تحت هذا العنوان أصدر البروفيسور كريستيان غيملي، الأستاذ في جامعة مرسيليا، كتابا يستحق الاهتمام والعرض. وقد تحدث فيه عن رواد الفكر الاجتماعي في أوروبا، وفي طليعتهم دوركهايم. ومعروف عنه أنه كان أحد المعجبين الكبار بالفيلسوف أوغست كونت، بعد أن تربى في أحضان فلسفته: أي الفلسفة الوضعية. كان دوركهايم أول من اكتشف خصوصية الظاهرة الاجتماعية، هذه الخصوصية التي تشكل الموضوع الأساسي لعلم الاجتماع. في الواقع إن الظاهرة الاجتماعية تعني استقلالية الجماعة بالقياس إلى الأفراد. فالجماعة لا تعني مجموع سلوك الأفراد أو خصائصهم، وإنما هي تتجاوز ذلك أو تختلف عنه. والجماعة هي التي تفرض على الأفراد التزامات وإكراهات تتجاوزهم ولا حيلة لهم بها. نقول ذلك ونحن نعلم أن كل نظرية دوركهايم مبنية على هذا الأساس: أي أولوية المجتمع على الفرد. فالمجتمع هو الأهم، وهو الذي يفرض قيمه على الفرد وليس العكس. من هنا نشأ علم الاجتماع. ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني أن الوعي الجماعي هو الذي يصوغ المواقف الفردية أو السلوك الفردي. فالجماعة تؤثر كثيرا على الفرد وتصوغ عقليته بطريقة من الطرق. والدليل على ذلك أن الفرد الذي يولد في المجتمع الأوروبي يختلف كثيرا في تصرفاته وسلوكه عن الفرد الذي يولد في المجتمع العربي أو الإسلامي مثلا. وهذا ما نستطيع أن نلاحظه بسهولة. إن أولوية الجماعة على الفرد هي التي تشكل جوهر الفكر الاجتماعي.
كان دوركهايم قد نشر عام 1912 كتابا أساسيا بعنوان «الأشكال الأولية للحياة الدينية». وفيه يبرهن على أهمية العقائد الجماعية بالنسبة لحياة المجتمعات. ويبرهن أيضا على أن التصورات الدينية هي تصورات جماعية، أي تفرض نفسها على الأفراد من خلال المجتمع. وبالتالي، فإن التضاد بين التصورات الجماعية والتصورات الفردية هو الذي يشكل الجانب الأساسي من نظرية دوركهايم السوسيولوجية. فالتصورات الجماعية تنتج عن قوة لا شخصية، مغْفَلة ومجهولة ومنبثة في كل أنحاء المجتمع. وهي قوة منبثقة عن المجتمع نفسه. وبالتالي، فهذه التصورات منتَجة بشكل جماعي. وبما أن جميع أفراد المجتمع يعتقدون بها، فإنها تتمتع باستقرار كبير. وأما التصورات الفردية فناتجة عن الوعي الفردي لكل شخص. وهي لا تلزم إلا صاحبها، وتكون عرضة للتغير السريع، على عكس التصورات الجماعية التي تبقى سنوات عديدة، وربما قرونا.
لقد ألح دوركهايم طيلة حياته كلها على هذا التضاد الأساسي بين التصورات الفردية/والتصورات الجماعية. فالتصورات الجماعية تفرض على الفرد قيودا محدودة في فترة ما من فترات التاريخ، أي ما دامت سائدة وراسخة. ولكنها قد تتغير بعد زمن طويل لكي تحل محلها تصورات جماعية جديدة. نضرب على ذلك مثلا، المجتمع الفرنسي. فالتصورات الجماعية التي كانت مهيمنة عليه قبل الثورة الفرنسية، غير التصورات الجماعية التي هيمنت عليه بعدها. وداخل هذه التصورات الجماعية يجد الفرد نفسه مدعوا للتفكير والممارسة وإطلاق الأحكام على محيطه المادي أو الاجتماعي. لقد كانت لهذه النظرية الاجتماعية (أو السوسيولوجية) انعكاسات ثورية في عصر دوركهايم. فقد كان علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا في عصره لا يرون في أساطير الشعوب «البدائية» وممارساتها إلا نوعا من العبث والاعتباط والفوضى. وأما دوركهايم فكان يري فيها تصورات جماعية لها تماسكها الداخلي الخاص. وبالتالي، فإن نظرية دوركهايم، التي سيطورها ليفي برول من بعده، غيرت كل منظور تلك الفترة. فالأفراد الذين ينتمون إلى المجتمعات البدائية، أو المدعوة كذلك، ليسوا عاجزين عن التفكير العقلاني الذي نمارسه نحن. وإذا ما لاحظنا وجود خلافات بيننا وبينهم من حيث الممارسة العقلانية، فإن ذلك عائد إلى الوعي الجماعي السائد هناك، أي إلى المجتمع نفسه، وليس إلى عجز في التركيبة الذهنية لأبناء تلك الشعوب. فالوعي الجماعي هو المسؤول عن تشكيل التصورات الجماعية الخصوصية التي تتميز بها تلك الشعوب، وليس الأفراد كأفراد. وبالتالي، فلكي نفهم سلوك الأفراد أو طريقة محاكمتهم للأمور، فينبغي أن ندرس أولا هذه التصورات الجماعية السائدة في عصرهم.
