ولد الكسندر كوجيف (Alexandre Kojeve)، واسمه الحقيقي كوجيفينيكوف، في موسكو عام 1902 في عائلة من التجار الأغنياء (كان متقربًا من كاندينسكي)، غادر روسيا طوعًا عام 1919 بشكل نهائي، ليتابع في ألمانيا دروس الفلسفة في برلين أولاً ثم في هايدلبرغ، حيث قدم في العام 1926 تحت إشراف ياسبرز Jaspers دكتوراه في الفلسفة الدينية لسولوفييف Soloviev. وفي أواخر العام 1926 أقام في باريس، وأُدْخل إلى مدرسة الدراسات العليا Ecole des hautes Etudes بواسطة مهاجر روسي آخر، الكسندر كويريه Koyré الذي كان يدرس فيها منذ بضع سنوات "الفلسفة الدينية".
بدأ كوجيف في فرنسا دروسًا جديدة متجهة في البداية نحو الرياضيات والفيزياء، وأعد في السوربون تحت إشراف إبيل راي Abel ray دكتوراه دولة حول فكرة الحتمية في الفيزياء الكلاسيكية والفيزياء الحديثة - هذا المشروع لم يكتمل وبقي النص الذي خصصه له كوجيف غير منشور، وقد صدر مؤخرًا سنة 1990 في سلسلة كتاب الجيب. وبينما كان كويريه مسافرًا في مهمة للخارج سنة 1933، قام كوجيف بإلقاء دروسه حول "الفلسفة الدينية لهيجل"، وهذه الحلقات الدراسية التي بدأها كوجيف عرضًا استمرت ست سنوات، وخصصت لقراءة منتظمة لظواهرية الروح لهيجل وتفسيرها، وهذه الدروس لم تكن قد انتشرت قبلاً باللغة الفرنسية إلا سنة 1947 من طرف كينو Queneau. كما لم تكن معروفة إلا من قبل بعض المتخصصين القلائل.
أدهشت هذه الدروس متتبعيه الذين أصبح بعضهم من كبار مفكري فرنسا، أمثال: باتاي Bataille، كينو (ناشر وجامع دروسه)، لاكان Lacan، بروتون Breton، فيل E.Weil، ميرلوبونتي M.ponty، كوربان corban، وغيرهم. ومن بينهم جان هيبوليت Hypolite.J (مترجم الفينومونولوجيا). لقد أحدث كلام كوجيف (المقنع بالمعنى الذي وسَّعه باتاي نفسه) رعبًا حقيقيًا في تلك الأوساط المستمعة، وشكَّل نوعًا من الجاذبية والنفور في الوقت نفسه بين أولئك الذين سوف يطبعون بعمق الحياة الثقافية الفرنسية قبل وبعد الحرب العالمية الثانية؛ فباتاي ولاكان مثلاً يتوزع تفكيرهما، حسب ما ذكره بيير ماشري، على حقبات ثلاث: مع كوجيف، بعد كوجيف، وضد كوجيف. وهذه التجربة الحقيقية للفكر حسب ماشري نفسه بغناها وغموضها، توقفت نهائيًا عام 1939، وقد قام كينو بتسجيل وقائعها ونشرها عام 1947 تحت عنوان: مدخل لقراءة هيجل – دروس حول فينومونولوجيا الروح، وهي عبارة عن اختصار لمُجمل الحلقات الدراسية، وتشكِّل خليطًا مدهشًا من الملاحظات تستطيع أن تقرأ بين سطورها تفكيرًا متكسرًا ومتوزعًا ولكنه قوي وضمني، بحيث يظل عرضه متهربًا من إظهار ذاته بالقياس مع موضوعه. أما كوجيف فقد كلف بمهمة أخرى في منظمة غربي أوروبا بين العامين 1945 – 1967، وتوفي عام 1968، وبذلك أعيد ختم مرحلة ثانية أقفلت مسرحية هيجل عام 1945 من تاريخ حياة هذا الرجل الفريدة دون أن يكون لها متابعة من أي نوع كان[1].
لقد استطلع كوجيف، من خلال قراءته للفينومونولوجيا، أن يجعل من "الرغبة" مفهومًا رئيسيًا لا يعد فحسب بمثابة المفتاح لفهم هيجل، بل يعد أيضًا نواة لبلورة نظرية فلسفية حول الرغبة، وهو ما شكَّل تحفيزًا مستفزًا لمتتبعيه الذين مضوا بعيدًا في تطويرهم لهذا المفهوم دون أن يتطابقوا معه بالضرورة، كما هو الشأن بالنسبة لباتاي ولاكان اللذين سار كل منهما في اتجاه مضاد لتأويلية كوجيف وللفلسفة الهيجلية ذاتها.
اختار كوجيف أن ينطلق من الفصل الرابع لفينومونولوجيا الروح الذي يحمل عنوان: استقلالية وتبعية الوعي - بالذات: السيادة والعبودية، الذي ترجمه إلى الفرنسية ترجمة تخللها تعليقات مطولة تستهدف إبراز موضوعة الرغبة باعتبارها عنصرًا مؤسسًا للإنسان، للوعي بالذات، وبالتالي للحقيقة الإنسانية وللتاريخ الكوني.
