فدوى فريق العمـــــل *****
التوقيع :
عدد الرسائل : 1539
الموقع : رئيسة ومنسقة القسم الانكليزي تاريخ التسجيل : 07/12/2010 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 7
| | حوار الحضارات: بين توتر الذات وصمم الآخر ثمة محاولات للعقلنة | |
حوار الحضارات: بين توتر الذات وصمم الآخر ثمة محاولات للعقلنة أ.د. أكرم حجازي (*) منذ ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر سنة2001 تموضعت العلاقات الدولية في حيز من النظام الدولي الجديد المتميز بأحادية قطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية مقابل أحادية قطبية مهيمن عليها وممثلة بالعالم الإسلامي والعربي منه تحديدا. لهذا شعر الكثير من قادة الفكر العربي الإسلامي بالحاجة إلى حوار جاد لوقف أو محاصرة ما أسماه بعض المفكرين الغربيين لا سيما الأمريكيين منهم بـ" صراع الحضارات " قبل فوات الأوان. وتبعا لذلك عقد سيل من اللقاءات والندوات والمؤتمرات في مختلف أرجاء العالم نظمتها قوى دولية ومراكز أبحاث متعددة استظلت جميعها تحت مقولة "حوار الحضارات". ولكن التمعن في المسألة يقضي بمراجعة مفاهيمية للمقولة التي أول ما ظهرت سنة 1955 في مؤتمر نظمته اليونسكو في طوكيو، وكذا الإجابة على العديد من التساؤلات التي تبقي موضوع الحوار وأهدافه وأخلاقياته وأطرافه صيرورة تدور في حلقة مفرغة يبدو للعيان أن لا طائل منها، وهذا ما يستدعي أيضا التساؤل عن جدية الدعوة إلى حوار موضوعي وفعال وعن العوائق التي تعترضه ومسؤولية الأطراف المعنية في إنجاحه أو إفشاله. توطئة مفاهيمية ثمة خلافات لا نحسب أنها جوهرية حين ينطلق البعض من مقاربة، هي على الأغلب إجرائية أكثر منها جوهرية، بين مفهومي الثقافة والحضارة ليعبرا عن معنى واحد، ولسنا ههنا بصدد الجدال أيهما يستغرق الآخر رغم قناعتنا الخاصة باتساع مفهوم الحضارة ليشمل كل المفاهيم الأخرى ذات الصلة كالثقافة والتراث وغيرهما. وثمة خلافات واسعة حول مفهوم الثقافة ذاته والذي ابتدعه الأنثروبولوجيون ليعطي معنى عاما يمكن القبول به كمنطلق للفهم. ولكن اختصارا للجهد والوقت يقترح أحد الباحثين مقاربة لعلها تفي بالحاجة حين يقدم مفهوما للثقافة باعتباره "الكيفية التي ننظر بها إلى الحياة و إلى الوجود وطريقة العيش والسلوك والإحساس والإدراك والتعبير التي يتميز بها مجتمع بشري معين ... إنه نظرة أمة ما إلى الكون والحياة والموت، وإلى الإنسان ومكانته ورسالته في الوجود". هذا الفهم يستوحيه الباحث، دفعا لكل إشكال أو تحيز، من التعريف الذي اقترحه المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية، المنعقد بمكسيكو في شهر أغسطس 1982 والذي جاء في وثائقه: " إن الثقافة هي جماع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، التي تميِّز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها. وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الإنسانية للإنسان، ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات؛ وبالتالي، فإن الثقافة تتجلى في وحدة المظاهر الحيوية لشعب ما". ولأن المسألة تتصل بحوار ثقافات يجتهد الباحث في تأصيل لفظة "حوار"[1] مشيرا إلى أنها تمثل المقابل المتوافق عليه لكلمة " Dialogue " المتداولة في اللغات الأوروبية وذات الأصول الفلسفية اليونانية العائدة تحديدا إلى ثنائي مدرسة أثينا: أفلاطون وأرسطو. لذا فهي تعبر في أصولها الفلسفية واللغوية عن مشاركة في حديث له طابع جدالي أساسا وعقلاني وتفهمي ينزع إلى البحث عن نقاط التقاء وتوافق وتراضي[2]. هكذا يبدو الحوار معبرا عن حاجة اجتماعية وإنسانية تنزع إلى التفاهم والتلاقح والتطور وتبادل الخبرات في عملية تثاقف لا تنقطع على مر الزمن بين الناس أفرادا وجماعات. وهكذا تتواصل الحضارات على قاعدة المصير المشترك للإنسانية دون أن يعني ذلك انتفاء التناقضات الحضارية والتي تبدو شرطا جوهريا للحاجة المستمرة إلى الحوار. وتعزيزا لثوابت التكون الحضاري واشتغاله وتواصله يلزم القول مبدئيا أنه: - " ليس ثمة ما ينفي أحادية الحضارة الإنسانية وهندستها رأسيا في شكل طبقات، أودعت كل طبقة أسرارها وخلاصاتها لتاليتها فضلا أو أمرا، وأفقيا باحتفاظ كل المكونات العرقية والإثنية لحضارة ما بملامح تأبي الفكاك حتي في حالة تغيّر العصر والظروف. - وليس ثمة ما ينفي احتدام الصراع بين مكونات مختلفة لحضارة واحدة، أو لحضارات متشاكلة تصبح نقطة ثيوقراطية أو ثقافية أو حتى اقتصادية عاملا للتفريق والتشاحن. - وليس ثمة ما ينفي أن حضارة المستقويين دائما تمارس نوعا من الاستعلاء على حضارات المستضعفين في زمن ما، مؤدية إلى خلخلة في المفاهيم ومحيلة صراع المجاميع الكلية إلى صراعات متشبثة بقشور قابلة للحلحلة في حال مارس العقل دوره بعيدا عن المؤثرات النشطة لجهة الثيوقراطي خاصة أو حتي الجيوسياسي"[3]. أطراف الحوار وموضوعاته ثمة تساؤلات تتبادر إلى الذهن وهي لماذا ينادي العالم العربي والإسلامي بالحوار؟ ومن هم أطراف الحوار المعنيين بالدعوة والمؤتمرات والأقلام التي تجند للدعوة أو التي أخذت على عاتقها تحمل المسؤولية؟ وما هي موضوعات الحوار؟ ليس خافيا على المشتغلين بحوار الحضارات على أنه ثمة مشكلة في إطار العلاقات الدولية ظهرت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة في أوائل عقد التسعينات من القرن العشرين وانتصاب الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة وبالتالي لا بد من محاورتها باعتبار أن التوازن الدولي لم يعد قائما. غير أن المشكلة بدت أعمق من ذلك لما أصدر المفكر الأمريكي من أصل آسيوي فرانسيس فوكوياما كتابه الشهير " نهاية التاريخ والإنسان الأخير" والذي يعلن فيه أن العالم وصل إلى قمة تقدمه مع النظرية الليبيرالية التي انتصرت في صراعاتها على غيرها من النظريات الاشتراكية والفاشية والنازية والنظريات الثيوقراطية وغيرها من المنظومات الفكرية الشائعة. وتأسيسا على ذلك فلم يعد أمام البشرية إلا التسليم بالنموذج الرأسمالي ومنظوماته القيمية والأخلاقية والرمزية والمادية أو ما يسمى بقيم الحداثة والتي تعني في جوهرها قيم السوق. ولكن ما هي إلا فترة وجيزة على مؤلف فوكوياما حتى جاءت الضربة القاضية من مواطنه المفكر صموئيل هنتنجتون عبر مقالته الموسومة بـ "صراع الحضارات" والتي يعلن فيها صراحة أن العالم مقدم على صدام حضاري بين