هل يوجد للمتدينين المتزمتين أندادٌ من الملحدين المتزمتين؟ لقد استعمل
عالم اللاهوت المسيحي أليستر مكغراث كلمة متزمت لوصف نوعية معينة من
الملحدين. إن المتزمت شخص ملتزم بمجموعة مبادئ أو معتقدات أساسية التزاماً
دوغمائياً ومتصلباً.
وفي الأصل فقد استُخدِمت هذه الكلمة لتصف المتزمتين البروتستانت الذين
فسَّروا الإنجيل حرفياً غير متحملين أي نقدٍ له. وتضمنت معتقداتهم عِصمة
الكتاب المقدس، والإيمان بولادة المسيح من عذراء وحقيقة بعثه، والخلاص
الأبدي لمن يؤمنون به. وفي وقت لاحق أُطلقت هذه الكلمة على من يُسمَّون
بالمتزمتين الإسلاميين وهم بدورهم ملتزمون بالقرآن حرفياً، ولا يتسامحون
بأي انحراف عن فهمهم له، وهم كذلك مستعدون لاستعمال العنف لفرض أحكامه
وأوامره على الآخرين. ونمطياً فالمتزمتون يمقتون المتشككين أو المعارضين
لهم، وتشهد على ذلك الحروب الناتجة عن التعصب بين الكاثوليك والبروتستانت
في بدايات العصر الحديث. وللحقيقة، وبالرغم من كتاباتهم وخطبهم القاسية فإن
المتزمتين من مسيحيي يومنا هذا لم يعودوا يظهرون ذلك المستوى من الكراهية
الشديدة.
في أي نظام عقائدي مبني على فكرة أو مبدأ معين، فإن المتزمت هو من تغلبه
حماسة لا يثنيها أي شيء، من هنا فإننا نستطيع أن نطلق عليه اسم "المؤمن
المخلص". ولقد شهدنا أمثلة متطرفة على هذا الأمر في محاكمات المتزمتين
البروتسانتيين لمن سموا بالمهرطقين، وفي محاكم التفتيش، ومطاردة واضطهاد
المشتبه بممارستهم للسحر، وحملات مختلفة عنيفة ضد الخطيئة. إن ممارسات كهذه
لم تعد موجودة في البلدان المسيحية بالرغم من أنه وللأسف لا تزال "شرطة
الفضيلة" تنشط في العديد من المجتمعات المسلمة.
هنا، يتبادر إلى ذهننا السؤال التالي: هل هنالك "لا مؤمنون" متزمتون؟ إن
العديد من الملحدين العلمانيين في المجتمعات التوتاليتارية في القرن
العشرين كانوا بالفعل متزمتين، بمعنى أنهم أرادوا فرض قانونٍ أو نظامٍ
آيديولوجي صارم، واستخدموا عن طيب خاطر سلطة الدولة والعنف الشديد ضد كل
معارض، والستالينية هي أفضل مثال على الاستعداد لمعاقبة أي انحراف باسم
"المذهب العلماني المقدس" والذي استخدمه مفوضو الغولاغ لفرض الطاعة. ولحسن
الحظ فالإجراءات المتطرفة من قبيل الإرهاب العقائدي هذا قد تلاشت مع نهاية
الحرب الباردة.
بالرغم من ذلك، لا يزال هنالك من يمكننا تسميتهم "اللامؤمنين المخلصين"
والذين يتبنون عقيدة واقتناعاً لا يتزعزعان بشأن الإلحاد – إن الله غير
موجود … نقطة وإلى أول السطر. فهم مقتنعون بذلك الأمر، وهذا النوع من
المواقف الدوغمائية المتشددة يستمر في التأكيد على أن هذا الاتجاه - وفقط
هذا الاتجاه - هو الصحيح، وأي شخص ينحرف أو يشذ عن هذه الحقيقة لا بد وأن
يكون أحمق وغبياً، الأمر الذي ينطوي على إهانة لعدد كبير من المؤمنين
المتعقلين.
وفي تعليق للفيلسوف الأمريكي الشهير جون ديوي قال:
يبدو أن للملحد العدواني شيئاً مشتركاً مع الخرافة التقليدية ….. استغراق
المرء الكلّي في الإلحاد العدواني وفكرة الخارقية بمعزل عن الطبيعة من
حوله.
من كتابه [إيمان مشترك A Common Faith]
وهذا الشكل من الإلحاد العدواني غالباً ما يكون ضيق الأفق ومبتوراً، فهو
لا يقدِّر المحيط الكوني للجنس البشري في طبيعة الأشياء، كما أنه يفتقر إلى
أي "ورع طبيعي" كما قال ديوي، وهو غير مهتم بالقيم الإنسانية التي ينبغي
أن تصاحب رفضه للألوهية.
وبرأيي، فإن الملحدين الجدد قد قدموا إسهامات هامة للمشهد الثقافي المعاصر
لأنهم قاموا بتعريض الادعاءات الدينية للنقاش العام، لأنه غالباً ما تم
النظر للدين بوصفه محصّناً غير قابل للنقد. وعلاوة على ذلك، فمعظم الملحدين
الذين أعرفهم قوم مهذبون ولطفاء. ما أرفضه واعترض عليه هم الملحدون
العدائيون الذين يتسمون بضيق الأفق تجاه الأشخاص المتدينين، وهم بالتأكيد
يختلفون عن اللاأدريين والشكوكيين أو غيرهم من الذين لا يتفقون مع الدين،
حتى أنهم يصفون هؤلاء بالجبناء.
وقد استخدم إريك هوفر مصطلح (المؤمن المخلص) في إشارة إلى المتعصبين
الدينيين، وهنالك على الجهة المقابلة ما يمكن الاصطلاح عليه متلازمة
"اللامؤمن المخلص" بين بعض الملحدين والذين بلا شك غير متسامحين مع من
يختلفون معهم في الرأي.
وفي عرضٍ لكتاب ريتشارد دوكينز الجديد والقيِّم: الاستعراض الأعظم على
الأرض: الدليل على النشوء The Greatest Show on Earth: The Evidence for
Evolution في جريدة نيويورك تايمز بتاريخ (11/10/2009) أشار الكاتب في
الشؤون العلمية نيكولاس ويد إلى هذا الأمر (وهنا أقتطف منه هذه الأسطر):
هذا ينبهني إلى الخلل الفكري… في أهزوجة دوكينز البليغة عن النشوء قد
انزلق إلى حالة أصبح فيها دوغمائياً كخصومه …. يدين المشككين في نظرية
النشوء واصفاً إياهم بـ"الناكرين للتاريخ" و"أسوأ من الجهلة" و"المَخدوعين
إلى درجة الانحراف!" هذه ليست لغة العلم والكياسة.
أعتقد أنه هنالك بعض المغالاة في قول ويد. في النتيجة، لم يجد الإلحاد
أذناً صاغيةً في المجتمع المعاصر حيث المؤمنون يسيطرون على المشهد العام.
وينبغي أن تتم تهنئة دوكينز والملحدين الجدد الآخرين على جهودهم في تعويض
اختلال التوازن هذا. ومع هذا فعلينا تقدير وجهة نظر ويد حيث ينبغي على
المرء أن يمارس ضبط النفس عندما يهاجم خصومه. الإلحاد مثل اللاأدرية
والشكوكية بإمكانه أن يكون موقفاً مُبجلاً عندما يكون مستنداً إلى تفكير
حذر ودقيق ويتم التعبير عنه بشكل مهذب
الخميس يوليو 07, 2011 4:42 pm من طرف سميح القاسم