الجزائر في عين الإعصار: البلد العربي الثالث المرشّح لثورة الشارع تظاهرات تطالب باسقاط الحكم في الجزائر أول من أمس (بوريس هورفات ــ أ ف ب)
من بين ما يجمع تونس ومصر هو هرم ومرض رئيسيهما، زين العابدين بن علي
وحسني مبارك. لكنهما ليسا الوحيدين، فالسعودية لها أيضاًً ملك مريض، كما أن
اليمن لها حاكم مريض، وكذلك الجزائر. وتحدَّثَ مرّة أحدُ أهم أطباء فرنسا
(دوبري) عن إصابة عبد العزيز بوتفليقة بالسرطان. وغير قليل من المراقبين
يرون أن الجزائر مُقبلة على تحول سياسي. لكن كيف وصلت إلى حالة عدم
الاستقرار؟
بشير البكر
بصفة إجرائية، يمكن الحديث عن أربعة عناصر
مؤسّسة، أوصلت الجزائر إلى حالة «الرجل المريض» في شمال أفريقيا والمغرب
العربي، بعد انهيار النظام التونسي. دامت نشوة حزب جبهة التحرير الوطني
الجزائري من سنة 1962 إلى سنة 1988، حيث كان لا بد من تغيّر ما، ولم يكن
الأمر سهلاً، فالتصفيات كانت رهيبة، أثناء حرب الاستقلال وبعدها، حيث أُطيح
أول رئيس جمهورية (أحمد بن بلّة)، وأُرغم قياديون مهمّون على سلوك طريق
المنفى (آيت أحمد ومحمد بوضياف وآخرون). وجاء رجل الجزائر القوي هواري
بومدين، الذي حكم بيد من حديد، وكانت ظروف حكمه سهلة، قياساً بالمقبل من
الأيام، فالنفط كان سلاحاً فعّالاً ومُدِرّاً لريع هائل، كما أن المرحلة
كانت مرحلة القومية العربية، في ظل وجود جمال عبد الناصر، والنضال
الفلسطيني.
بعد رحيل هذه الشخصية الكاريزميّة، في ظروف غامضة، جاء عقيد أميّ هو
الشاذلي بن جديد، الذي هدد بالزحف على العاصمة، إن لم يسمح له بتولي
السلطة، وكانت سنواته من أكثر سنوات الثورة الجزائرية قتامة ورتابة، وفيها
ظهر نفوذ الجنرالات وسعيهم إلى تكديس الثروات ونهب الأموال العامة، وعلى
رأسها الريع النفطي. وكان لا بد للفساد من أن يدفع المواطنين الجزائريين
إلى لفظ النظام وإظهار المقت الشديد له. من هنا، جاءت المرحلة الأولى،
مرحلة التغيير الديموقراطي، وسط شعور عام بضرورة حصول تحول جديد من أجل بعث
روح جديدة، ومن أجل تجديد النظام لنفسه، كما تفعل الأفعى مع جلدها، حتى لا
يسقُط كثمرة ناضجة، وتجلّى الأمرُ في نهاية الحزب الواحد خلال خريف الغضب
في تشرين الثاني 1988، وبدأ الشعب الجزائري يرى ظُهور أحزاب جديدة، وهو ما
منح بعض الأمل للتخلص من الديكتاتورية والاستبداد.
تطبيق التعددية واختبارها قادا إلى أول انتخابات ديموقراطية في البلد، لكن
الشيء الذي لم يَدُر بِخَلَد الحزب الحاكم السابق، المتنفّذ دائماً،
وأيضاً الجنرالات، أن الانتخابات ستُسقط مرشحي النظام والجيش، في الدورة
الأولى من الانتخابات، وتعطي الفوز للجبهة الإسلامية للإنقاذ، المعتمدة على
زعيمين، الشيخ عباسي مدني ونائبه الكاريزمي الشيخ علي بن الحاج. ولأن
الدورة الأولى كانت خسارة رهيبة للعسكر وممثليهم السياسيين الذين كانوا
يدّعون الانتماء للثورة والدفاع عن مبادئها، فقد قرر الجنرالات وقف هذا
الانتقال الديموقراطي سنة 1992، فألغوا الدورة الثانية من الانتخابات تحت
شعار، فيه ما فيه من الوصاية على خيارات الشعب وذكائه، جرى استيراده من
فرنسا، وهو: «لا ديموقراطية لأعداء الديموقراطية». وشن الجنرالات حرباً
دموية رهيبة على أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وللتاريخ، يجب الاعتراف
بتصريح متأخّر للرئيس الشاذلي بن جديد عن إحساس بالندم لسرقة الانتصار من
الإسلاميين. هنا، كان لا بد من مجيء المرحلة الثانية، والضرورية والمنطقية.