الحضارة الغربية والحضارتين الإسلامية والكونفوشيوسية على وجه الخصوص. هكذا غدت الصورة واضحة، فأطراف الحوار هم في الواقع أطراف صدام بصيغة تبدو حسب هنتنجتون حتمية ولا مفر منها. لهذا فإن معظم الندوات التي انعقدت لمعالجة المشكلة والبحث عن تفاهمات مشتركة تجنب الإنسانية ويلات صراعات دامية لا طائل من ورائها كان موضوعها هو " صراع الحضارات " وليس حوار الحضارات. ولكن في عملية مخاض بالغة السرعة بدت فيه النوايا الغربية معقودة على افتعال الصراع جاءت هجمات 11 سبتمبر لتفصل في المسألة على نحو بين، فالطرف المعني في الصراع هو الإسلام وبالذات العرب وليس أي طرف آخر أقله في الوقت الراهن. وفي واقع الأمر شئنا أم أبينا فإن الدعوات المنادية بدعوة الحضارات الأخرى للحوار كالحضارتين الهندية والصينية[4] إلى جانب الحضارتين الغربية والإسلامية لم تلق آذانا صاغية دون أن يعني هذا مقاطعة. كما أن الدعوة إلى عدم اقتصار الحوار على الصراع باءت بالفشل، إذ تم فرض أجندة واضحة تتمثل في موضوع الإرهاب كما لو أن الحضارة العربية الإسلامية مختصة بالإرهاب[5]، والأسوأ من هذا أن جرى التعبير بوضوح عبر مطالب غربية وأمريكية على الخصوص تتعلق بالعقيدة الإسلامية بوصفها ذات نوازع إرهابية تحرض على القتل والعنف وإيذاء المرأة والتخلف، ووصل الأمر إلى الحد الذي يشتم فيه الرسول الكريم بالكذاب والسارق وزير النساء والقاتل فيما يوصف الإسلام بأنه دين مزيف وأن رب المسلمين هذا غير رب البشر، فحسب تعبير أحدهم فإن للمسلمين ربا مختلفا عن ذلك الذي يؤمن به الناس. وكل هذا ثمرة ما جاهر به بعض القادة الغربيين مثل الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن و إدوارد جيريجيان وريتشارد بيرل ومارغريت تاتشر وبيرلسكوني وغيرهم. وفي مقالتين حديثتين نشرتا في العدد ذاته من مجلة النيوزويك بنسختها العربية لفوكوياما وهنتنجتون، عبر الأول عن أن العالم الإسلامي هو الأمة الوحيدة في العالم التي ترفض الحداثة والتي استعصى على الغرب احتوائها حتى الآن، محملا كل الأصولية الإسلامية، وليس جماعات فقط، أو ما أسماه بـ " الفاشية الإسلامية" مسؤولية الإرهاب الذي يستهدف تدمير الحضارة المعاصرة. أما هنتنجتون فيصف الحالة العربية الإسلامية الراهنة بـ" عصر حروب المسلمين" التي يشنها المسلمون فيما بينهم وضد الآخرين ردا على قيم الحداثة والعولمة وحسدا للغرب على منجزاته الحضارية ورفاهيته[6]. ومن الواضح أن الصراع الجاري ليس صراع حضارات بل هو حصرا صراع أديان حتى أن بعض المنتديات الدولية أسست ليكون موضوعها الأول والأخير هو "حوار الأديان" كما هو الحال في منتدى روما. مشهد الأنا والآخر تجاه الحوار إزاء هذا الحال تملكت الأنظمة السياسية العربية والنخب المتنفذة الإسلامية والعلمانية حالة من الذعر دفعتهم إلى " تبني شعار "حوار الحضارات" الذي يستهدف تحسين صورة الإسلام في الغرب والعمل على تغيير الخطاب الديني الإسلامي بحيث يكون مقبولا على المستوى الدولي عامة والغربي خاصة. بل غلب على النخبة الإسلامية الرسمية وغير الرسمية الطابع الاعتذاري عن جرائم لم نرتكبها, وكأن ضعفنا المادي وتأخرنا عن مواكبة أسباب التكنولوجيا