في الشارع العربي عيونٌ
محدّقة، وألسنٌ تلوك الاستغفارات والدعوات لمرأى عاشقين يسيران متشابكي
الأيدي، فالحب حرام وجريمة بحق الشرف!
في الشارع نفسه عيونٌ محدّقة، وألسنٌ تهتف لتزيد من حماسة شابين يتعاركان
كديكين يتنازعان على زعامة هذا الشارع أو ذاك، فالدم المقدّس يغسل عار
الهزائم!
لطالما كان الحب بثالوثه الروحي والجسدي والعقلي التعبير الأسمى عن الذات
الإنسانية وحق الإنسان في الوجود، وفي فترة يحتفل فيها العالم أجمع بعيد
الحب، تتساءل الشوارع العربية هل اختفى الحب من مجتمعاتنا؟!
هل اقتصر الحبّ في مجتمعاتنا على طلاء واجهات المحلات باللون الأحمر ليغدو
كل شيء من الحذاء إلى الهدايا وحتى الألبسة الداخلية تعبيراً عن احتضار
المعاني الكبرى، وتفريغها من محتواها؛ شأنها شأن كافة الشعارات والمبادئ
بدءاً من الوطن والقومية وانتهاءً بالدين!
يذكر صادق جلال العظم في كتابه "الحب والحب العذري" أن للحب بعدين
أساسيين: الاشتداد والامتداد. ويرى العظم أن المجتمعات العربية والمحافظة
بشكل عام تعيش الحب من خلال منظور الامتداد، حيث تعتقد أنها تصون نفسها
بصيانة الأخلاق السائدة والقيم الدينية التي تحارب العلاقات الغرامية
والاشتداد في الحب، ومن هنا نلاحظ ميل أغلب العاشقين في هذه المجتمعات إلى
كتمان اسم المحبوبة خوفاً من أن يعرفها أحد.
ويرى العظم أن هذه المجتمعات تعبر بشكل شبه مرضي عن حالات الكبت التي
تعيشها من خلال قصصها الشعبية المليئة بالجنس والعلاقات الغرامية، وحسبنا
أن نذكر هنا قصص ألف ليلة وليلة التي تتمحور حول الجنس، وكتاب "نوادر
الأيك.." للسيوطي، وكتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي وغيرها
الكثير.(1)
هل طغت نزعات الحرب والكراهية والقتل والسبي والاغتصاب على مجتمعاتنا،
فبات الحب حسب مقاييس اليوم حب الله ورسوله والجهاد في سبيل إثبات هذا
الحب؛ وإثبات هذا الحب بحسب جهابذة الدعاة والشيوخ الإسلامويين يكون
بكراهية الآخر، أيّ آخرٍ لا يوافقنا في رؤية أو فكرةٍ ما.
وإذا أردنا أن نفهم الواقع الذي نحياه فلنعد إلى الأصل، إلى القرآن الكريم، فأين نجد الحب -خاصة بين المرأة والرجل- بين نصوصه؟
كتب د. محمد حسن عبد الله أنه ظلت كلمة "الحب" أكثر الألفاظ دوراناً في
القرآن الكريم، والحديث الشريف، من أي كلمةٍ أخرى تعبر عن معناها أو عن
جانب من هذا المعنى، فلم ترد كلمة "العشق" في القرآن مطلقاً، وجاءت مرة
واحدة في الحديث: "من عشق فعفّ وكتم ثم مات فهو شهيد"، لكن ابن القيم ينكر
هذا الحديث ويصفه بالبطلان وبأنه لا يشبه كلام رسول الله، وقد صح عنه أنه
عدّ الشهداء ستاً ولم يذكر منهم قتيل العشق.
ومن المثير للاهتمام أن كلمة الحب لم ترد كتعبير عن علاقة الرجل بالمرأة
في القرآن الكريم إلا في سياق قصة يوسف وامرأة العزيز (قد شغفها حباً)
وحينئذ فإن تقديم "الشغف" –وهو من شغاف القلب أي الباطن أو الصميم- قد خلع
على هذا الاستعمال نوعاً من التخصيص أعان عليه السياق.(2)
ومع ذلك فهذا لا يسوغ للمجتمعات الإسلامية إزهاقها المستمر لروح الحب،
فتراث السيرة النبوية يزخر بالأحاديث والروايات التي تثبت تقدير الرسول
للحب والمحبين، فهاهي عائشة تروي عن حب الرسول لها: ذات مرة سألتُ رسول
الله: كيف يكون حبك لي؟
فقال: كالعقدة في الحبل.
فكنت أغيب فترة ثم أسأله: كيف حال العقدة؟
فيجيب: هي على حالها..
وكان العديد من الصحابة لا يذكر عائشة بصفتها كأم للمؤمنين أو كزوجة
للرسول بل بصفتها كحبيبة له، فكان مسرور بن مسعود كلما روى حديث عن عائشة
يقول: "حدثتني حبيبة حبيب الله عز وجل"، وكان عمار بن ياسر في جلسة وتكلم
أحد الحاضرين بالسوء عن عائشة فقال: "اصمت قبحك الله أتتكلم على حبيبة رسول
الله"، ويقول أنس بن مالك أن أول حب في الإسلام كان حب رسول الله لعائشة.
وهناك الرواية الشهيرة التي يأتي فيها إلى الرسول رجل يسأله: يا رسول
الله، تقدم لابنتي رجلان، واحد موسر (غني)، والثاني معدم (فقير)، فيرد عليه
الرسول: فمن تهوى ابنتك؟، فقال: المعدم ونحن نريد الموسر. فقال الرسول: لا
أرى للمتحابين إلاّ النكاح.
فإذا كان الحب حراماً خاصة قبل الزواج، فلماذا يدافع الرسول عن علاقة الحب
هذه؟!، ولماذا يصف أكثر من صحابي عائشة بحبيبة رسول الله؟!، لقد حان الوقت
لإعادة قراءة التراث العربي والإسلامي من جديد فيما يتعلق بأكثر الظواهر
صحةً وسلامةً لعقل وروح وجسد الإنسان، فإذا كانت ثقافة الحب تُحتضر مجدداً
في المجتمعات العربية بعد ازدهارها في الخمسينيات والستينيات من القرن
المنصرم!، فماذا سيبقى للشباب العربي عدا عن ملجأ ثقافة العنف بمعناه
الجسدي والنفسي والفكري والاقتصادي..؟!