إن الإنسان، حسب كوجيف، هو وعي بالذات، وعي بواقعته وكرامته الإنسانية... وهذا الوعي يحصل في اللحظة التي يتلفظ فيها الإنسان بكلمة "أنا". وفهم أصل الإنسان لا يتأتى إلا من خلال فهم أصل الأنا المنكشف بواسطة الكلام.
ومعنى هذا أن الرغبة تغدو هي المفتاح المركزي لفهم الإنسان بصفة عامة وفهم الفينومونولوجيا بصفة خاصة، فهي من جهة رغبة تحول الكائن المنكشف لذاته داخل المعرفة الحقة إلى موضوع ينكشف كذات تختلف عن الموضوع، ينكشف كان ما يسميه كوجيف أنا الرغبة. وهي من جهة أخرى رغبة محفزة على الفعل من خلال السلب الذي يقوم بتحويل الموضوع المرغوب فيه من أجل الإشباع. ولأجل أن يتمكن الإنسان من بلوغ الوعي بالذات يلزم أن تقوم الرغبة على موضوع لاطبيعي يتجاوز الواقعة المعطاة، والشيء الوحيد الذي يتجاوز هذا المعطى هو الرغبة ذاتها.
ولأجل أن تصير هذه الرغبة إنسانية يجب أن تتعدد الرغبات، أي أن تقوم على رغبة أخرى، أن تكون رغبة موسطة برغبة آخر قائمة على نفس الموضوع، فالحقيقة الإنسانية بما هي مختلفة عن الحقيقة الحيوانية لا تتحقق إلا من خلال الفعل الذي يرضي رغبات كهذه: ذلك لأن التاريخ الإنساني إنما هو تاريخ الرغبات المرغوبة[2].
تستهدف الرغبة تحقيق القيمة، وإذا كانت القيمة المرغوبة لدى الحيوان هي حفظ حياته، فإن الإنسان لا تتحقق قيمته إلا من خلال تعريض حياته للخطر بهدف الاعتراف، فأصل الوعي يكمن في هذا الخطر ذاته، فالإنسان يتحقق إنسانيًا بتعريض حياته للخطر من أجل أن يرضي رغبته الإنسانية، أي رغبته القائمة على رغبة أخرى، من أجل أن يعتبر كقيمة معترف بها.
والكلام عن أصل الوعي هو إذن كلام عن صراع قاتل من أجل الاعتراف، ودون هذا الصراع لن تكون هناك كائنات إنسانية على الأرض، بمعنى أن الكائن الإنساني لن يكون له وجود حقيقي إلا إذا كانت هناك رغبتان على الأقل متعاركتين بحيث تنتصر إحدى الرغبتين على الأخرى، فتتحقق من خلالها قيمة الاعتراف. لكن هذه القيمة ليست تامة، ما دام أن الكائن الإنساني الذي صار سيدًا، معترفًا به في قيمته الإنسانية، لم ينل هذا الاعتراف سوى من طرف العبد، أي من قبل شيء لم يصبح بعد قيمة إنسانية، لأن السيد لم يعترف به، وهنا يكمن مأزق السيد، والحال أن تحقيق الرغبة التامة إنما يحصل من خلال العمل والكدح الذي يحفز العبد على أن يحرِّر ذاته، وأن يحوز على الوعي بالذات، وأن يتمكن بالتالي من نيل الاعتراف الكامل، أي الاعتراف المتبادل الذي يتجلى كاستقلال وحرية تامة، فالإنسان كما يقول كوجيف في تعليقه على نص هيجل:
لا يبلغ استقلاله الحق وحريته الأصيلة إلا بعد اجتيازه للعبودية، واجتيازه لقلق الموت بالعمل المنجز لصالح الآخر الذي يجسد بالنسبة له هذا القلق، والعمل المحرر هو إذن بالضرورة عمل إجباري للعبد الذي يخدم سيدًا جبارًا مستحوذًا على كل سلطة واقعية.
وهذا العمل هو فعالية للسلبية للإبطال الديالكتيكي الثوري للعالم، وحده العبد هو من يستطيع أن يتعالى بالعالم المعطى المسخر للسيد، وهو من يستطيع أن يحول العالم الذي رسخ وجوده في العبودية، وأن يخلق عالمًا يشكله بذاته حيث سيغدو حرًا، هكذا فإن
العمل العبودي في نهاية التقدير يحقق ليس إرادة السيد وإنما تلك الإرادة اللاواعية للعبد، الذي يفوز أخيرًا، وهذا العمل أيضًا هو الذي يحقق في نهاية الأمر فكرة الوعي بالذات–المستقل التي تعبر عن حقيقته[3].
