إن الحرية هي المحرك الأساسي للتاريخ عند هيغل، فالتاريخ البشري هو تاريخ
تطور الوعي بالحرية، أما حكم الطاغية المستبد فهو ليس سوى مرحلة ابتدائية
وبدائية ضمن مراحل ثلاث، يقول بها هيغل، وتنتهي بأن تصبح الحرية حقاً
عاماً يتمتع به كل فرد، وهذا ما حصل مع الثورة الفرنسية وتشكُّل الدولة
الحديثة.
أما مع الفيلسوف الهيغلي، الروسي الفرنسي، ألكسندر كوجيف فقد تعمقت أطروحة
هيغل عبر فكرة "الرغبة في الاعتراف بالذات" التي عدَّها كوجيف مدخلاً لفهم
حركة التاريخ وفلسفته، فبعد أن شهد العالم فيما مضى تنافساً وصراعاً بين
الأفراد الذين كان كل واحد منهم يرغب في أن يجلب لنفسه اعتراف الغير
وإعلان الحرب عليه حتى يستعبده، أخذ العالم الحديث يشهد اعتراف الجميع
بالجميع وذلك بفضل تحقق فكرة الديمقراطية وظهور مفهوم "المواطن" ذي الحقوق
والواجبات ومفهوم "المساواة" بين الأفراد على أساس الاعتراف المتبادل.
تلك الفكرة، أي رغبة الاعتراف، أصبحت موجهاً لعمل فرانسيس فوكوياما في
كتابه الشهير "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" فأصبحت نهاية التاريخ قائمة
عبر نموذج الديمقراطية الغربية التي حققت أمل الاعتراف بحقوق كل فرد
تحقيقاً مطلقاً حسب فوكوياما.
ونحن لن نتوقف عند الاعتراضات التي تعرض لها مفهوم النهاية وملحقاته
المعاصرة، بل سنقصر القول على الاستفادة من مفهوم الرغبة في الاعتراف عبر
نظرة تأويلية وأخرى تحليلية لما يشهده العالم العربي من ثورات.
تعيش الشعوب العربية إقصاءً وإذلالاً متعدّد المحاور فهي أولاً غير معترف
بها من الخارج كشعوب حيّة وحركية قادرة على التغيير، بل مستكينة وخانعة
لسلاطينها وإسلامها الماهوي القديم المتجدد، وهي ذليلة أمام التدخلات
الأجنبية التي استباحت الأرض وما عليها عبر هزائم متوالية إن كان من
إسرائيل بعدوانها ومجازرها المتتابعة وغطرستها العسكرية والسياسية
والاقتصادية وما تفرضه على العرب من أتاوات نفطية أو مواقف سياسية مهينة،
أو من أمريكا وما تركه احتلالها للعراق من إحساس عام لدى الشعوب العربية
بالتقزّم واليأس والإحباط، وما خلقه من ردَّات فعل دينية تحاول التمسك
بالماضي لتستعيد وتستشعر أناها المهزومة تاريخياً والمنبوذة حضارياً، أو
من أوروبا التي تعيش في رعبها الدائم من معاداة السامية وعقدة ذنبها
المؤبدة نحو نازيتها القديمة ومحارقها ضد مواطنيها اليهود، لتكفر عن ذنبها
بالمشاركة حيناً والسكوت حيناً آخر عما يعانيه العرب من ظلمٍ ونبذٍ وعدم
اعتراف.
الجزء الثاني من عدم الاعتراف تعيشه الشعوب العربية من أنظمتها وقادتها
التي تحمي حمى الخارج وتحتكر السلطة والثروة وتتقاسمها مع بنوك الغرب
وأنظمته السياسية، الأنظمة العربية هي من تقصي شعوبها تماماً عن كل فعل
سياسي وكل حراك مدني حرّْ أو منظم، وتترك جماهيرها في حالة من اليأس
المطلق وفقدان الأمل والثقة بالتغيير، أو القدرة على الفعل الإيجابي
الفاعل على المستويات الشخصية والاجتماعية والسياسية والوطنية، وتبقي
شعوبها تحت التهديد الدائم بفزاعات الإرهاب والأصولية الإسلامية أو
الطائفية والعنف الطائفي من الداخل، وفزاعة الإمبريالية العالمية ممثلة
بأمريكا والتهديد العسكري ممثلاً بإسرائيل فيما يخص الخارج، تلك الفزاعات
التي تملي شروطاً من نوع آخر تجعل حياة البشر مهددة وقلقة دائماً بمعنيين،
المعنى الأمني (أي قمع أجهزة الأمن) وما ينتج عنه من كبت وجداني ومعنوي،
روحي وعقلي، فلا حرية رأي بما تحتاجه من أدوات كالصحافة والإعلام،
التنظيمات السياسية أو المنظمات المدنية و"الأهلية"، ولا حرية اعتقاد بما
تحتاجه من أطر مؤسساتية مدنية مستقلة وتشريعات قانونية ودستورية، أرواح
مكبلة وعقول مخصية وأفواه مغلقة، مهددة دائماً بالاعتقال التعسفي والإهانة
المنظمة والمحاكم العسكرية والاستثنائية.
