حسين حاصلوقف بجانب
الباب وأدار ظهره ناحيته ليواجه محدثيه؛ شعر بقرب أنفاسها الساخنة تكاد
تلفح جزءاً من كتفه، تعالى على كل ذلك وكبح رغبته المستميتة في الالتفات
نحو المصدر، بدأت الأمسية، صفق الحاضرون، عقله استعصى وغادرهم .. لم يكن
معهم أبداً منذ البداية، كان يكتفي بالتلويح لها عن بعد ويصفق بيده اليسرى
مطبطبا على كتفه الأيمن المخلوع بجانبها .. تراءت له الأحلام الفسفورية وشع
منها بريقا أنثويا كاد يلتهم قلبه ويحاول شده الى منطقتها المحصورة في
زاوية معتمة البهجة..
صديقه بجانبه يحادثه: ما
رأيك؟.. يلتفت إليه تائها: ماذا؟ آه رأيي .. رأيي في ماذا؟ّّّ!، صديقه
فاغرٌ فاه: رأيك في ماذا؟! أين كنت بالضبط وما الذي يشغل بالك؟؛ أنسيت أنك
من أعد تلك الخطوات؟، كنت تقاتل يومها وأنت تعد الكلمة وترص الأحرف وتحرص
على قراءتها لتتأكد من تلك الدقائق المعدودة التي ينبغي ألا تتجاوزها،
أنسيت تلك المقطوعة الخاصة بك والتي رحت تشدو بها بين لحظة وأخرى:
تبا لكِ لقد استطعتِ
النيل مني
بالياسمين دعوتِ لي ..
وبالأقحوان حكمتِ علي ..
وبالمبتلى بقيتُ أنا..
في حكايا الخلود ..
فمن ينتشلُني .
كنت تقول أن عقلك حينها
كان يقاوم اللهو مع صبيان تلك السراديب المغرورة وتردد:
سأذهب سأمضي ..
في البعيد البعيد
مع رفيف الضحى ..
هناك أنكوي وأغازل سني
فلن يستطيع الخصوم بقلبي
أن يوهموه بالغدر عنوة
..
فأنتِ خجولة رغماً عنكِ
وقلبي أحبُكِ رغماً عني
وأنتِ كسوته بالضيم
مضني.
أنسيتُ كذلك أنك من حرص
على ترتيب تلك الإيقاعات المعزوفة؟ أتذكرها جيدا؟!، لقد أسمعتني إياها
كثيراً وأنت تتباهى بتلك المقطوعة الساهمة في وديان العشق يليها بزمن
مقطوعة مجروحة تتأفف من كل شيء وتسخر من كل شيء، ياه تلك المقطوعة بالفعل
كانت حزينة وشعرت بقربها وكأنها حكاية مأساة لا مجرد مقطوعة موسيقية ضالة ،
أنسيت كذلك ذلك اللحن
الذي حرصت على أن يكون متناغما مع شعورك المتألق في البوح ببعض أسرار النفس
الخبيثة التي يمتلئ ويكتظ بها ذلك المكان غير المريح؟.. يتلفت: استيقظ
وانهض ها قد بدأ الجمهور يقف ليعيد التصفيق، صدقني أنت جديرٌ بأكثر من ذلك،
ومن مجرد تصفيق، أنسيت.......
صديقه يتلفت ويثرثر
أنسيت أنسيت أنسيت !، هو تماماً يسبح في ملكوت آخر.. لم ينسى شيء لأنه لم
يسمع شيء، كان كتفه هو كل ما يشغله، وتلك الأنفاس هي كل ما يسيطر
عليه، لحظتها كان مع نشوة تلك النفس المسئول الأول عن ضياعه الوقتي..