معنى ذلك أنه إذا كانت الرغبة هي أساس صراع الإنسان ضد آخره الإنساني، من أجل اعتراف ناقص يكون هو البداية الحقة للتاريخ، فإن هذا الصراع ذاته سيغدو صراعًا بين السيد والعبد من أجل الاعتراف المتبادل والتام الذي سيقفل هذا الصراع ويعلن نهاية التاريخ. إن
التاريخ يجب أن يكون دائريًا، كما يجب أن يتوقف، وفي لحظة توقفه هذه تستطيع الفلسفة الحقة أن تتحقق، والنتيجة تعذر توقع المستقبل وأيضًا استحالة العود الأبدي... إن مراحل التاريخ تغدو أوهامًا في اللحظة التي تتأسس فيها الفلسفة الحقة، والحاصل أن ما هو حق وحر... هو الروح المطلق، وليس هو إنسان التاريخ، ولكن هذا الروح ليس سوى كلية التاريخ المكتملة[4].
لقد مضى كوجيف بعيدًا في بلورة مفهوم للنهاية بمعناها الأنثربولوجي الذي يكشف تحقق الرغبة واكتمالها أو تجليها كروح مطلق بلغ كلية الحضور، وهو ما يعني موت الإنسان أي موت الرغبة، ونهاية الزمان. فعند هذا الموت وهذه النهاية يحايث الروح الواقع ويظهر متجليًا كمطلق، لأن هذه الروح الأبدية Esprit-Eternité هي نتيجة الزمان والتاريخ، فهي الإنسان ميتًا وليس الإله منبعثًا، ولهذا فإن حقيقة الروح الأبدي المطلق ليست متعالية، بقدر ما غدت كتابًا خطه إنسان حي في العالم الطبيعي، وهذا الإنسان الحي قد غدا بدوره ميتًا بعد أن استنفد غاياته، وأشبع كل رغباته، وأصبح من غير مستقبل ينشده، ما دامت قد تحققت ذاته في لحظة الأبدية التي انتفت فيها خاصيته الزمانية القائمة على السلبية التي كانت في التاريخ (الماضي/المنتهي) مصدر إبداع خلاق بواسطة الصراع، الذي بلغ ذروته النهائية بتحقيق الاعتراف الكوني الذي يضمن القيمة المطلقة للدولة الكونية الشاملة والمنسجمة[5].
إن هذا التماهي بين الروح والواقع الفعلي، هو إيذان بما بعد التاريخ حيث يختفي الصراع عن الوجود، وباختفائه تكون الأبدية قد حسمت نهائيًا مع الكائن الإنساني الذي هو مواطن الدولة المكتملة التي صارت بدون تاريخ، فالمستقبل غدا ماضيًا ثم حصوله سابقًا، أما الحياة فقد أضحت بيولوجية حقًا، وليس هناك إذن إنسان، لأن الإنسان كروح قد آوى بعد النهاية الحاسمة إلى الكتاب، وهذا الأخير ليس سوى الأبدية[6].
لقد كان كوجيف حسب بيارماشري "مبادرًا بأكثر من معنى لهذه العبارة، وبإمكاننا أن نقول أيضًا إنه كان وسيطًا أو محاميًا لامعًا، فوجود هذا المهاجر الروسي كان ضروريًا لكي يدور حول موضوع ظواهرية الروح نقاش علني حامي الوطيس قبل أن تقرأ في نصوصها الأصلية..."[7]. ويمكننا اعتمادًا على هذا الرأي اعتبار التأويل الكوجيفي لحظة استثنائية شكلت بداية حقيقية لتفلسف رصين يكتسب راهنيته ليس فقط فيما يثيره من حين إلى آخر وإلى حدود اليوم من نقاشات ولكن بالأساس في تغذيته لتوجهات فلسفية جديدة تستعيد هيجل الكوجيفي ثانية، من أجل المضي بعيدًا عن هيجل وضده كما هو حال باطاي، كينو، بروتون، لاكان، بلانشو، ميرلوبونتي، أو من أجل التطابق مع هيجل–كوجيف والاستعانة بالفينومونولوجيا بهدف تفسير الراهن التاريخي والتحولات السياسية للنظام العالمي الجديد كما هو الشأن عند فوكوياما.
أما الاتجاه الأول فيتشكل من الجيل الذي عاصر كوجيف واندهش من تأويلاته الصادمة والغريبة أثناء تتبعه للدروس التي ألقاها كوجيف خلفًا لالكسندر كويريه، لكن هذا الاتجاه قد اختار، تحت تأثير خطاب كوجيف ذاته، أن يؤسس خطابًا مغايرًا يؤسس لفكر مضاد لميتافزيقا الاكتمال والنهاية، لكنه يبقى على المسافة التي تقربه من موضوعاته، بما في ذلك موضوعة الرغبة التي استعادها باطاي ولاكان وميرلوبونتي وغيرهم.
لقد بدأ باطاي Bataille التفكير في بعض القضايا القريبة من انشغالات كوجيف حينما نشر سنة 1932 رفقة رايموند كينو Queneau في النقد الاجتماعي la critique sociale مقالاً حول هيجل، ركزا فيه على "جدل السيد والعبد"، وعلى "الصراع من أجل الاعتراف"، وشكلت دروس كوجيف فيما بعد هاجسًا فلسفيًا حفَّز باطاي على الانقلاب على هيجل، وقد أجرى باطاي طيلة حياته لقاءات فكرية مكثفة مع كوجيف تصب في اتجاه مضاد، وهو ما أثاره، في إحدى رسائله الموجهة لكوجيف عقب تدخل هذا الأخير في إحدى ندوات «كوليج السوسيولوجيا»، من اعتراضات تتعلق بمصير المثقف بعد نهاية التاريخ[8].
