حين
تخرج الشعوب لتطالب بحقوقها المهدورة طيلة عقود، كردّ فعل على الاستباحة
والتهميش الذي طالها، عليها في لحظة تمكُنها أو "انتصارها"، أن تتجاوز ردّ
الفعل وألا تذهب عميقاً في إلغاء خصومها، مكتفيةً بمحاسبة رموز الإجرام
والفساد، بشفافية قانونية تكفل استقلال القضاء ونزاهته، مراعيةً في ذات
الوقت حساسية المرحلة بعيداً عن ثقافة الانتقام، مقدمةً مصالح الوطن
والمجتمع على مصالحها المحقة، وذلك كي لا تكرس منطق المعاملة بالمثل ولو
كانت على "حقّ"، إذ هنا يكمن الانتصار الحقيقي - لا الوهمي – الذي من شأنه
أن ينتج ثقافة أبعد ما تكون عن الثأر، فاتحةً الباب على المسامحة في الفكر
قبل السياسة، لتكون المشاركة المسئولة هي الأرضية التي يبنى عليها تحصين
الوطن، بعيداً عن ثقافة "العنف الثوري والجهادي" الذي يُدخل المجتمع في
بوابة النبذ والنبذ المتبادل. عندها فقط يتم تجاوز الخوف من النكوص، وعودة
ما يسمى بالقوى المضادة للثورة. على اعتبار أن أيّ حراك وطني يدخله راكبو
الموجات، من انتهازيين ومغالين، قد ينحون بالحراك إلى غير مكانه، خدمةً
لمصالحهم الفئوية الضيقة وإرضاءً عند البعض لحقدٍ دفين.
ولنا
أن نقارن بين ما حدث في العراق بقانون "اجتثاث البعث" ويحدث في دول عربية
وإسلامية أخرى، وبين ما حدث في جنوب إفريقيا، حين رفض نلسون مانديلا –
والذي لا يمكن لأحد المزايدة عليه في وطنيته - الانتقام من خصومه
المحتلين، طاوياً صفحة من تاريخ العنف الذي كان يمارسه نظام الفصل العنصري
"الأبارتهايد"، لتنتصر جنوب إفريقيا على الكراهية، مبتدئةً صفحةً جديدة
تقوم على المشاركة وقبول الآخر، تأسيساً على انتصار حقيقي يقود الدولة
والمجتمع إلى مستقبل أفضل يمتص فيه دوامة العنف. فأين العراق والعرب من
هذا كله! وهل من وقفة حكيمة تخرجنا من هذا الجنون الذي يأخذنا إلى صوملة
عالمنا العربي، وبمباركة من بعض القوى الخارجية التي لا تتحرك إلا على ضوء
مصالحها الاقتصادية والأمنية؟
هنا يكمن
الرهان الحقيقي، في خلق قطيعة سياسية ثقافية مع الماضي، ذات مكوّن وطني
وإنساني، تتبنى تطلعات التغيير وتحصنها من أي اختراق أو انزلاق يمكن أن
تفرضها الأوضاع الدامية، التي تدفع بها الأنظمة ومن خلفها القوى والحركات
الراديكالية، مستغلةً حالة التجييش الذي يعتري الشارع العربي، في حراكه
الذي طال انتظاره.
إن ما يجري الآن في العالم العربي،
يتطلب في جانب آخر منه، قيام "الأقليات" بالخروج من أطرها الضيقة وخطابها
الفئوي، كي تدشن عصراً جديداً ينقلها من "أنا" الجماعة إلى "أنا"
المواطنة، فتطالب برفع الظلم والغبن عن الآخرين لدى الأكثرية كما تطالب به
لذاتها. هذه الحالة المتقدمة من الوعي الحضاري تفرض على بعض المتشددين في
الأكثرية فهماً أعمق لمشكلة الأقليات، يخرجها هي الأخرى من الرؤية
الجامدة، المشبعة بوهم التفوّق والاستعلاء النصي والإيديولوجي. والذي يقف
حاجزاً أمام أي تشارك حقيقي يحول دون إنتاج هوية حداثية تقوم على أنقاض
الهويات المتساكنة والمتطاحنة كل حين. وهو ما يسحب البساط من تحت العائلات
الحاكمة وينقلها من خانة الحاكم إلى خانة المتهم. ليصبح بعدها الحاكم
حكماً، لا طرفاً يعيد إنتاج الانقسام في المجتمع والدولة، فقط ليحافظ على
إدامة تسلطه، وهي مسؤولية منوطة بكافة النخب السياسية والثقافية كما
الدينية للولوج إلى الدولة المدنية.
فهذه
المرحلة كمخاض استثنائي، تتطلب من القوى السياسية إعادة النظر في مسمياتها
بحيث تتماشى مع شعاراتها، كي لا يُفهم أن الشعارات راهنة والمسميات دائمة،
وهو ما يخالف حركة الزمن باعتبارها دفع إلى الأمام، بحيث تتماشى مع التحول
الذي تمر به مجتمعاتنا العربية، وإلا فنحن ماضون إلى العدم. فالحديث عن
الدولة المدنية كمنجز حضاري ومطلب إنساني، يجب أن يترافق مع تغيير حقيقي
في كثير من القيم السياسية، ليكون البناء في أدبياتها وبرامجها مبني على
قواعد احترام حقوق الإنسان وحرية التعبير والعدالة الاجتماعية
والإقتصادية. على ضوء هذا يمكن القول، إن العمل السياسي من حيث أنه عمل
وطني جامع، يحترم كل مكونات المجتمع، يُلزم القوى السياسية بطرح نفسها
بعيداً عن المسميات ذات النزعة الأصولية، كالقومية والدينية التي تكرس
الانقسام المجتمعي وتفرّق بين البشر، نظراً لتماهيها مع مطلق يأبى الواقع
قبولها إلا كنسبية متغيرة، فالمطلق حلم في السماء، أما الأرض فيجب أن تتسع
للجميع دون استثناء . وما لم ينتصر الفرد والجماعات لفكرة احترام الإنسان،
بغض النظر عن اللون أو الجنس أو المعتقد، فلن يكون بالمستطاع الانتصار
للوطن والإنسانية أجمع.