السّياسيّة ليس بلاغيّا فحسب. في الواقع،
ينبغي أوّلا أن نعرف المزيد عن الصّيغة السّياسيّة الّتي سيتمّ في آخر
الأمر اعتمادها في هذين البلدين لتقييم الطّبيعة الثّوريّة الفعليّة
للتّغييرات الّتي ربّما ساهم التّدفّق الرّقميّ للإعلام في جعلها ممكنة.
مقابل
ذلك، فإنّنا فيما يتعلّق بالنّقطة الأخيرة نتقدّم على أرض أكثر صلابة. إذ
يرى أغلب الملاحظين أنّ "وسائل الإعلام الجديدة" قد مارست في الحالتين
دورا هامّا في نجاح التّعبئة الشّعبيّة. ولا يزال يتعيّن، بطبيعة الحال،
تقييم هذا الدّور بطريقة أكثر دقّة، في مراحل محدّدة ووظائف مختلفة ودعائم
متغيّرة. ولكن، يجب رغم كلّ شيء أخذ الوقت الكافي للتّوقّف عند هذه
المعاينة الأولى : من الآن فصاعدا، سنتعامل بجدّيّة مع إثبات كان منذ
سنوات بالكاد يثير السّخرية تماما. لا فقط لأنّهم كثيرون أولئك الّذين
كانوا يعتبرون أنّ افتراض وجود أثر حاسم لتكنولوجيات الاتّصال الجديدة في
الحقائق السّياسيّة ينتمي إلى الخيال السّياسيّ، بل وأكثر من ذلك لأنّ
الحسّ المشترك كان يصعب عليه كثيرا أن يتصوّر أنّ مثل هذه التّطوّرات يمكن
أن تعني في مستقبل قريب تقريبا مجتمعات العالم العربيّ.
من الواضح أنّ الأحداث الّتي من الممكن أن تفتح مرحلة جديدة في تاريخ
هذه المنطقة قد غيّرت بعدُ في العمق نظرة العالم الخارجيّ، وخصوصا البلدان
الأوروبّيّة، إلى هؤلاء السّكّان. ومهما يكن مصير تعبئة التّونسيين
والمصريين، فإنّهم قد نجحوا بالفعل في كسر التّمثّلات الجاهزة الّتي يبدو
أنّه قد حُكم عليهم بموجبها بأن يظلّوا، ولوقت طويل أيضا، خارج التّاريخ
وعلى هامش المسارات الدّيمقراطيّة. ودون أن نتنبّأ مرّة أخرى بنتيجة
نضالهم، أثبت المتظاهرون التّونسيون والعرب الحماقة المحزنة للتّحليلات
المزعومة الّتي تسلّم بتعارض "الثّقافة العربيّة الإسلاميّة" مع الحداثة.
وبعد تقارير كثيرة تسهب ببراعة في الحديث عن "الغياب الكلّيّ لأيّ مظهر من
مظاهر ثورة جارية في المعلومات في العالم العربيّ"، فإنّ هذا التّغيير في
المنظور جيّد لجميع أولئك الّذين سعوا، منذ سنوات عديدة، إلى إبراز قراءات
أخرى تؤكّد عكس ذلك على حيويّة مجتمعات طالتها بسرعة أكبر وعلى نطاق أوسع
"المثاقفة بالرّقميّ". بل إنّ هناك رغبة، من الآن فصاعدا، في الذّهاب إلى
أبعد من ذلك بمشاركة أفكار جورج قرم للتّأكيد على أنّ "الشّارع العربيّ
نموذج يُحتذى به في الشّمال"، بما في ذلك ما يتعلّق بفهم "السّياسة
الألكترونيّة السّيبرنيّة". نتَصوّر بشكل عفويّ أنّ التّغييرات
الاجتماعيّة والسّياسيّة المتّصلة بازدهار تكنولوجيات الإعلام والاتّصال
TIC تعني المجتمعات الما بعد صناعيّة في المقام الأوّل، ولكنّ بلدين من
العالم العربيّ يذكّراننا بأنّ الإبداع السّياسيّ يمكن أن ينشأ من
الأطراف. هي ذي تماما ثورة حقيقيّة في العقول !