فأن يكون المرء ضد الهيجلية يعني أولاً، بالنسبة لباطاي، إعادة بناء خطاب الواقع المعتبر في كينونته الخام والضاغطة بشكل نهائي... ومن أجل تلافي البناء الهيجلي ونظامه الرائع والكامل في التحويل "لا بد للاعتراض المادي أن يعثر على ركائز فريدة ويقوم ببناء منطق جديد إذ يقوم باطاي بانتزاع هيجل عن قاعدته الميتافزيقية ومن ثم بربطه بالقواعد الغنوصية التي تطرح الانقسام الأساسي للكينونة، ويعيد تقييم الديالكتيكية الهيجلية، ويعطينا إياها بحالتها المعطلة، لحركة حقيقية «للمادة الدونية»"[9]. لقد ذهب باطاي أبعد من ذلك حينما أجبر هيجل على أن يفكر ضد نفسه، فهيجل بالنسبة له فتح الطريق الذي عمل مباشرة على إغلاقه، وهكذا فإن السلبي الذي يطبع التاريخ أبعد من أن ينتهي إلى شمولية مقفلة وساكنة أو إلى أبدية من دون مستقبل.
فهل يجب القول إن هذا السلبي لن يعود للظهور في نهاية التاريخ، أو لحظة الحكمة الكوجيفية التي تزول فيها الرغبة ويتحقق الإشباع التام؟ وهل نستطيع أن نتحدث فعلاً عن الزوال حينما لا يصير الفعل منفتحًا على السلبي؟
ليس هناك إذن غير "مفهوم السلبية المعطلة" وما يتضمنه من تجربة مضاعفة، فهي تجربة معيشة من جهة، تكشف "أنا إنسان السلبية المعطلة". يقول باطاي: "أتصور أن حياتي أو إجهاضها، وأفضل من ذلك أيضًا الجرح المفتوح الذي هو حياتي – لوحدها تشكل دحضًا لنظام هيجل المقفل، ومن جهة أخرى فهذه التجربة باطنية بالمعنى الذي يختبر فيه المرء نفسه كفرد منقسم يخترقه من جانب إلى آخر حدٌّ لا يمكن تجاوزه بدقة لأنه لا يوجد شيء خارجه، ولأنه كينونة الفرد"، وهذا هو موضوع كتابه الذي نشره باطاي عام 1942، والذي يحمل عنوان التجربة الباطنية، والذي يجعل فيه كيركجارد ونيتشه معارضين لهيجل كما يحدد فيه فكرة السيادة بوصفها طريقة لوجود الإنسان بعد نهاية التاريخ، هذا الإنسان يظل مسكونًا بالرغبة، لكنها رغبة خارج كل مشروع، فالإنسان سينهمك في أنشطة يغدو فيها التواصل المستحيل مع الآخر مؤسسًا في اللحظة، ويمكنه أن يبلغ من خلالها إلى النشوة القصوى.
إن غياب الآلهة يقود، فيما يؤكده باطاي، إلى استحالة الرغبة، مادام أن هذا الآخر المطلق في لاموجوديته "لا يجيب قط عن الرغبة التي بالإمكان حصولها بالتحرر من رغباتها"، غير أن الإنسان من دون إله يمكنه على الأقل أن يعرف تجارب خفية (صوفية)[10]. فموت الآلهة يرسم الفضاء الذي سيبقى ثابتًا لتجربتنا، فقد تكون ساعة موت الله هي ساعة الصوفي الجديد الذي لا يقدم له ما يسميه هيجل التمزق المطلق أي مخرج، إنه الصوفي الملحد الواعي لأجل ذاته والواعي بأنه يجب أن يموت ويزول[11].
ألسنا حسب تساؤل موريس بلانشو نخضع للجاذبية التي تحتفظ بها لفظة صوفي؟ وعندما يحدثوننا عن نشوة انخطافية ألا تتأتى حركة الاهتمام التي تفاجئنا من الإرث الديني الذي لا نزال مؤتمنين عليه؟ لقد استفاد الصوفيون دائمًا من وضع خاص في الكنائس وحتى خارجها، إنهم يشوشون الراحة العقدية (الدغماتية)، إنهم مقلقون، أحيانًا غرباء، وأحيانًا فاضحون، لكنهم منفصلون على حدة... لأنهم المشاركون والمتعاونون في الفعل الأخير: توحيد الكينونة، دمج الأرض والسماء[12].