المعنى الثاني للتهديد هو المعنى الاقتصادي، فإذا كان التهديد الأول يعتقل
الروح ويكبل العقل والضمير فإن هذا النوع من التهديد يصيب الجسد ويهدد
الأمن البيولوجي وحفظ البقاء، فالشعوب العربية مفقرة بالرغم من كل ما
تملكه من ثروات، والنهب والإفقار "الممنهج" بالإضافة إلى ضعف التنمية
وانعدام التوزيع العادل للثروة يجعل البشر في حالة تهديد اقتصادي ومعاشي
دائم، وإذا كان المال هو ما يحرر حاجات الجسد فإن حرية الرأي والتعبير
العلني على اختلاف أشكاله هي ما يحرر الروح ويطلق زمام العقل والإرادة،
ومن يفصل بين هاتين الحاجتين كمن يفصل بين الروح والجسد، ولذلك كان شعار
الثورات العربية هو الخبز والحرية وهما حاجتان إنسانيتان بكل ما للكلمة من
معنى، ولم يعد من الممكن فصلهما عن بعضهما البعض.
التهديد الأمني والاقتصادي يجعل من الشعوب العربية من أكثر الشعوب شعوراً
بالخوف والقلق الوجودي ويجعل من الأمان الذي تتشدق به الأنظمة العربية
أمام شعوبها والعالم ركوداً وليس أماناً، بل هو أمان يشبه أمان المستنقعات
الراكدة، والتي ما أن تحرك سطحها حتى يظهر ما يغلي بداخلها وما يموج في
أعماقها.
ولكن … ما الذي يقف عائقاً أمام رغبة الشعوب العربية العارمة بالاعتراف،
الاعتراف بها كمجتمعات تحتاج إلى الديمقراطية وتعشق الحرية وتكره الذل
والاستبداد والاستعباد؟ إنه ذلك التحالف غير المباشر الذي تقيمه الأنظمة
مع الدول المتقدمة ومعها إسرائيل، فحاجة الغرب لدول مستقرة في تخلفها تسهل
عمليات الاستثمار والنهب الاقتصادي جعلتها تُغلِّب المصالح على المبادئ،
وجعلت منها الداعم الأساسي للديكتاتوريات التي تسهل لها شؤون النهب
وتشاركها بحصَّة ضئيلة من نتاجه مقابل بقائها الأبدي في عروشها، وهذا ما
يجعل تحدي الثورات العربية القادم هو من أصعب التحديات وأشقاها على مستوى
الثورات في التاريخ، كثورات التاريخ الأوروبي مثلاً أو الأمريكي، بحيث إن
ما يُلقى على عاتق الثورات العربية ليس فقط التخلص من حكامها وأزلامهم بل
مقاومة المقاومة الخارجية المضادة للتغيير والمصابة بفوبيا الإسلام
والإسلاموية التي كانت شريكاً أساسياً في خلق أصوليته وردَّاته الماضوية،
ولكن ما يغيب عن الغرب ومعه العديد من "الخائفين من الحرية" عندنا، هو أنه
لا مكان واسع للأصولية في المجتمعات الديمقراطية فالانحطاط هو ما يفرخ
الأصولية، والاستبداد هو حاضنها ومصدِّرها.
إن محرزات الحداثة التي صنعتها الأنوار والثورة الفرنسية ونشر بنيتها
التحتية الاقتصاد الرأسمالي ومن ثم العولمة التكنولوجية، وصلت إلينا
أخيراً بعد قرن من النهضة العربية التي بقيت على مستوى الأفكار، ولم يعد
من الممكن التخلي عن حداثتنا الجديدة وعودتنا للتاريخ بعد عصور الظلام
العربية الماضية.
وإذا كانت الرغبة الثورية هي الحال، فالعقل الديمقراطي هو المآل، وبالفعل
ليس هناك نظاماً يحاكي الرغبة بالاعتراف، اعتراف الجميع بالجميع ودون
إقصاء أحد، ويجعل من القانون سيداً للمساواة، مثل النظام الديمقراطي لا
سيما عندما يصنعه المواطنون الأحرار، والعرب، بثوراتهم، يهزمون قطيعيتهم
وعبوديتهم ليصبحوا بفعل قوة إرادتهم للحياة …مواطنين أحرارا