تونس ومصر : استحالة احتواء الوسائط الرّقميّة: إنّ
ديناميكيّة التّكنولوجيات الرّقميّة في العالم العربيّ، الّتي كان
يُستخَفّ بها حتّى وقت قريب، تسترعي الانتباه أكثر لأنّ هذه الانطلاقة قد
جاءت متأخّرة، لجملة من الأسباب المتنوّعة، بعضها تقنيّ، وبعضها الآخر،
بالبداهة، سياسيّ. ولكن، مع الولوج الرّمزيّ، في أكثر من وجه، للعربيّة
السّعوديّة إلى الشّبكة العالميّة في نهاية القرن العشرين، تمّ اجتياز
مرحلة حاسمة. ففي غضون عقد من الزّمن، كان العالم العربيّ قد عبرته ثلاث
موجات رقميّة كبرى : الأولى، وهي بالأحرى مؤسّسيّة، كانت الصّحافة خصوصا
قد حملتها طوال النّصف الثّاني من التّسعينات، ثمّ جاءت بعد ذلك موجة
المدوّنات، وبعدها موجة الشّبكات الاجتماعيّة من طراز فايس بوك، وكلتاهما
ارتبطت ارتباطا وثيقا بالاحتجاجات الاجتماعيّة الأولى الّتي استخدمت وسائل
الأنترنيت، لا سيّما في مصر. إنّه تطوّر ساحق يمكن إدراك أهمّيّته من خلال
إحصائيّة حديثة تشير، منذ بضعة أشهر بالكاد، إلى أنّ المستخدمين العرب
للفايس بوك صاروا الآن أكثر عددا من قرّاء الصّحافة اليوميّة (المطبوعة،
بطبيعة الحال !).
كما في أماكن أخرى، ينجذب الشّباب العربيّ إلى وسائل الاتّصال الجديدة
على وجه الخصوص. وبما أنّ معظم هذه البلدان لم تنجز تحوّلها الدّيمغرافيّ
إلاّ مؤخّرا (ذلك أنّ خمسين في المائة من حوالي 200 مليون من السّكّان
العرب هم دون سنّ العشرين)، فإنّ الآثار الاجتماعيّة والسّياسيّة لهذا
الانتشار السّريع جدّا لتكنولوجيات الإعلام والاتّصال ما تزال أكثر
إذهالا. لا سيّما في سياق التّاريخ القريب الخصوصيّ جدّا للمنطقة، الموسوم
بتغييرات سوسيو - اقتصاديّة (تمدّن، تمدرس، فكّ التّأميم، شملنة بل وأيضا
"استعمار جديد"…) ممّا يجعل كلّ انتقال محتوم ، أكان رقميّا أو
ديمقراطيّا، انتقالا مؤلما، لأنّ لكلّ منهما خصوصيّة تتمثّل في الإضرار
بالحوافز الاجتماعيّة لانتقال ضروريّ بين الأجيال.
ولو أنّ قول هذا هو أسهل اليوم منه بالأمس، فإنّنا إذن نجد فعلا في
المجتمعات العربيّة المعاصرة جميع مكوّنات انفجار مّا بسببه نعتبر أنّ
الظّروف الجديدة لإنتاج المعلومة وانتقالها استطاعت أن تلعب دور الفتيلة…
ومع أنّ تاريخ هذه الأحداث الاستثنائيّة تماما هو أبعد من أن يكون قد
كُتب، فإنّه بإمكاننا أن نقترح بعض مسارات للتّفسير، بادئين بتذكير قد
يكون ضروريّا لمن ليست لديه دراية بالمشهد الرّقميّ العربيّ. كانت تونس بن
علي ومصر مبارك، حتّى وقت قريب، تمثّلان كلّ بطريقتها الموضع المثاليّ في
مجال قمع التّكنولوجيات الجديدة، وكانت الواحدة كما الأخرى تعطي نوعا مّا
مثلا على الخبرة العربية في إدارة مخاطر زعزعة الاستقرار الّتي يمكن
لسلطات استبداديّة أن تربطها بالمبادلات على شبكة الأنترنيت! إنّ تونس بن
علي، البلد المضيّف غير المحتمَل لمؤتمر القمة العالميّ حول مجتمع
المعلومات سنةَ 2005 لأنّها كانت قد بدأت السير في طريق القمع المتزايد
لوسائط الإعلام القديمة والجديدة، كانت أيضا منذ عام 1991 أوّل بلد
إفريقيّ ارتبط بشبكة الشّبكات. أمّا عن مصر مبارك، وهي أوّل دولة عربية
خصّصت سنة 1999 وزارة للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، فإنّ النّشر
المنتظم لتقارير رسميّة، بشأن محيط المدوّنات المحلّيّ، يبيّن، إن كان
هناك حاجة إلى ذلك، أنّ السّلطة المصريّة كانت تدرك تمام الإدراك
الرّهانات السّياسيّة لتلك التّكنولوجيات.