المتطورة سبب كاف لخلط الأوراق, وعدم ذكر الحقائق التي جرت وتجرى على مشهد ومرأى من العالمين"[7]. وتسببت حالة الارتباك والفوضى هذه التي يعيشها العالم العربي بتخبط بلغ مداه في انقسام حاد بين تيارين أحدهما مُفْرِط في دعوته إلى مقاطعة الحضارة الغربية والآخر مُفَرِّط في تبنيه لأطروحات التماهي الشامل مع الغرب متخذا من دعوة طه حسين نموذجا يحتذى في الاختيار، تلك الدعوة التي فجرها في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1938، وجاء فيها: "... على المصريين، إذا أرادوا، أن يتقدموا، أن يصبحوا أوروبيين في كل شيء، وأن يتمثلوا الحضارة الأوروبية حلوها ومرها..."[8]. وحتى الآن فإن كل النشاطات الفكرية الجارية لم تؤسس لحوار فعلي وجدي بحيث تتحدد موضوعاته وأهدافه والأطراف المحاورة والغاية منه. وكل ما يجري لم يخرج البتة عن الدعوة إلى مناقشات حول موضوع واحد هو صراع الحضارات. فالقضايا الخلافية لم تحدد بعد حتى يجري حوار بشأنها فكيف يمكن الحديث عن توصيات. ومن جهة أخرى لم يحسم الجدل بشأن الحضارات الأخرى بل أن مشاركتها في الفعاليات الجارية بين الحين والآخر لا تكاد تذكر. وبالأولى التساؤل عن الحضارات المعنية بالحوار وعن مواقفها، فهل تشعر الصين أو الهند أو حتى أميركا اللاتينية بأنها معنية بدعوات الأمم المتحدة؟ أو غيرها من المنظمات الدولية؟ ولقد لوحظ أن فعاليات الندوات ودعوات الحوار اقتصرت على المؤسسات والمنظمات الدولية والنخب الفكرية في حين بدت المجتمعات مستبعدة من الحوار لاسيما تلك التي تهيمن عليها ثقافة أحادية، وفي هذا السياق تساءل شارل زورغبيب من جامعة السوربون: "هل حوار الحضارات الذي هو تحليل للعلاقة بين الدول على المستوى العالمي، يمكن تطبيقه داخل المجتمع الواحد؟" وفي نفس المقام يقر محمد الميلي الوزير الجزائري والمدير السابق للمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة " بتعذر تنظيم هذا الحوار داخل المجتمع الواحد لتجاوز المحرمات والعراقيل السياسية والاجتماعية والثقافية. ومن أجل خوض الحوار داخل مجتمع بعينه تطغى عليه الثقافة الواحدة، يتطلب الأمر توفر مناخ حرية التعبير واحترام حقوق الإنسان والرأي والرأي الآخر"[9]. ولو استعرضنا المزيد من بيانات وفعاليات الندوات التي عقدت في إطار حوار الحضارات لتبين لنا مدى التخبط والصعوبات والارتباك في الأهداف والأولويات والموضوعات وحتى الجدوى من الحوار. فقد لاحظ أحد الكتاب أن العرب يلحون على الحوار مع الغرب في حين يصم هذا الآخر أذنيه، والأسوأ من هذا أن الغرب يفتقد إلى المبادئ والجدية في مسألة الحوار ويستشهد بتقلب مواقف الرأي العام الغربي بخصوص الموقف من الحرب على العراق فيقول: " قبل العدوان على العراق كانت الأصوات الغربية الرافضة للحرب تجتاح أوروبا وأميركا. وبعد عشرين يوماً من الحرب قالت استطلاعات الرأي إن المؤيدين للحرب أصبحوا أكثر قوة وعدداً حتى أن مجلس العموم البريطاني أصبح بغالبيته مع سياسة طوني بلير تجاه العراق. هذا الانقلاب الذي يجري في الأفكار لا يدل إلا على مدى المزاجية والتقلب في الاتجاهات ولا يدل على وجود مبادئ وثوابت راسخة"[10]. وفي موقف غريب استطلع فيه الشعب الأمريكي قبل احتلال العراق وسئل عما إذا كان يؤيد استعمال القوات الأمريكية لأسلحة نووية ضد العراق إذا ما استعمل صدام حسين أسلحة كيماوية أو بيولوجية ضد القوات الأمريكية فأجاب أغلب المستطلعين بالإيجاب. وفي مثل هذه المواقف المتقلبة واللامسؤولة فمن نحاور؟ وما جدوى الحوار؟ منهجية البحث عن تفاهمات ممكنة لا شك أن بعض ما أشير إليه من عوائق للحوار خاصة في إطار ردود الفعل العربية يمكن تجاوزها بسهولة ولكن بشروط يسميها البعض أخلاقيات للحوار وإلا فلا جدوى من أية محاولة. فكيف ذلك؟ الشرط الأول: الحق في الاختلاف هذا الشرط هو شرط طبيعي نابع من سنن الخلق والوجود لكل الكائنات الحية بحيث تتموضع هذه الكائنات في إطار التنوع والتباين بيولوجياً وثقافةً. فليس من حق ولا بمقدور أية مرجعية أكانت شريعة أو عقيدة أو أيديولوجية أو ميثاق أو ...إلخ التدخل في سمة الخلق والكون والموجودات وإسباغ صفة التماثل عليها بما يخالف الحالة الطبيعية لها، لذا فالتنوع الثقافي والبيولوجي بوصفهما جزأين أصيلين من موجودات الطبيعة وسماتها قابلين للتكامل ولكنهما عصيين على الانصهار. وعلى هذا الأساس يتوجب النظر إلى الثقافات الإنسانية باعتبارها: - تمثل رصيدا إنسانيا مميزا وإضافات وإثراءات لبعضها البعض بما يضفي على الحياة الإنسانية طابع الحيوية والنشاط وتبادل المنافع بدلا من الكسل والملل أو الاستعلاء وحب السيطرة والتملك. - ومتساوية أخلاقيا ونظريا وبالتالي متعادلة من حيث الاختلاف الطبيعي بينها. فلا يجوز تصنيف الثقافات تفاضليا بحيث تبدو هذه الثقافة راقية وهذه دونية. - كما أن لها الحق في إبداعاتها الرمزية والمادية بما يلائم تصوراتها واحتياجاتها مثلما أن لها الحق في اختياراتها في إطار تفاعلها مع الثقافات الأخرى. وتأسيسا على ذلك فأي حوار بين الثقافات ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار أن ثراء الحضارة الإنسانية يكمن في الاختلاف وليس في التماثل، وأولى بالغرب أن يعترف بهذه الحقيقة من غيره كونه الذي يتبنى قيم العدل والمساواة والديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، وهي قيم طبيعية وإن كانت تطبيقاتها غير طبيعية. وهكذا فـ: " الثقافات البشرية مهما اختلفت، فهي من حيث المبدأ على الأقل تتعادل فيما بينها. وهذا المبدأ يقضِي، نظريا وأخلاقيا، بأنه لم يعد هناك مجال للحديث عن ثقافات بشرية مُتفاضلة فيما بينها، ومُرتبة في سُلم التقدم: فيها الأرقى والأدنى؛ الممتاز والمنحط. ولعل من شأن هذا المبدأ الإنساني النبيل، الذي تدعَمُه نتائج كثير من أبحاث الأنثروبولوجيا الثقافية المعاصرة، أن يفسح أمام الثقافات البشرية فضاءات للنمو والتفتح والازدهار، في أحضان حضارة إنسانية، يٌفترَض أنها متنوعة وشاملة لمُكوِّنات متعددة، ورحبة للجميع"[11]. الشرط الثاني: مبدأ التسامح في واقع الأمر فالمبدأ استخدم في الخطاب السياسي الرسمي وشبه الرسمي عربيا وإسلاميا لغرضين: الأول: للتشهير بالجماعات الإسلامية على اختلافها الدعَوِية والخيرية والجهادية التي وصمت بالتشدد والتطرف والتعصب وعدم قبول الرأي الآخر. الثاني: لاستدرار عاطفة الغرب بالعفو والصفح والتبرؤ مما يزعم أن الحضارة الإسلامية ارتكبته بحقه فيما مضى. فمن موقع المذنب والضعيف والاعتراف بالذنب وليس من موقع الند يجري الحوار. غير أن البيئة العربية والإسلامية لم تكن تاريخيا بوضعية تبرر لها استدعاء مفهوم التسامح بالنظر إلى أن العقيدة الإسلامية لم تمثل عامل انقسام بقدر ما كانت تمثل وما زالت عامل استقطاب ومرجعية سياسية واجتماعية توفر مشروعية وحَكَما بين جميع القوى والشرائح الاجتماعية. في حين أن الكنيسة في الغرب لعبت الدور المركزي في الشقاقات والنزاعات الدموية بين الشعوب الأوروبية وقادتهم المدعومين من الكنيسة المتسلطة[12]. ومع ذلك فمن الممكن استدعاء ذات المفهوم ليكون شرطا أخلاقيا يجري في ظله الحوار فيما بين الحضارات دون الشعور بحساسيات دينية، بل الأولى أن نحاجج الغرب، ونحن في ضعف بنفس ما يتبنى من أطروحات ويدافع عن كونيتها، فنحن كما يقول أحد الباحثين: " لا نبتدع جديدا عندما نعيد إلى الذاكرة هذه الحقيقة التاريخية: إن مفهوم التسامح في سياقه التاريخي الغربي، ظهر أصلا في ظروف الحروب الدينية المذهبية، التي فرَّقت دول و شعوب أوروبا خلال فترة طويلة، وإن حمولته الأخلاقية ساهمت في تَمَـثُّلِ وامتصاص حِدَّة وعُنف الصراع بين المذهبين الأساسيين للمسيحية الأوروبية آنذاك: الكاثوليكية والبروتستانتية "[13]. وفي هذا السياق تحديدا ثمة ورقة أخرى جدية وجريئة أعدها كاتب لعله إسلامي يقدم فيها توصيفا دقيقا لموقف العقيدة من الحوار وتشريعها له بل والحض عليه وللعلاقة بين الأمم والشعوب وشروط التعايش بينها، وفي هذا السياق يستدل بالآيات القرآنية التالية: - ( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) النحل 125. - (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) البقرة 256. - (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) يونس 99. - ولأن البشرية تنقسم إلى شعوب و قبائل فان الدعوة تكون: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات 13. - (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {8} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) 9،8. إذن هذا تأكيد صريح في العقيدة وفي القرآن الكريم تحديدا على حق الاختلاف والتسامح والعدل والإنصاف. كما أن الآيتين الأخيرتين من سورة الممتحنة تؤكدان على: - " إن المسلمين ملتزمون بحسن العلاقة مع غيرهم من بنى البشر, ذلك أن الأصل في الإسلام هو السلام والمحبة, ونشر البر والعدل بين الناس قاطبة على اختلاف أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم. - إن عداوة المسلمين يجب أن تنصب حصرا على الذين يحاربونهم لتغيير دينهم, أو يعتدون على حرماتهم: النفس والوطن. - إن المسلمين لا يحاربون ولا يعادون ولا يعلنون الجهاد ضد الآخرين بسبب عقيدتهم ولكن دفاعا عن النفس والعقيدة وهى ضرورة للمحافظة على الذات فإذا انتفى هذا المبرر فلا مجال للحديث عن قطع كل صلات بالمخالفين في الرأي فضلا عن قتالهم, فالنهي عن الصداقة والمحبة والتحالف منصب على الذين ما يزالون مستمرين في حربهم وعدوانهم"[14]. أما عن تسامح المسلمين مع الغرب وغيرهم من الأقوام والثقافات فهذه مسألة