وبالفعل عاشت الجزائر حرباً أهلية رهيبة، وفظاعات تشبه فظاعات الاستعمار
الفرنسي، إن لم تتفوق عليها. قرى كانت تباد بأكملها، بأطفالها وشيوخها.
الدماء في كل مكان. والخوف أيضاً، وعرف المثقفون والفنانون الجزائريون فيها
ظروفاً صعبة، حيث كانوا مستهدفين، فاغتيل الكثيرون منهم، وآخرون فضّلوا
اللجوء إلى دُول الجوار (المغرب وتونس) وإلى فرنسا. وفي هذه الظروف
القاسية، من حرب الجزائري لأخيه، التي دامت عشر سنوات، خرجت الجزائر منهكة
بالفعل، اجتماعياً واقتصادياً وبشرياً، حيث تجاوز عدد القتلى مئة ألف
جزائري، كما أن شرْخاً اجتماعياً عميقاً بدا ظاهراً، ولا يزال، بين أناس
ذوي اتجاهات إسلامية ومن يتحدّثون عن المجتمع المدني، وخصوصاً أنه لا شيء
يدل على انتصار طرف على آخر. في هذه الظروف القاسية، عرفت الجزائر مرور
رؤساء جمهورية عديدين، اغتيل أحدهم، وهو محمد بوضياف، في ظروف غامضة، تكشف
غموض جنرالات الجزائر. فالرجل الذي أحضر من منفاه المغربي، جرت تصفيته لأنه
بدأ يعد الشعب بالشفافية ومحاسبة اللصوص والنهّابين.
كان لا بد للحرب «الأهلية» الجزائرية أن تتوقف، فالمحاربون يحتاجون إلى
استراحة، علّها تتحول إلى هدنة وبعدها إلى سلام نهائي. وهو ما جاء في
المرحلة الثالثة، مع استقدام الجيش، الفاعل الدائم والصانع الحقيقي لرؤساء
الجزائر، الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. والجميع يعترف بقدرات الرجل، الذي
كان أصغر وزير خارجية في العالَم، حين خدم الرئيس الهواري بومدين. ولعل
الاختلاف كبير بينه وبين رؤساء آخرين سبقوه، هو أنه صاحب كاريزما يحسده
عليها الكثيرون، ويتقن اللغتين العربية والفرنسية، وهو ما يجعله يخاطب كل
أصناف الجزائر وشرائحها، العروبيين والفرنكوفونيين على السواء. واستطاع
بحسّه، كثعلب سياسي، أن يجد العلاج للجرح الجزائري العميق، فأطلق سنة 1999
مشروع «الوئام الوطني»، واستطاع من خلاله، إقناع عشرات الآلاف من الجماعات
الإسلامية بالنزول من الجبال وإدماجهم في المجتمع، رغم أن مئات من
الأصوليين لا يزالون يناوشون السلطة، تحت لافتة «القاعدة في بلاد المغرب
الإسلامي». لا يمكن أحداً أن يستهين بنجاح مشروع «الوئام الوطني»، فعودة
السلام والأمن شيء ضروري لبناء البلد. لكن هذا لا يكفي، فالشعب يطالب
بأشياء أخرى عديدة. كان باستطاعة بوتفليقة أن يقدم إجابات على مختلف
الأزمات والمَشاكل التي يتعرض لها المُواطنون، وخصوصاً الشباب. لقد أصبح
المواطنون الجزائريون جميعاً مُحلّلين اقتصاديين، وباتوا يرون تكدس
العائدات النفطية، التي تقترب من 200 مليار دولار، لكنهم يعيشون البؤس
والبطالة المتفشّية، إنْ بين أصحاب الشهادات العليا أو بين عموم الشعب. من
كان يتصوّر إقدام جزائريين على إحراق أنفسهم؟ لا تزال مشكلة السكن مطروحة
بقوة في المدن الكبرى، كما أن قضية التوظيف والتشغيل لا تزالُ القضية
المركزية للجزائريين، الذين يفكر العديد منهم في الهجرة، على الرغم من تشدد
السلطات في مقاومة الهجرة السرية في تنسيق صريح مع الدول الأوروبية.
الشبيبة الجزائرية غاضبة لأنها لا ترى أفقاً أمامها، ويزداد غضبها حين ترى
ما يشبه البقر السمان، الذين أتوا مع نظام السادات، في مصر، يزدادون غنى.
لقد أصبح هناك، وعلى نحو فاضح، جزائران: جزائر الفقراء وجزائر المحظوظين.
والجيش، الذي يفترض أن يكتفي بأداء دوره الدستوري في حماية البلد، انهمك في
الفساد والبيزنس، كما كان زمن الشاذلي بن جديد.
كل هذه المراحل أوصلت الجزائر إلى هذه الحالة التي تعيشها اليوم: رئيس
جمهورية مريض جداً، ومحاط بعائلته وبطانته الفاسدة، وجنرالات لم يتوقفوا عن
نهب البلد، وشبيبة جزائرية يائسة أو مدفوعة لليأس والانتحار، بمعنَييه
الحقيقي والمجازي. جيوش هائلة من شباب «حيطيست» (شباب يظلّون متكئين، طوال
النهار، على الحيطان في انتظار ما لا يأتي: سكن أو شغل أو هجرة) مُهمَّشين،
لا يجدون لأنفسهم مكاناً في كل التركيبة الراهنة. وتزداد مرارتهم، حين
يسمعون خطاباً رسمياً يتحدث عن عمل الحكومة لحل مشاكله، فلا يرون سوى صفقات
تسلح رهيبة مع الخارج، قد تفتح البلد على آفاق مجهولة.
السؤال الملح، الآن، في هذه الأوقات، هو هل ستقوم الشبيبة الجزائرية
بثورتها على الطريقتين التونسية والمصرية؟ لقد حصلت أول من أمس محاولة
لتنظيم تظاهرة في العاصمة الجزائرية، لكن عدد المشاركين فيها كان ضعيفاً.
وهنا تختلف الأسباب التي يمكن أن تُفسّر الأمر. ولعل الوصف الدقيق هو: بضعة
آلاف من المتظاهرين في مواجهة 30 ألف شرطي. وإن كان من إنجاز لهذه
التظاهرة التي استلهمت روح الثورتين التونسية والمصرية، فهو تكسير حاجز
الخوف، وإن كان العديد من منظّميها يرفضون المبالغة في تشبيهها بالثورة
المصرية. لكن المراقبين للتحركات الجزائرية يلاحظون أن المشرفين على هذا
النوع من التظاهرات مختلفون سياسياً، فأنصار رئيس «التجمع من أجل الثقافة
والديموقراطية» سعيد سعدي، وهو أمازيغي من منطقة القبائل، (والبربر في
الجزائر أقلية مقارنة بنسبتهم في المغرب) الذين يحاولون أن يظهروا بمظهر
المُوجّه لهذه التظاهرات، موجودون بجانب أعضاء سابقين من أنصار الشيخ علي
بن الحاج.
يبدو الأمر في الجزائر وكأن البربر الأمازيغ هم الذين يخوضون النضالات من
أجل الديموقراطية والحرية وتغيير النظام، في غياب العرب، ويرجع السبب إلى
حركية سعيد سعدي والشعبية التي يحظى بها في فرنسا. لكن الحركة البربرية
غير مُوحَّدَة بالطبع، وتنخرها خلافات وانشقاقات، وهو ما جعل الرئيس
بوتفليقة يشق حزب سعدي، و«يسرق» إحدى مناضلاته، خالدة تومي، ويمنحها وزارة
الثقافة. وبالإضافة إلى حزب سعدي، هناك حزب آخر أكثر أهمية (جبهة القوى
الاشتراكية) وكان يترأسه أحد قادة الثورة الجزائرية، وهو حسين آيت أحمد،
إضافة إلى حركات «العروش»، التي تطالب بالحُكم الذاتي في منطقة القبائل.