بطبيعة الحال، يكشف سقوط
رئيسي الدّولتين عن حدود خبرة النّظامين المعنيين في مجال القمع
الإعلاميّ، ولكن لا ينبغي مع ذلك الاعتقاد في القدرة المطلقة لمناضلي
الأنترنيت الّذين يتقاسمون على أيّة حال، في المشهدين، عددا من السّمات
المشتركة. وفي ضوء التّوافق الزّمنيّ للأحداث، أمكن ربط الانتفاضتين في
تونس ومصر بـ "تسريبات" ويكيليكس. إنّ هذا النوع من التّفسير يفصح في
الحقيقة عن أسئلة مراقبي الشّبكة (الغربيين) أكثر منه عن ممارسات رواد
الأنترنيت العرب. ودون احتمال حدوث خطأ كبير، يمكن اعتبار "كشوف" ويكيليكس
أدنى بكثير ممّا كان الرّأي العام، في كلا البلدين، يعيبه على قادته منذ
أمد طويل.
على أيّة حال، قليلة جدّا هي "الكشوف" غير المنشورة الّتي يمكن
لويكيليكس ومثيلوه أن يقوموا بتحيينها، بما في ذلك في مشهد إنترنيت هو
أيضا مقفل إلى حدّ كبير. وفى الواقع، إنّ أحد أهمّ الدروس المستفادة من
الإطاحة برئيسي الدّولتين التونسيّة والمصريّة هو إظهار أنّ مراقبة كاملة
للتّداولات الرّقميّة صار من الآن فصاعدا حلما بعيدا عن متناول
الدكتاتوريات الأكثر تشدّدا. وعلى الرّغم من صرامة شرطة المعلومات، كان
السّكّان في تونس وفي مصر يعرفون بوضوح ما يكتفون به ممّا يتعلّق بالنّظام
الخاصّ بكلّ منهم. في نهاية المطاف، إنّ إغلاق القنوات العادية لحركة
الأخبار في هذين البلدين كما في كلّ مكان وُضعت فيه قيود أسهم بالخصوص في
تكاثر إجراءات الالتفاف من قبل مستعملين فطنين بصورة متزايدة. فتمّ وضع
قنوات بديلة مثل الفايس بوك، هذه الشّبكة الاجتماعية الّتي سرعان ما
حوّلها المستعملون المحلّيون إلى منصة معلومات ولعبت في تونس دورا هامّا
في انتشار الشّعارات أثناء المواجهات مع قوات الأمن. وكذلك الأمر في مصر،
حيث نلاحظ استبدالا لأدوات الأنترنيت "القديمة" الّتي أصبحت غير حصينة
بشكل كبير، من ذلك أنّ المدوّنات، وهي قناة تعبير الجيل الأوّل من ناشطي
الشّبكة، قد تمّ استبدالها بالشّبكات الاجتماعيّة من "جيل الفايس بوك"،
الّتي بدورها حلّت محلّها الإرساليات الصّغيرة جدّا من طراز تويتر.
مع ذلك - وهذا درس آخر من الأهمية بمكان –، تبيّن الحالتان التّونسيّة
والمصريّة أيضا التّشابك المحكَم بشكل متزايد بين السّندات و الشّبكات،
بين الحبكات الإعلاميّة logiciels والنّماذج، وفي نهاية المطاف بين اللغات
والاستخدامات. وإذا كانت هناك صورة تجسّم ظواهر الالتقاء، غير المتوقّعة
في جزء منها، في الكون الرّقميّ حصرا، فهي حقّا الجسور الّتي مدّتها على
وجه السرعة شركتا غوغل وتيوتر لتمكين المصريين من تبادل الرسائل القصيرة
جدّا عن طريق شبكة الهاتف التّقليديّة. ولكنّ ما هو بليغ أيضا، وما هو
أكثر فعالية دون شكّ من حيث المعلومات والقدرة التّعبويّة )في السّياق
الحاليّ على أيّة حال)، هو النّسيج الّذي حبكته محطّة كالجزيرة بين
مواردها التّقليديّة باعتبارها قناة إعلاميّة فضائيّة وبين التّدفّقات
الرّقميّة الجديدة للشّبكات الاجتماعيّة (لا سيما أشرطة الفيديو للهواة
والإرساليات القصيرة جدّا). وعلى نموذج اعتمدته في نهاية المطاف جميع
هيئات المعلومات "التّقليديّة"، المتغاضية عن توقّيها من البرمجيات
المتأتّية من مصادر غير مهنية، أظهر احتلال ساحة التحرير في القاهرة، أكثر
ممّا أظهرته الاشتباكات في شوارع تونس العاصمة، أنّ هناك من الآن فصاعدا
مثل هذه السّلاسة في تدفق المعلومات بحيث لا جدوى من الأمل في حبسها، بما
في ذلك الغلقَ شبه الكلّيّ - الميئوس منه سريعا على كلّ حال - لمجمل نظام
الاتّصال الوطنيّ (قطع الأنترنيت وشبكات الهاتف النّقّال في خضمّ
