"
نصف ما أقوله لك لا معنى له، ولكنني أقوله ليتم معنى النصف
الآخر"
جبران خليل جبران
ما تزال أغنية الراي، في الجزائر، تجد نفسها في مواجهة بعض العثرات وتحاول
التقدم ببطء، وبصعوبة، ولكن بثبات. تحاول الحفاظ على خصوصيتها وميزاتها
التي انطلقت منها، وتبقى، في الوقت نفسه، عرضة لعدد من بيانات السّخط،
التعليقات والتصريحات الرافضة. وسمح بعض الشيوخ والأئمة لأنفسهم بتوقيع
فتاوى وخطب دينية تفيد بتحريم الاستماع إليها. وتحاول تنظيمات سياسية، ذات
ميول دينية، التصدّي لاتّساع رقعة محبّيها، برفع شعار "ضرورة العودة إلى
قيم الماضي". تنظيمات تنشد حياة أفضل من خلال تمجيد السنين الخوالي والعودة
إلى ما تسمّيه "الأصول".
منذ العبارة الشّهيرة التي تلفّظ بها الإمام والداعية والخطيب الشيخ عبد
الحميد كشك(1933-1996)، نهاية الثمانينات، حول الشّاب خالد، التي تحمل
عنصرية وقسوة وأنانية، قائلا عنه : "نطق حمار غرب الجزائر وقال: ها
الرّاي!"، تواصل، لحدّ السّاعة، بعض التشكيلات الدينيّة، في الجزائر، التي
تستمد قناعاتها من مرجعيات عقائدية ترفض منطق الحوار والانفتاح على الآخر،
خصوصا الثلاثي "حمس"(حركة مجتمع السلم)، و"النهضة" و"الإصلاح"، تبنّي
الخطاب نفسه وتتّفق حول أبجديات رفض الراي والتقليل من شأن المغنّين والحطّ
من قيمتهم بوضعها في خانة تشجيع البغاء وخدش الحياء والممارسات الذميمة.
المؤسف، في الجزائر، أنه في الوقت الذي تعرف فيه خطابات الأحزاب المحافظة،
المنغلقة على نفسها، صدى وانتشارا شعبيا، والتفافا وحماسة وتقبّلا من طرف
الجماهير، تغيب النخبة، العقول المتنورة وطبقة المثقفين المعتدلين أصحاب
العقل الوسطي، ومن يؤمن بنسبية الأشياء.
لسنا ننفي حقيقة تعاطي أغنية الراي، منذ البدايات، سنوات الخمسينات، مع
مواضيع العشق والجنس، وشرب الخمر وغيرها، ولكن، بالمقابل، لا يجب التغاضي
عن حقيقة دفاعها عن القيم الإنسانية، التي تغنّت بها كثيرا كمشاعر الحبّ،
والأخوة، والأمومة، والصداقة، والوفاء وغيرها.
أغلبية الأحكام المعادية لأغنية الراي تنبع من رفض أصحابها الاستماع
لأغاني لا ترى مانعا في التعامل مع أخلاق وممارسات يعتبرها البعض "مرفوضة"
في المجتمع الجزائري الحالي. خصوصا منها موضوع شرب الخمر المصنّف في خانة
"الحرام". والذي يبقى حاضرا بقوة، في أغنية الراي، قديما وحديثا. كما أنّ
سهرات الراي الليلية لا تبلغ مقصدها سوى بحضور سيد المقام (أم الخبائث
بتعبير المحافظين): الخمر.
لو ألقينا نظرة سريعة على ريبرتوار الراي سنجد أن كثيرا من المغنين
المعروفين ذكروا الخمرة وتفنّنوا في وصفها في أغانيهم. انطلاقا من الشيخة
الريميتي (1923-2006)، صاحبة "هاك السّرة" والشيخة زلميت، صاحبة "من ذاك
سكرة واعرة"، مرورا ببوطيبة الصغير، بلقاسم بوثلجة وغيرهم، وصولا إلى خالد،
فضيلة، صحراوي، مامي، الذي صوّر فيديو كليب "مامي في بلاد العجائب"(16)،
أين تظهر فتيات شبه عاريات في مسبح مرفقات بقارورات الخمر. فيديو كليب
عُرض، مرة واحدة، على شاشة التلفزيون الجزائري ليتمّ منعه، لاحقا، بشكل
نهائي، بحجة "المساس بالأخلاق العامة"، ووجد المشاهد العربي إجمالا،
والجزائري خصوصا، نفسه مضطرا للجوء إلى القنوات الفرنسية بغية مشاهدة
الفيديو كليب ذاته.
واشتهر الثنائي فضيلة وصحراوي، منتصف الثمانينات، بأغنية "البيرة عربية
والويسكي ڤاوري (أوروبي)"، التي أدّياها وفق إيقاع راقص. وهي أغنية أدّاها
الشاب خالد في أولى خطوات المسيرة الفنيّة منتصف السبعينات، وتقول بعض
كلماتها: "البيرة عربية والويسكي قاوري..حبيبي ما جاش اليوم..لا زهر لا
ميمون وخلوني نروح".
