عندما يتكلم التاريخ الكبير فإنّ كلّ تاريخ صغير آخر يصمت، أو لن يكون في
أحسن أحواله سوى تعليق على الهامش، ولن يكون له – إلا في حال الادعاء – من
تأثير في المجرى الكبير لنهر التاريخ.
والحال أنّ ما يحدث الآن في العالم العربي هو من قبيل التاريخ الكبير.
فثورة الشارع العربي، سواء في الأقطار التي قطفت فيها أولى ثمرات النصر،
أم في الأقطار التي مازالت تصارع فيها لاقتطافها، أم في الأقطار الأخرى
التي تصارع طبقاتها الحاكمة صراعاً مستميتاٌ لإبقائها خارج السيرورة
الثورية، يمكن توصيفها بأنها الموجة الثالثة من موجات التاريخ الكبير
للثورات الديمقراطية في العصر الحديث.
الموجة الأولى تمثلت بثورات 1848 التي أعطت شرارة الانطلاق لتعميم سيرورة
الدمقرطة في أوروبا الغربية وامتدادها الأميركي الشمالي.
والموجة الثانية هي تلك التي عصفت بالعالم الاشتراكي السابق في العقدين
التاسع والعاشر من القرن العشرين ونجحت – ولو بعد تأخير قرن ونصف –
في توطين السيرورة الديمقراطية في بلدان أوروبا الشرقية التي كانت مُلجمة
خلف الستار الحديدي (علماً بأنّ هذه الموجة الثانية كانت مهّدت لها
انتفاضات ديمقراطية في العقد الثامن من القرن العشرين في بلدان أوروبا
الجنوبية وأميركا الجنوبية الرازحة آنئذ تحت وطأة دكتاتورية الكولونيلات
والجنرالات).
والموجة الثالثة هي التي تعصف اليوم، بنوع من عدوى غير قابلة للصدّ،
بأقطار متتالية من العالم العربيّ لا يجمع بينها، على اختلاف أنظمتها
السياسية، من ملكية وجمهورية، ومن مدنية وعسكرية، ومن وراثية وتوريثية، ومن
شِبْه دينية وشبه علمانية، سوى التشبّث المستميت من قبل طبقاتها الحاكمة
لإبقاء العالم العربي خارج نطاق السيرورة الديمقراطية المتعاظم ضغطها
عالمياً بفضل ثورة الاتصالات الفضائية والأنترنتية .
ولا شكّ أن العالم العربي ليس مقدوداً من قدة واحدة. وطبقاً لخصوصيات كلّ
قطر منه على حدة، فإنّ الموجة الثورية الثالثة هذه من موجات التاريخ الكبير
قد تفلح في الاندياح في أسابيع أو قد تستغرق أشهراً أو حتى سنوات، وقد
تكون منخفضة الكلفة أو باهظة الكلفة بشرياً، وقد تكون أبهظ تكاليفها هي تلك
التي ستدفعها شعوب الأقطار المتعددة قبلياً أو طائفياً أو إثنياً. إذ في
هذه الأقطار تحديداً يمكن لسيرورة الديمقراطية أن تتلبّس شكل حروب أهلية
وانفصالات كيانية، هذا إن لم تتطلّب تدخلاً خارجياً إمّا انتصاراً لها أو
قمعاً لها.
ولأعترف أنّي، كمثقّف، قد فوجئت باندياح هذه الموجة الثورية متتالية
الحلقات. فقد كنت أحدس بها وأراها قادمة لا محالة، ولكن ليس في حياتي ولا
في جيلي. فقد كنت أرزح تحت وطأة الشعور بالفوات التاريخي العربي، وما كنت
أتوقع أن يرى النور فاعل ثوريّ جديد يتمثل بتلك "الطبقة الأنترنتية" التي
أشعلت فتيل الثورة في تونس أوّلاً ثم في مصر. وكان أقصى حلمي أن يبدأ
العالم العربي، أو بعض أقطاره، بكسر حلقة أو أكثر من حلقات فواته التاريخي
في عقدين أو ثلاثة عقود، أي بدءاً من منتصف القرن الحادي والعشرين فصاعداً.
وبديهيّ أنّي لست الوحيد الذي فوجئ بثورة الشارع العربي، أو على الأقل
بتوقيتها. فهي كانت مفاجئة، على ما أعتقد، حتى لأولئك الذين قدحوا شرارتها
الأولى أو الذين خاضوا معمعتها وصولاً إلى النصر. كما كانت مفاجئة، على
الأخص، لأولئك الذين انداحت ضدهم ، أي لتلك الطبقات الحاكمة المصابة بمرض
الزمانة، سواء منها ما يدين بديمومته لأجهزة القمع المباشر والمخابرات أم
للمهزلة الانتخابية المعاد إخراجها دورياً بتكرارية كاريكاتورية .
ولكن لأعترف أيضاً بأن فرحي مسكون بدوره بهاجس .
ذلك أنّ محطة الوصول قد لا تكون مطابقة لمحطة انطلاق قطار الثورات.
ولأعترف للقارئ بأنّي ابن الخيبة بالثورة الإيرانية الآفلة أكثر منّي ابن
الأمل بالثورات المشرقة. ومن موقعي في إسار هذه القدامة لا أملك إلا أن
أقول إنّي إذا كنت أتمنّى شيئاً فهو أن يكون توجّسي في غير محله، وأن تكون
فرحتي اليوم هي الرفيقة الدائمة لما تبقى من العمر .