الاحتجاجات)، كما حاولت أن تفعل السّلطات المصريّة حين أضافت ذلك إلى
الرّقابة العاديّة وحتّى إلى الهجمات على ممثّلي الهيئات الصّحافيّة
المشتبه في أنّهم أعداء. رغم كلّ ذلك، وبغضّ النّظر عن التّطوّر الحقيقيّ
جدّا للشبكات الاجتماعية (المستخدمون التونسيون للفايس بوك يمثّلون 18 في
المائة من مجموع السكان…)، ما يزال التّلفزيون، والجزيرة تحديدا في صلب
المشهد الرّقميّ الحاليّ، هي النّقطة المركزيّة في الخليط المعلوماتيّ،
على الأقل لدى السّواد الأعظم من الفاعلين المؤهّلين للتّعبئة من أجل خلق
موازين قوى على أرض الواقع.
تكنولوجيا الإعلام والاتّصال، لا شكّ، لكن ليس أكثر من ذلك! في
الأحداث الّتي كان مسرحها شوارع تونس ومصر، يدلّ أكثر من مؤشر على الدور
الّذي تمكّنت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بوجه عام، والشبكات
الاجتماعية بوجه خاصّ من القيام به في تسلسل الأحداث. ومع ذلك، وحتى إذا
ما بدت بليغة، فإنّ تعابيرَ مثل "ثورة فايس بوك" أو"تويتر" هي على الأرجح
تعيسة بل وحتّى مضللة. قبل كلّ شيء لأنّ الثّورات، كما سرّ بعضَ المتشككين
التّذكيرُ به، لا تتم على شاشات الحواسيب المحمولة، مهما كانت أحجامها، بل
في الشوارع، حيث تقاس بطريقة جسديّة تماما، المواجهة بين القوى المتعارضة.
ولكن أيضا، وعلى نحو أكثر دقّة بقليل، لأن ندرة تدفّقات المعلومات، بل
وحتّى غيابها تقريبا في وقت مّا، بدءا من شبكة الانترنت، لم يحولا دون
التّصاعد القويّ لعمليّات التّعبئة الّتي انتهت بإقصاء قائدي تونس ومصر.
إنّها حجّة يمكن مع ذلك أن نتجاوب معها بالعودة إلى استعارة الفتيلة،
الحاسمة في البداية – حجّة إنشاء وسائط الإعلام الرّقميّة لتعبئة مّا-
ولكنّها غير مفيدة فيما بعد بمجرّد أن شبّ حريق التّمرّد المعمَّم. بمثل
هذه الحجج، نستمرّ مع ذلك في التّموقع داخل الحقل السّياسيّ، بالمعنى
الضّيّق تماما للكلمة، في حين يمكن للمرء أن يتصوّر أنّ الآثار المترتّبة
عن انتشار التّكنولوجيات الرّقميّة في الجسم الاجتماعيّ تُحَسُّ بشكل
مختلف. هذا هو أيضا حال معظم التحليلات، حول المحيط التّدوينيّ العربيّ
على سبيل المثال، لأنّ هذه التحليلات تبحث في الدّور التّعبويّ لتكنولوجيا
المعلومات والاتصالات وفقا للتّمثيلات التقليديّة للسّياسيّ، الّذي يتمّ
فهمه هو نفسه انطلاقا من شبكات تحليل معروفة جيّدا. إنّنا، باقتطاعنا لحقل
الثقافة السياسية الرقمية بهذه الطّريقة، نخاطر لا محالة بتجاهل كلّ ما لا
يكون في قوالب النماذج المجرَّبة، كلّ ما يَرسُم على العكس منها أشكالا
غير مألوفة. وعلاوة على ذلك، إذا كانت الأحداث في مصر وتونس قد شكّلت مثل
هذه المفاجأة - بما في ذلك للفاعلين أنفسهم من ناحية أخرى - أليس هذا
بالتحديد علامة على أن أدوات الفهم والتّحليل السّابقة غير قادرة على أن
تساعدنا على قراءة علامات ثقافة الاحتجاج الرّقميّة الجديدة؟
إنّ الحديث عن "عدوى ديمقراطيّة" في المجتمعات العربية – وهو فضلا عن
ذلك تعبير رهيب - لوصف عمليات التّعبئة الحاليّة لا يضيف شيئا كبيرا على
صعيد الاستكشاف. ذلك أنّ فجائيّة الاضطرابات الّتي من المحتمل أنّها
ستستمرّ في بقاع مختلفة من العالم العربيّ، (وحتّى الإسلاميّ لو فكّرنا في
إيران) تشجّع بطبيعة الحال على التّسليم بأنّ مختلف هذه المشاهد
السّياسيّة، المختلفة إلى حدّ كبير من جهة أخرى (فما هي النّقاط المشتركة
بين إمارة البحرين الصّغيرة مثلا ، وبين الجزائر بوتفليقة ؟) هي من صنع
العوامل ذاتها. ومن بينها، التّدفّقات الرّقميّة الجديدة. لا شكّ، ولكن لا
شيء أكثر من ذلك..