* * *
جاء في القرآن: " ومن ثمرات النّخيل والأعناب تتّخذون منه سكرا ورزقا حسنا
إن في ذلك لآية لقوم يعقلون"(17). وسُئل بعض التّابعين عن النبيذ فقالوا :
"حلال أفرط فيه السفهاء، فكرهه العلماء". ونقرأ في زبور داود (عليه
السلام): "الخمر تفرح كلّ محزون". والحديث عن الخمر يحيلنا للحديث عن
السّكر الذي صنفه العرب درجات، وجاء في فقه اللّغة لأبي منصور الثّعالبي
(961 - 1038) : "إذا شرب الإنسان، فهو نَشْوان. فإذا دبّ فيه الشراب، فهو
ثُمل. فإذا بلغ الحدّ الذي يوجب الحد، فهو سكران. فإذا زاد وامتلأ، فهو
سكران طافح. فإذا كان لا يتماسك ولا يتمالك فهو مُلتخ. فإذا كان لا يعقل
شيئا من أمره ولا ينطلق لسانه، فهو سكران باتٌّ وسكران ما يبُتُّ وما
يبِتُّ".
* * *
نرى من الضروري، قبل الخوض في الأحكام الذاتية، القاسية، والجائرة أحيانا،
في حق مغنيي الرّاي، العودة والإطلاع على فحوى بعض الأغاني، الاستماع
إليها والتعمق قليلا في مقاصدها، مع التركيز خصوصا على كلمات الأغاني التي
جاء فيها ذكر الخمر، والتي حققت شهرة انتشارا، خلال السنوات الماضية.
يقول الشاب رضوان في أغنية "خايف نصحى ونندم"(2006): "خايف نصحى
ونندم..وراني غالط معاها..قولولها تسامحني..نتفكر شو درت (ما فعلت) ننغم
(اكتئب)..شوفو كيف اتديرو…ومعاها اترانجوني (تصلحون ذات بيننا)". صحيح أن
الشاب رضوان يغني، ويبين عن حالة سكر، في أغنية لاقت رواجا، بمجرد
صدورها، ولكنه لا يتوانى في البوح بالسبب ويبرر الحالة التي يتخبط فيها من
الرغبة في تناسي خطيئة وسوء فهم وقع فيه وتسبب له في انقطاع الوصل مع
الحبيبة. نلاحظ أن الأغنية نفسها تتغنى بالسُّكر ليس من اجل الحثّ على
السّكر في حد ذاته، ولكن باعتباره ملجأ للابتعاد غن الضغط النفساني وحاجزا
لتجنب مشاعر الخوف من فشل العلاقة العاطفية وانهيارها.
وجاء في أغنية الراي الشهيرة، الموسومة "وحداني"، التي تداولها كثير من
النجوم،: " وحداني والقرعة و الكأس..نبكي على زهري..اللّي نساني وخلاّني
ذلة بين الناس". أغنية تجمع تمزج بين خمر وندم من تداعيات تجربة نفسانية
صعبة.
تعتبر أغنية "أمين تي تي"، الموسومة "سكران..عيان"(2008) واحدة من أهم
الأغاني التي تتعرض للخمر وللسكر، بشكل واضح، ومباشر. أغنية أداها عبر كثير
من الكباريهات، والسّهرات، في مدن جزائرية مختلفة، وأعادها مغنون آخرون
أيضا. يقول في مطلعها:
"سكران..عيّان..غيضان..فشلان..بردان..مزطول..مريول..خابط وشارب لالكول".
لو استمعنا فقط لبداية الأغنية سنقول إنّها "إباحية" وتهدف لكسر ما تبقى من
روابط وهوامش أخلاقية. ويواصل المغني كاشفا عن السبب الحالة نفسها : "جاها
بالليل..والدمعة تسيل..جابلْها التأويل وفكرها في نهارات الخير..مهموم
ومغروم..". وهنا ندرك سرّ سكر المعني ونيته في تناسي ماض مؤلم وطيّ صفحة
مرحلة سابقة والانخراط في حياة جديدة مع العشيقة.
وأشهر فيديو كليب أغنية راي تمحورت حول شرب الخمر جاء باسم الشاب خالد، في
"سربي..سربي"(18) أين يظهر حاملا كأس خمر محاطا بكؤوس من أنواع مختلفة من
الكحول ولا يكاد يفرق بينها تحت تأثير السكر، ويقول: "سربي..سربي..(صُبّ
الخمر)..الليلة نعمر راسي..لا زهر لا ميمون وكحلونا لقلوب" ونفهم من موضوع
الأغنية أنّ خالد لجأ لشرب الخمر لكي ينسى حقيقة هجران الحبيبة الذي اثّر
فيه. ويتطرق المغني في "ادّاتني السّكرة الدّاتني"(19) للموضوع نفسه. وهي
أغنية حملت نبرة حزينة ويقول في مطلعها: "اداتني السكرة..اداتني..زوّجها
منكر وهي لا خبر..اداتني السكرة..اداتني المحنة اداتني..لازواج لا
دار..العقبة واعرة" أين يغني عن حبيبة تعلق بها قبل أن يزوّجها والديها
ويبعدانها عنه غصبا. ويُقرّ صاحب "ديدي" "أعشق النّساء والكحول، ولكن مع
احترام، دائما، طقوس العائلة وميول الآخرين"(20).