أنصار الرئيس بوتفليقة كُثر، فعدا أنصار جبهة التحرير الوطني (الموجودين
في أحزاب عديدة)، هناك الكثير من الإسلاميين (حماس وغيرها). كما أن ثمة
مؤسسات مهيمنة ومستبدة، من بينها «أبناء الشهداء»، لا تزال بجانب الرئيس.
الذين يتصوّرون أن الأمور ستكون سهلة للتغيير، لا يعرفون الخصوصية
الجزائرية، فالبلد لا يزال منهكاً بعد حرب أهلية قاصمة لم تُبْق شيئاً، كما
أن الثعلب بوتفليقة استطاع شقّ معظم الأحزاب، إسلامية كانت أو أمازيغية
(وزيرة الثقافة خالدة مسعودي تومي (صاحبة كتاب: «جزائرية واقفة»)، كانت
قيادية في حزب سعيد سعدي الأمازيغي، وانضمت إلى بوتفليقة)، إضافة إلى أن
بوتفليقة يمكنه دائماً أن يتذرّع بأنه وصل إلى السلطة عن طريق الانتخابات.
مسيرات يمنيّة واستنفار ليبيتتواصل المسيرات الاحتجاجية في عدد من الدول العربية، فيما تسعى دول
أخرى إلى إجهاض أي تحركات مماثلة. وفي اليمن، نظّم متظاهرون أمس مسيرة
احتجاجية إلى القصر الرئاسي في العاصمة صنعاء، للمطالبة بتغيير النظام، قبل
أن يصطدموا بقوات الأمن التي نصبت الأسلاك الشائكة على بعد ثلاثة
كيلومترات من القصر.
في هذه الأثناء، تحاول السلطات اليمنية تكرار سيناريو «البلطجية»، من خلال
تعمّد أشخاص بلباس مدني الاعتداء على المواطنين الذين يخرجون للتظاهر في
صنعاء ومدن أخرى، ومن بينها مدينة تعز، التي تشهد منذ يومين احتجاجات
متواصلة أدت إلى القبض على أكثر من 35 شخصاً.
في غضون ذلك، أعلنت أحزاب المعارضة اليمنية ممثلةً بـ«اللقاء المشترك»
قبولها مبادرة الرئيس علي عبد الله صالح العودة إلى الحوار، ضمن شروط
محددة، فيما رفض «الحراك الجنوبي»، الذي يدعو إلى فكّ الارتباط بين الشمال
والجنوب، مبادرة لإقامة نظام فيدرالي.
وفي الأردن، أصيب شخصان أمس بجروح أثناء اعتصام نفّذه عدد من أبناء عشيرتي
الزواهرة والخلايلة في محافظة الزرقاء، على خلفية احتجاجهم على منح أراضٍ،
يقولون إنهم يملكونها، لمؤسسات حكومية.
أما في العراق، فقد أعلنت وزارة الكهرباء العراقية أن المواطنين سيحصلون
على ألف كيلوواط ساعة من الكهرباء مجاناً شهرياً، وذلك عقب احتجاجات على
ضعف إمدادات الكهرباء والخدمات الأساسية.
من جهتها، تشهد ليبيا استنفاراً أمنياً منذ أيام على خلفية دعوات أطلقها
ناشطون على موقع «فايسبوك» للخروج في تظاهرات في السابع عشر من الشهر
الجاري، فيما حذر الزعيم الليبي معمر القذافي مواطنيه من استخدام الموقع
بهدف الإخلال بالأمن في البلاد.
في هذه الأثناء، أعربت منظمات حقوقية سورية عن قلقها الشديد إزاء التدهور
المقلق للوضع الصحي للناشط غسان النجار، الذي اعتقل في الرابع من الشهر
الجاري، بعدما دعا إلى التظاهر للمطالبة «بالإصلاح والتغيير»، فيما ندّدت
الولايات المتحدة بمحاكمة سوريا سراً المدوّنة طل الملوحي المعتقلة منذ
كانون الأول 2009، مطالبةً بإطلاقها فوراً. إلى ذلك، توفي شاب مغربي أول من
أمس متأثراً بجروح أصيب بها، بعدما أحرق نفسه احتجاجاً على تسريحه من
الجيش، وظروف معيشته.
(أ ف ب، رويترز، يو بي آي)
الديكتاتوريات العربـية بداية النهاية