غطاها تاريخيا الكثير من كتاب الغرب وفلاسفته مثل المؤرخ البيزنطي خالكو كونديلاس khalkokondylas والمؤرخ الانجليزي جيبون Gibbons وغيرهم كثير ممن أقروا بأن النظام العثماني كان يتعامل مع الدول والأشخاص غير المعادين بالحسنى واللين والكرم مهما كانت أديانهم وأنه عامل الأرثوذكس معاملة أفضل بأضعاف من معاملة الكاثوليك للأرثوذكس. أما عن فتح القسطنطينية التي كانت هدفا رئيسيا للسياسة الإسلامية منذ القرن الهجري الأول والتي يحاجج الغرب فيها ليثبت عدوانية الحضارة الإسلامية فلأنه من القسطنطينية كانت تصدر قرارات الحرب لغزو ديار الإسلام والإغارة على الثغور. ويعترف نورمان بينز بأن "عداوة بيزنطة للإسلام بقيت ما بقيت الإمبراطورية". وفي بحثه "بيزنطة والإسلام" يتحدث "فازلييف" عن تفضيل الأرثوذكس الأتراك العثمانيين على (الكاثوليك) أشقائهم في الدين فيقول: [ ولا زال الناس يرددون تلك المقالة المأثورة التي صدرت عن رئيس ديني بيزنطي يدعى "لوكاس فاتوراس" في ذلك الحين وهى: "إنه لخير لنا أن نرى العمامة التركية في مدينتنا من أن نرى تاج البابوية"]. ومن المهم في هذا الصدد أن نشير إلى شهادة " نهرو " زعيم الهند الهندوسي: " ومهما يكن من أمر فالواقع أن سلاطين الأتراك العثمانيين كانوا متسامحين جدا مع الكنيسة الإغريقية الأرثوذكسية"[15]. مبررات استعداء قادة الفكر الغربي للإسلام إن الحضارة الوحيدة القائمة بمنجزاتها القيمية والمادية والمهيمنة هي الحضارة الغربية بلا منازع والتي تتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية. أما الحضارات الأخرى فقد انزوت. ومع أن بعضها يحاول النهوض إلا أن الحضارة الإسلامية تعتبر اليوم أضعف الحضارات دون أن يقلل هذا من كونها واحدة من أكبر الثقافات العالمية والإنسانية، ولعلها مفارقة غريبة أن تُستهدف الحضارة الإسلامية وهي على هذا النحو من الضعف والتراجع، فلماذا؟ مع بداية تفكك المنظومة الشرقية وعشية انهيار الاتحاد السوفياتي همس جورجي أباتوف، مستشار الرئيس السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف, في أذن مسؤول أميركي بالعبارة التالية: " إننا نصيبكم بخطب جلل فنحن نجردكم من العدو". ولم يكن آباتوف مخطئا " فقد أيده لاحقا صموئيل هنتنغتون في مقالته " تآكل المصالح الأميركية" التي تضمنت جملة اعترافات من أهمها الاعتراف بفقدان التوجه الأميركي المصلحي في غياب العدو"[16]. أما إدوارد جيريجيان مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق لشؤون الشرق الأدنى فقد قال بوضوح بأن: " الولايات المتحدة بوصفها القوة العظمى الوحيدة الباقية، والتي تبحث عن إيديولوجية لمحاربتها؛ يجب أن تتجه نحو قيادة حملة صليبية جديدة ضد الإسلام "، وهو التعبير نفسه الذي استخدمه " بوش الابن " في بداية الحملة الأمريكية الجديدة على العالم الإسلامي، والتي بدأت بأفغانستان …[17]. وفي أعقاب حرب الخليج الثانية اجتمع قادة حلف شمال الأطلسي وناقشوا أوضاع ما بعد الحرب وزوال الحرب الباردة وأصدروا بيانا يتحدث صراحة بالنص عن كون الأصولية الإسلامية هي العدو الاستراتيجي القادم للحلف وبالتالي للحضارة الغربية. ومن الواضح أن الولايات