"شرب الخمر" واحدة من الحقائق التي تلقى رفضا، قاطعا، من طرف المجتمع،
ومختلف المرجعيات الدينية والاجتماعية، في الجزائر. مع العلم أن السلف
الصالح اقترح علاقة مختلفة، تميل إلى الليونة وعدم التعصب في الحكم على شرب
الخمر. ويذكر أن أبا طالب بن عبد المطلب (عمّ الرّسول – ص) كان ينادم
مسافر بن عمرو والعباس بن عبد المطلب ( أيضا عمّ الرسول – ص) يُنادم أبا
سفيان صخر بن حرب وكان الزبير بن عبد المطلب يُنادم سادة أشراف. وقال امرؤ
القيس:
"خلت لي الخمر وكنت امرأٌ عن شُربها في شُغُل شاغل
فاليوم أُسقى غير مستحقب إثما من الله ولا واغل"
لما نعيد النظر في طريقة الحكم على الشُّرب وعلى المدمنين عليه وتناول
الموضوع من طرف مغنيي الرّاي، نلاحظ الخلط الواسع الذي يقع فيه كثير من
الناس، وهو ما يعبر عنه الشاب صحراوي قائلا: "للأسف لا يفرق الكثيرون بين
مغني الراي والمواضيع التي يتحدث عنها. فلو تحدث عن الخمر سيتم اعتباره
مباشرة مدمنا ومنحرفا أخلاقيا. رغم أن غالبية المغنين يتعرضون لمواضيع
سمعوا عنها أو طُلب منهم تأدية أغنية حولها ". صار مغني الراي، مع تنامي
الخطاب الديني العدائي، مرادفا لأوصاف: سكير، منحرف، لاأخلاقي، وهي أوصاف
تروج لها الجهات الدينية المحافظة بغية إثناء الجموع عن الاستماع للاغاني
التي تحكي نظرة مختلفة للحياة تختلف عن نظرتهم المنغلقة حول "حياة ما بعد
القبر" والتي ترفض الخوض في أسئلة الراهن، الأكثر استعجالا والأكثر حساسية.
غالبية مغني الراي يكتبون ويؤدون أغاني تعبّر عن حالات ليست بالضرورة
شخصية، ويحاولون احترام المشاعر العامة، ونشير هنا لما جرى في حفل نشطه
الشاب خالد رمضان 2008، وردة فعله لما هتف الجمهور عاليا: "يا خالد…قرعة
ويسكي" فرد بابتسامته المعهودة: "يا جماعة حرام…رانا في رمضان".
* * *
يذكر أن الخليفة الأموي يزيد بن معاوية كان أول من جمع بين الشراب
والغناء. أما الرشيد فكان يشرب في يومين من الجمعة : الأحد والثلاثاء، وما
رآه احد قط يشرب نبيذا ظاهرا(21). وراح الطبيب الفارسي أبو بكر محمد بن
زكريا الرازي يعدد فوائد الخمر قائلا: " منافع الشراب المتخذ من العنب
كثيرة، منها أنه يمدّ الحرارة الغريزية وينميها وينشرها في جميع أقطار
البدن بأوفق وأنفذ وأسرع وأصلح من جميع ما يعرف من الأغذية". مع العلم أن
العرب ما يزالوا يتداولون المثل القائل: "إذا زاد الشيء عن حده انقلب إلى
ضده" ويربطون بينه وبين الإسراف في شرب الخمر.
من بين القضايا المتفق عليها أن أغنية الراي، في الجزائر، تحاول مسايرة
جملة التحوّلات الاجتماعية ومقاربة هموم الحياة اليومية. وليس من المنطقي
إلغاء الخمر من رقعة الحقائق الحاضرة، بقوة، في العادات الممارسة رغم ما
يواجهه من رفض ومنع. ولا ترمي أغنية الراي سوى إلى لعب دور "المرآة" والبوح
بما يدور في الأطراف الخفية من المجتمع الذي تعيش فيه، فقد جاء على لسان
الشاب خالد في أغنية "وهرَن…وهرَن" المستمدة من إرث الراحل أحمد وهبي: "وصي
على الناس…تركوا دينهم وتبعوا الكأس..يزينا (يكفينا) من الكأس
والمائدة..راها عشرة بلا فائدة" في بيان صريح من اجل الاعتدال في شرب
الخمر..
الثلاثاء أغسطس 16, 2011 10:05 pm من طرف Admin