بالفعل كم يجدر بها أن تحترم عقولنا فها هم الناس أجمعهم مشغولون بصيحات
وتصفيق وتهليل، وهو في عالمها الخاص لا يشعر بشيء أبداً مما حوله من كل ذلك
العالم.. خلقت عالم موازي جعلته يعيش فيه زمناً يعاني الأرق
والهزال، فانسل عقله تماماً وتركه لوحده دون أن يلهمه بمصباح ضوء خشية غدر
الظلام، أو وكرة باب يديرها لفتح باب الخروج في لحظة استيقاظ مباغتة، أو
حتى بصيص من نور ليتبين طريقه في الصعود أو الهبوط..
هو كأنه يعيش لحظة عدم؛
أمامها متسع لا نهاية له وخلفها متسع لا نهاية له وبالمثل جوانبها، فراغ
رهيب لا تتلمس من أجزاءه شيئا، فقط بعض العتمة والكثير من الظلام، والأكثر
من الأشياء السوداء عقيمة الفكر التي تحيط حكايته من كل جانب، تدور بإسلوب
قبيح للغاية ولكنه في نفس الوقت ممتع وحزين لأنه يأخذ به الى مساحات واسعة
من الاختلاء مع النفس والروح ليصقلهما الاثنتين.. وبين لحظة وأخرى ما زال
يشعر بأنفاسها الساخنة تلفح ظهره فيحاول أن يحرك كتفه الأيمن الملاصق لها
قليلاً وببطء شديد دون جدوى؛ كمن تخشب في وضعيته وانفصلت عنه الحركة
الفسيولوجية التي يجب أن يقوم بها جزءا من أطرافه بين لحظة وأخرى حتى لا
يدخل في غيبوبة العدم.
هزة قوية على كتفه
الأيسر تكاد تقتلعه من مكانه، فجأة يشعر بسريان الدم يعود مرة أخرى الى
تفاصيل جسده الذي ظل هامداً يسخر من أحداث الزمن، بدأ يشعر بتدفق الدم كأثر
المخدر وهو يسري في العروق.. يفرك كتفه بقوة ويلتفت الى صديقه باسما:
صدقني صدقني لم أنسى أبداً؛ ليس لأني لم أسمعك منذُ لحظات، بل لأني لا
أستطيع البوح لك بشيء عنها، ولا أستطيع أن أكرهها يوماً ، ولأنها تستحق
الذكر، هي فقط مجردة من تلك العوامل الحمقى تستحق الذكر، ظننت لوهلة أنه
حتى مجرد التذكر يجب نسيانه يا صديقي ولكن ذلك ما زال يصفعني بقوة.. اطمئن
يجب أن نخدع الشعور ونوهم أنفسنا بأن تلك هي مجرد عشوائيات تبعدنا عن
أهدافنا الكبرى في تلك البسمة.
- أي بسمة تقصد؟!
- تلك التي نخطط لها منذ زمن؛ نسقي
أرضها بالأحلام والحب ونزرع فيها الروح.
- أأستيقظت فجأة من سباتك لتحدثني
بالألغاز؟
- ضحكة ممتعة: دعك من كل ذلك لن
تفهمني جيداً، ولا أظنك ستفهمني على كل حال حتى لو أوضحت، فقط خذ بيدي
لأنهض، آه نسيت إني واقفٌ أصلا !!، لقد سئمت هذا الكتف الأخرق، يا له من
غبي؛ يتخدر للحظات فيرسم خيالا سخيفا يكاد يعصف بنا وينسينا العديد من
اللوحات الجميلة التي تمتلئ بهم أرصفة السعادة ، أرصفة الروح والحياة؛ تلك
التي تعج بهم طرق المحبة والوفاء، ثم انطلق بصفير هادئ يتمتم بشعر درويش
وهو في طريقه الى الخروج:
أما أنا
وقد امتلأتُ
بكل أسباب الرحيل
فلستُ لي
أنا لستُ لي
أنا لستُ لي.
الثلاثاء مايو 24, 2011 4:47 pm من طرف سميح القاسم