إن المسألة التي تبرزها التجربة–الحد حاليًا هي التالية: كيف يمكن بعد تجاوز المطلق (على هيئة الكلية)، كيف يسع الإنسان الواصل بعمله إلى القمة، وهو الكوني والأزلي، المنجزة ذاته باستمرار والناجز باستمرار، والمتكرر في خطاب لا يفتأ يتكلم على نفسه بلا نهاية، كيف لا يسعه ألا يكتفي بهذه الكفاية، وأن يطرح نفسه للبحث كما هو؟ في الحقيقة فهو لا يسعه ذلك، ومع ذلك فإن التجربة الداخلية تقتضي هذا الحدث الذي لا يتعلق بالإمكانية، إنها تفتح في الكائن فجوة صغيرة تتسرب منها وتفيض زيادة تطغى على ما هو كائن وتركد، فائض غريب. فما هو هذا الفائض الذي يبقي الإنجاز أيضًا ودائمًا غير منجز؟ من أين تأتي حركة الإفاضة هذه التي تقاس بالقدرة التي تستطيع كل شيء؟ ما هي تلك "الإمكانية" التي تتاح بعد تحقق كل الإمكانيات وكأنها اللحظة القادرة على قلبها جميعًا أو على سحبها بصمت؟ عندما يجيب جورج باطاي على هذه الأسئلة متكلمًا على المستحيل – إحدى آخر الكلمات التي نشرها – لابد من الإصغاء إليه بدقة، لابد من الاستماع بأن الإمكانية ليست البعد الوحيد لوجودنا، وأنه قد يكون متاحًا لنا أن نعيش كل حدث يخصنا بطريقة مزدوجة، مرة نعيشه كشيء نفهمه، ندركه، نتحمله ونسيطر عليه برهة بخبر ما، بقيمة ما، أي في النهاية بالوحدة، ومرة أخرى نعيشه كشيء يضفى على كل استعمال وغاية، بل شيء يفلت من قدرتنا على تجربته لكننا لا نستطيع أن نفلت من تجربته، أجل كما لو أن الاستحالة تلك التي فيها لا يعود بإمكاننا أن نتمكن كانت تنتظرنا وراء كل ما نعيشه ونفكر فيه ونقوله، إذا بلغنا ذات مرة أقصى هذا الانتظار، دون أن نخل قط بما فرضه هذا الفائض وهذه الزيادة، فائض الفراغ وزيادة السلبية الذي هو فينا الصميم اللامحدود لشغف الفكر[13].
إن التجربة الداخلية هي الطريقة التي يتوكد بها الإنكار الجذري الذي لا يعود له ما ينكره، إنها تأكيد مصمم للسلبية كسلبية منقطعة عن وعودها وتحقيقاتها، ذلك هو فحوى القلب الجذري الذي قام به باطاي داخل النسق الهيجلي، وهو ما يجعل منه فيلسوفًا عنيدًا يقظ مضجع لحظة الأبدية المكتملة، أي لحظة كوجيف المنكشفة لذاتها كإبطال للسلبية وللرغبة التي غدت مطابقة لذاتها في الإشباع المطلق.
من المعاصرين لكوجيف كذلك، نجد لاكان الذي لم يسلم من تأثيره البالغ خاصة فيما يتعلق ببنائه لنسقه التحليلي، فعلى الرغم من مقاومة كوجيف للاوعي، فإن تحليله لهيجل قاد لاكان إلى قراءة فلسفية لفرويد، فجدل السيد والعبد يحضر منذ 1933 في جدول التأويل اللاكاني لجريمة الأخوات Sœurs papin. وفي سنة 1936 حينما أراد لاكان أن يهيء تدخله حول "مرحلة المرآة" فإنه صمم على أن يكتب مع كوجيف دراسة حول هيجل وفرويد: بحث في مواجهة تأويلية؛ ففي المسودات التي تركها كوجيف لهذا العمل المشترك الذي لم ينشر قط نجد ثلاثة مفاهيم رئيسية حسب إليزابيث رودينسكو[14] وهي مفاهيم استخدمها لاكان منذ 1938 وهي: الأنا le je بوصفها ذات الرغبة، الرغبة بوصفها انكشافًا لحقيقة الكائن، والأنا le moi بوصفها موضعًا للوهم، ومصدرًا للخطأ.
إن "الأنا" هي صورة، أو بالأحرى تجمعًا للصور يتم تأسيسها داخل العلاقة مع الآخر، وبالأحرى بالعلاقة مع الموضوعات الغريزية، التي من خلالها يتصل الطفل بالعالم الخارجي، إنها ليست إلحاحًا مؤسسًا للحياة الغرائزية، وليست هدفًا يجب أن يستهدفه العلاج، هذه الشيمة تشكل محركًا للبناء اللاكاني، مهما كانت التعقيدات التي تنتج عنه بالتالي.