المتحدة تبحث عن عدو وهذا مطلب طبيعي لدولة عظمى تسعى لأِن تحافظ على يقظتها وفاعليتها. ولكن أن ترى في الإسلام تهديدا مباشرا يعادل التهديد الشيوعي لها وللحضارة الغربية فهي مسألة تدعو للتأمل خاصة أن الحاجة إلى عدو مفترض ينبغي أن يتميز بطابع المنافسة والندية كيما يكون جديرا بالدعوة. وعليه يذهب البعض إلى توصيف الحالة القائمة بغياب فعلي لأي صراع بين الحضارات سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية لا سيما وأن الحضارة الغربية هي الوحيدة والسائدة في العالم. ولكن في واقع الأمر أن أحد الطرفين المعنيين بالصراع تستحوذ عليه رؤى دفينة كافية لاستنبات بذور الصراع وإثارة الشكوك والفزع والتحريض ضد الإسلام. فبالنسبة للمفكرين الغربيين وقد عبر عن أطروحاتهم الكثير من مشاهيرهم نجد روبير فيدرين وزير الخارجية الفرنسي السابق يعترف بوضوح لا لبس فيه بوجود صراع حضارات فعلي متسائلا: "كيف ننكر وجود صراع بين الإسلام والغرب في حين تظهر معالمه للعيان بألف طريقة وطريقة، موغلاً بجذوره في التاريخ "[18]. أما برنارد لويس فيبدو على النقيض من فيدرين الآمل بالخروج من هذا الصراع فيحذر من بعث جديد للحضارة الإسلامية على ضعفها حين يقول: " ظل الإسلام لقرون طويلة أعظم حضارة على وجه الأرض - أغنى حضارة، وأقواها، وأكثرها إبداعا في كل حقل ذي بال من حقول الجهد البشري. عسكرها، أساتذتها وتجارها كانوا يتقدمون في موقع أمامي في آسيا وأفريقيا وأوروبا، ليحملوا ما رأوه الحضارة والدين للكفار البرابرة الذين كانوا يعيشون خارج حدود العالم الإسلامي... ثم تغير كل شيء. فالمسلمون بدلا من أن يغزون الدول المسيحية ويسيطروا عليها، صاروا هم الذين تغزوهم القوى المسيحية وتسيطر عليهم. مشاعر الإحباط والغضب لما عدوه مخالفا للقانون الطبيعي والشرعي ظلت تتنامى لمدة قرون، ووصلا قمتهما في أيامنا ". ويعلق جعفر شيخ إدريس على أطروحة برنارد هذه بالقول: إن " قادة الحضارة الغربية يخشون على حضارتهم من كل بادرة إحياء لتلك الحضارة التي كانت سائدة. ومما يزيد من خوفهم قول المختصين منهم في التاريخ الإسلامي، إن للإسلام مقدرة عجيبة على العودة كلما هُزم"[19]. لعله لهذا السبب تحديدا غالبا ما جرى التساؤل عن مصير الحضارة الغربية إذا ما تقدم الإسلام ونهضت الحضارة الإسلامية[20]. وهو ما عبر عنه بوضوح لا لبس فيه كل من برنارد لويس وفوكوياما وهنتنجتون من أن الإسلام عدو صريح للحضارة الغربية بكل منظوماتها وقيمها ومنجزاتها، وأن المسلمين لديهم ميل طبيعي للعنف والعدوانية والانتقام من الغرب، وأن الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي ما زالت عصية على الاحتواء الغربي وعلى الحداثة وبهذا الفهم الاستعلائي والمغرض للإسلام يبدو الحوار مستحيلا مثلما هو غض الطرف عما يسميه فوكوياما بـ"الفاشية الإسلامية" هو الآخر مستحيلا. وفي هذا السياق بالضبط تجيء التدخلات العسكرية الأمريكية وفرض مشاريع الإصلاح من نوع مبادرة الشرق الأوسط الكبير. وهي مبادرة تستهدف بالدرجة الأساس إزاحة العقيدة الإسلامية عن كل طابع للحياة الاجتماعية وإيجاد ما يعرف حاليا في أوساط المثقفين بالدين الليبرالي. | |
|