من أجل التّوصل إلى تفكير أفضل في التّبعات السياسية لتكثيف الاتصالات
الرّقمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بوجه عام، ينبغي في الواقع أن
نبدأ ربّما بألاّ نجعل منها نقطة التّفكير المركزيّة وأن نعتبر أنّها على
العكس من ذلك ليست سوى عنصر من بين عناصر أخرى في تسلسل السّببيات الّتي
أثارت الأحداث الأخيرة في تونس ومصر. وبدلا من أن نعتبر ازدهار الأنترنيت
ومختلف استخداماتها مفتاحا لكلّ شيء قادرا على فتح جميع أبواب الاضطرابات
الجارية، ينبغي ألاّ نعتبره سوى واحد في رزمة بها مفاتيح أخرى كثيرة
مثل تقدّم التّعليم أو التحضّر المتسارع لمجموعات سكّانيّة فتيّة جدّا في
معظمها أو كذلك التّعجيل بنشر المراجع الثقافية ذات المنشأ الخارجيّ…
وعلى
الرغم من أنّ الشّبكات الاجتماعيّة قد شهدت نموّا متسارعا في المجتمعات
العربية، فلا يبدو أنّها، اليوم على أيّة حال، في وضع يسمح لها بمنافسة
الوسائل الإعلاميّة التّقليديّة مثل التّلفزيون. ولكنّها مقابل ذلك، تشارك
فيها بصورة متزايدة بإنشائها لوضعيّة غير مسبوقة، سواء من حيث المحتويات
المنقولة أو من حيث حركات التّدفّقات ومراقبتها. والأهمّ من ذلك أنّه –
على المدى المتوسّط كما يُتوقّع حتى ذلك الحين ولكن الأحداث الرّاهنة تشير
إلى أنّ الآجال ليست ربّما بعيدة جدّا - ستظهر من الآن فصاعدا الآثار
الاجتماعيّة والسّياسيّة للاستخدام الكثيف لتكنولوجيا المعلومات
والاتصالات من قبل الطّبقات العربية الفتيّة. فهذه التكنولوجيات تؤيّد في
الواقع، لا سيما في مجال العلاقات بالآخر وبالسّلطة السّياسيّة والدّينيّة
والأسريّة، مواقف وتصوّرات وممارسات أكثر استقلاليّة وتفرّدا على الدّوام
تجعل اليوم بلا شكّ من استمرار الأشكال القديمة للشّرعيّة أمرا مستحيلا أو
يكاد.
وعلى غرار وضعيات تاريخية أخرى اتّسمت هي أيضا بقطيعات هامّة على صعيد
عمليات الاتّصال، وهنا نفكّر طبعا في الثّورة الفرنسيّة، وفي الطّريقة
الّتي أمكن بها "إعدادها" عن طريق المنشورات والملصقات الحائطيّة وغيرها
من صيغ عصر كان يخوض آنذاك تجربة الاستخدامات الاجتماعيّة الأولى للمطبوع،
يمكننا أن نفترض، معيدين صياغة كلام روجي شارتيي Roger Chartier، أنّ هناك
فعلا أصولا ثقافيّة رقميّة في الثّورتين (؟) التّونسيّة والمصريّة.