ولأن هذه الأنا بالتحديد ليست معطاة، ولكنها تتأسس داخل هذه العلاقة بالموضوع أو بالآخر، فإنها يجب أن تكون منسوبة "للرغبة" التي تجعل هذه البنية منشغلة، ولأن الموضوع ليس معطى، بل إنه حقل لانشغال الرغبة، فإنه يجب أن يفرغ من جوهره من أجل أن يؤوب إلى وضعيته البسيطة المبنينة. فالطفل يحتاج إلى الأكل، غير أن ما يرغب فيه ليس هو لبن أمه بقدر ما هو حنانها، إن الموضوع طعم تتعرض فيه الرغبة دائمًا للقمع لمجرد الحاجة. فالطفل الذي نغذيه دون عناية له بالتأكيد ما يحتاجه، ولكن ليس له ما يرغب فيه، ويمكن لأي شخص أن يعاين الأخطار المحدقة بهذا النموذج الملتبس. لقد اهتم لاكان بعد ذلك بالدور القائم في هذا البناء من خلال "الطلب" ومن خلال المحظور (الذي يحدده كاسم للأب Nom du père والذي يعتبره أيضًا رفضًا للأب Non du père رمز المحظور البدائي الأوديبي). إذًا، تتركب في "المتخيل" طبقة النظام "الرمزي"، وأن الحياة النفسية الإنسانية مبنينة كلها بالميدان الرمزي، أي من خلال نظام الرموز المبنين بإتقان والذي يؤسس المجتمع والتاريخ أولاً ثم الفرد الإنساني لاحقًا، فهذا الفرد محاصر ومؤسس بالرابطة الرمزية chaine symbolique والذات هي لحظة هذه الرابطة.
وإذا كانت معرفة اللاوعي لا تتم إلا من خلال اللغة، فإن وجود اللغة مشروط بوجود الذات، إن "الذات هناك حيث الهو يفكر، هناك حيث الهو يتألم"، دون أن تستطيع مع ذلك أن تقول "أنا موجود"، إن الذات باتجاه اللاوعي، فهي مثله يتعذر بلوغها، وهي مثله لا يمكن معرفتها سوى من خلال لغتها، ليس من خلال كلامها، وإنما من خلال خطابها، وخطاب اللاوعي هو بالذات ما يعبر عن بحث المستحيل عبر الأعراض والأحلام والتصرفات، ولهذا يؤكد لاكان على أن "التحليل النفسي هو علم المستحيل، إنه البحث اللامتناهي للكائن بواسطة الرغبة"[15].
للرغبة عند لاكان أساس فلسفي يتمثل في الفينومونولوجيا الهيجلية سواء من خلال هيبوليت أو كوجيف على الأخص، فمن خلال جدل السيد والعبد الذي ركز لاكان اهتمامه عليه يعرض الوعي الذي يغدو أو ينتقل إلى وعي بالذات، ومن خلال صراع العبد والسيد، باعتبارهما صراعًا لوعيين متعاركين، من أجل أن يغدو أحدهما معترفًا به من طرف الوعي المهزوم دون أن يعترف الوعي المنتصر به، وعن هذا الصراع ينشأ الوعي بالذات وهو وعي السيد الذي خاطر بحياته، لكن السيد يظل مسكونًا بوعي مزيف، في حين أن العبد الذي يعيش داخل القلق/الرعب والخوف من السيد يظل باحثًا عن وعي بالذات من خلال العمل، وبالتالي سيعمل على تحويل العالم بطريقة تنفي وجود السيد، وهذا الجدل يعبر عنه لاكان ويحدده داخل الرغبة، فهو يعبر عنه بطريقة هيجلية في نفس الوقت الذي يحيل فيه إلى فرويد، وبنفس الطريقة التي سلكها كوجيف يقول: "إن الرغبة الإنسانية يكمن معناها داخل رغبة الآخر"[16]، أو أنها الرغبة في رغبة الآخر، أو الرغبة المحمولة على رغبة أخرى كما يصفها كوجيف. يؤكد لاكان بدوره على هذه الحالة الملتبسة: يتعلق الأمر بالرغبة التي تتشكل في ذاتي عن الآخر، وأيضًا بالرغبة التي يرغب من خلالها الآخر في ذاتي. فرغبتي تريد الآخر، ولكنها تريد أيضًا أن يرغب الآخر فيها ويحبها، ولهذا كانت الرغبة بماهيتها مغتربة إنها خاضعة للآخر أكثر من خضوعها للذات عينها، فالرغبة لاواعية كما هو شأن اللغة التي هي خطاب الآخر.
إن الآخر الرمزي أو المتخيل يبين خطاب الذات كله، فلاوعيه كله هو رغبته. إن الآخر بوصفه نسقًا للرموز الاجتماعية، أو بوصفه لازمة لطلب الرغبة هو الذي يتكلم داخل الذات وليس الأنا[17]. إنه جدل من دون نهاية، فالرغبة في أن يكون المرء معترفًا به من طرف الآخر تفرض شرطها، يعني أنها تفرض نظام اللغة: إنها أمام طريق مستعص: "التحدي الجذري للكلام" يؤكد لاكان بطريقة حاسمة أنه "إذا كانت الرغبة في الواقع داخل الذات هي الشرط المفروض من خلال وجود خطاب يمرر حاجته من خلال استعراض المدلول، وإذا كان من جهة أخرى يجب تأسيس مفهوم الآخر بحرف كبير A بوصفه موضع انتشار الكلام، فإنه من الواجب التأكيد على أن رغبة الإنسان هي رغبة الآخر"[18]. وهي ذاتها الصيغة التي يؤكدها كوجيف في معرض تعليقه على الفصل الرابع للفينومونولوجيا. غير أن لاكان يموقع الرغبة في اللاوعي، بينما يضعها كوجيف كأساس لتحقق الوعي، والوعي بالذات، وكأساس محرك للتاريخ أيضًا، لكن الرغبة بالنسبة للاكان تظل مفتوحة لا تطابق المطلق، أو الإقفال التام للرغبة التي تبلغ درجة الإشباع الكامل كما هو الأمر عند كوجيف. ذلك أن الدخول إلى النظام الرمزي يعبر إذن عن الاعتراف بواقعه كون الرغبة هي بالأساس فقدان/نقص أو أنها فقدان جوهري. وهذا الفقدان هو الذي يطبع الإنسانية باعتباره أساس قلق الموت والعدم، وأصلاً للعنف. إن الغربة تظل قائمة دومًا حتى بعد إشباع الحاجة وهي تتجاوز دائمًا أي توسل خاص، أي توسل للحب، فهي في ذات الآن غير قابلة للتقويض، وغير قابلة للإشباع. في الواقع فإن الرغبة هي نتيجة عدم نضج الفرد الإنساني عند ولادته، فهو يتخيل ذاته فانيًا، ويجتاحه قلق فقدان الوجود، ومن تم فهو ينادي ويستدعي الآخر من أجل إرضاء فقدان وجوده، وهذا الفقدان الذي يقاسيه من خلال غياب الأم، ومن خلال الترميز يجعل موضوع الرغبة مفقودًا دائمًا.
إذن ففي قلق الفقدان ينبعث استدعاء الآخر. ولكن هذا الآخر لا يمكنه أن يمنع ما يفتقده بدوره. وهذا الفقدان هو الذي يؤسس الوجود الإنساني بوصفه رغبة، إنه يعبر عن تساؤل الإنسان حول الوجود الإنساني الذي تحدث عنه هيدغر، فهذه الدلالة الفلسفية والسلبية للرغبة ليست إذن مصاغة بخطاب واضح جلي [كما هو الشأن لدى كوجيف]، فمن خلال الخطاب الرمزي لليبيدو الوحيد، يتم التعبير عن علاقة الإنسان بفقدانه الجوهري، أي علاقة الإنسان بموته[19]. إن اللاكانية هي تأويل جديد يقوم على توليد المفاهيم انطلاقًا من التقابل المرآوي الذي يمنح للمفهوم قوة مضاعفة، لأنها تصير المفهوم المطلق مغتربًا عن هويته، منقلبًا على جوهره، مفهومًا مسكونًا بالقلب التأويلي.
لم يخفت تأثير كوجيف على الفكر الإنساني، فبعد غيابه انبعث مجددًا في أمريكا من خلال فرانسيس فوكوياما المتحمس "لنهاية التاريخ"، الذي جعل كوجيف-هيجل يعود ثانية إلى مسرح الوجود الحالي. إن اكتشاف الفكر الأصلي لهيجل بالنسبة لفوكوياما هدف مهم، ولكن الذي يهمه هنا ليس هيجل من أجل هيجل، بل "هيجل كما يفسره كوجيف، وقد يكون فيلسوفًا تركيبيًا جديدًا يدعى هيجل-كوجيف".
يعتبر فوكوياما أن فشل التفسير الاقتصادي للتاريخ يعيدنا إلى هيجل وليس إلى ماركس لأن هيجل يتناول العملية التاريخية بشكل غير اقتصادي تمامًا، فكما فسَّر ذلك الكسندر كوجيف يمنحنا هيجل فرصة لإعادة التفكير بالديمقراطية الليبرالية الحديثة بتعابير مختلفة عن التعابير المعتادة في الوسط الانجلوساكسوني المنبثق عن هوبز ولوك... إن هيجل على خلاف هذين الأخيرين يعطينا مفهومًا للمجتمع الليبرالي مرتكزًا على الجانب غير الأناني في الشخصية الإنسانية، وهو يحاول إبقاء هذا الجانب كنواة للمشروع السياسي الحديث. في نهاية المطاف يبدو لهذا المفهوم الهيجلي بالنسبة لفوكوياما، تفسيرًا أكثر دقة لما يعانيه الناس في العالم المعاصر عندما يريدون الحرية والديمقراطية.
كما يرى فوكوياما بأن المجتمع الليبرالي الذي يظهر في نهاية التاريخ هو ترتيب متقابل ومتساوٍ بين المواطنين من أجل الاعتراف المتبادل، فالليبرالية الهيجلية تتابع الاعتراف العقلاني، أي الاعتراف على قاعدة شمولية تصبح فيها كرامة كل شخص ككائن بشري حر ومستقل معترفًا بها من قبل الجميع. إن ما هو هام وأكثر إرضاء في النهاية هو أن الديمقراطية الليبرالية تقدم لنا الاعتراف بكرامتنا البشرية، فالدولة الديمقراطية الليبرالية تحترمنا وفق إحساسنا الخاص بالكفاءة التي نعزوها لأنفسنا، وهكذا فإن الأجزاء الراغبة والتيموسية في نفسنا تغدو راضية في الوقت ذاته[20]. (لحظة الإشباع التام والمطلق للدولة الكونية لدى كوجيف).
لعل في استعادة فوكوياما لهيجل-كوجيف في العقد الأخير من القرن الماضي انبعاثًا مجددًا للسؤال الفلسفي في قلب التحولات المعاصرة، فرغم الانتقادات التي تعرض لها تصوره، ورغم التعديلات التي أدخلها على مقاله الأول، فإن لحظة فوكوياما هي لحظة عودة الفينومونولوجيا من جديد، وهذا ما دفع عددًا كبيرًا من الفلاسفة المعاصرين ينهمكون ثانية على قراءة مجددة للتراث الفلسفي الهيجلي المعاصر.
إذا كانت مختلف التأويلات التي قدمها كوجيف تصب حول اكتمال الرغبة ونهاية التاريخ، فإنه يمكن لنا بدورنا أن نأول هذا الاكتمال وهذه النهاية باعتبارها توكيدًا للحاضر ذاته، مادام أن الصراع من أجل الاعتراف بالكائن الإنساني توقف عند نهاية الإنسان موته الذي لا يعني سوى انبعاثه كجسد سيغدو هوهذا الحاضر ذاته، فالجسد الآن – بالرغم من تصاعد الإيديولوجيات اليائسة التي تحاول مجددًا النيل من الكينونة الجسدية – غدا هو شكل هذا الحاضر الذي ينبعث داخله كعلة تأسيسية لا تطابق الوجود أو المعرفة كاكتمال وإنما تطابق الزمان بما هو حمل لجسد الموجود على الانفصال أي على الحاضر كتحقق عيني، فالجسد لا يتحقق على نحو التشميل بقدر ما يتحقق على نحو الإفلات، بما هو تجاوز للميتافيزيقا الأنطولوجية والتيلوجية التي ما تفتأ تمارس احتواء الجسد وإرجاعه إلى حالة الخضوع للوجود، أو لتلك المعرفة التي تبخس خاصيته الجسدية، وتفرض عليه نوعًا من الطاعة الإجبارية التي تجد تبريراتها في قواعد الأخلاق الارتكاسية.
إن الجسد كحاضر لا يتحقق إلا في التخلص من الاحتواء التشميلي، فانبثاقه كبرانية يتأسس على مبدإ إيطيقي محايث، يصيره موجودًا داخل الحاضر، بما هو فن ابتكار الغيرية كموجودية تستدعي زمانيتها الخاصة في أفق العلاقة مع الغير، ولن تغدو الزمانية الخاصة تملكًا ولا احتيازًا وإنما اقتراب. إن الاقتراب هو الطريقة التي تجعل من الجسد منفتحًا على التجربة الإنسانية، أي طريقة ابتكارية للخروج ثانية نحو الآخر، فحيثما هناك آخر فإن ثمة حاضرًا للرغبة، لرغبة لا يحركها التملك، وإنما رغبة العيش معًا داخل التجاذب والانفصال معًا، أي داخل الإمكانية التي تعيد للاختلاف جوهره، في تأسيس قاعدة للوجود البيجسداني الذي لا ينجذب للصراع المبيد الذي بلغ نهايته، وإنما للكمال الجسدي، أي لاكتشاف ما يستطيعه الحاضر داخل هذا الجسد ذاته.
ألا يصير الجسد الإنساني إذن في انكشافه كغيرية تتأسس عليها المسؤولية عبر مبدإ ايطيقي محايث يحرره من أية نزعة مهيمنة، هو ذاته النهاية؟[21]. أليست النهاية في آخر المطاف هي انكشاف الجسد بذاته ولذاته في نهاية الزمان حيث يغدو الحاضر عينه هو موطن الإنسان الأخير وملاذه؟ أليست الرغبة المشبعة على نحو تام هي تأجيج لرغبات الجسد المنشغل بذاته على نحو يصير فيه غاية في حد ذاته، منشغلاً بكماله وبمتعته وسعادته؟ أليست الرغبة هي الرغبة في الآخر الذي ليس شيئًا آخر في نهاية الزمان سوى الجسد عينه؟
في النهاية تظل قراءة كوجيف لهيجل قراءة مؤسسة لخطاب جديد حول الرغبة، والكائن الإنساني والوجود، وحول التاريخ، فلا تتجلى أهمية هذه القراءة في الطريقة الأمينة التي يتم من خلالها شرح فينومونولوجيا هيجل، ولكن من خلال الخيانة التأويلية التي تمنح للمفهوم روحًا جديدة، قد تكون مغايرة أحيانًا لروحه الأصلية. ولا تتوخى قراءتنا هذه التعرف على فكر كوجيف فقط، بقدر ما تتوخى فهم الكيفية الصادمة التي من خلالها يأول كوجيف هيجل، هذه الكيفية التي استوعبها معاصرو كوجيف من المفكرين، فمارسوها بشكل يقيهم دائمًا من التطابق، ويجعلهم أكثر فهمًا للعبة التفلسف التي لا تتم إلا من خلال القلب، وليس من خلال الحفظ والصون