ولكن إذا كان اسم دوركهايم مرتبطا بمفهومي «الظاهرة الاجتماعية» و«الوعي الاجتماعي»، فإن اسم العالم الاجتماعي «تارد» مرتبط بمفهوم المحاكاة أو التقليد. فهو لا يرى أن العقائد والآراء ليست مبلورة إلا نادرا من قبل الأفراد أنفسهم. وإنما هي موروثة غالبا ومؤبَّدة عن طريق المحاكاة والتقليد. وبالتالي، فإن التشابه الملحوظ بين أفراد جماعة ما، ناتج عن تكرار أفكار وأنماط المحاكمة العقلانية التي يتميز بها أحد أفراد هذه الجماعة أو بعض أفرادها. وهم يكونون عادة الأكثر إبداعا وعبقرية. وبالتالي، فإن الحياة الاجتماعية تتمركز عندئذ حول الإبداعات الفردية التي تتلوها أصداء المحاكاة والتقليد. وبالتالي فالمحاكاة تشكل، طبقا للعالم «تارد»، الرابطة الاجتماعية الأولية التي تربط بين أفراد الجماعة. وانطلاقا منها، فإن الأفراد يكثرون من النسخ طبق الأصل عن النموذج الذي يحاكونه، وذلك من خلال عدوى المحاكاة. انظر محاكاة الزعيم أو القائد.
هكذا نجد أن «تارد»، على عكس دوركهايم، يولي أهمية أكبر للمبادرات الفردية. ويعزو لهذه المبادرات عفوية حقيقية وإمكانية كبيرة على الإبداع والابتكار، وذلك في مواجهة القيود والإكراهات الاجتماعية. وضمن هذا الإطار راح يرسخ المنظور التفاعلي أو التداخلي. وكأن أسلافه من علماء الاجتماع الآخرين قد أهملوا مفهوم التفاعل التداخلي هذا، في حين أنه راح يحتل مكانة مركزية في أعماله هو. وهكذا راح يختلف مع دوركهايم في فهم كيفية استهلاك العادات الاجتماعية. فدوركهايم كان يقول بأن الفرد يستهلكها عن طريق المؤسسات الاجتماعية كالعائلة والمدرسة وسواهما، أو عن طريق القيود التنظيمية للمجتمع. وأما «تارد» فراح يفسرها عن طريق الاحتكاك الذي يحصل بين الأفراد. فهذا الاحتكاك يولد تفاعلات داخلية، وعن طريقها تستهلك الذات العقائد المهنية وأنماط الفكر التي تسيطر على الجماعة. وهكذا بلور «تارد» مصطلح علم النفس التداخلي، أو التفاعل العقلي بين الذوات، أي بين مختلف أفراد المجتمع.
وفي مجال التفاعلات الاجتماعية اهتم العالم «تارد» كثيرا بالمحادثات التي تجري بين الأفراد في مختلف المناسبات. ومعلوم أن المحادثات الشفهية تعتبر اليوم أساس الاندماج الاجتماعي، وكذلك أساس عمليات التأثير الاجتماعي للأفراد على بعضهم البعض. وفهم «تارد» طبيعة المحادثة، وعرف أن هناك علاقة وثيقة بين المحادثات الشفهية وتغيير الرأي. فالناس يؤثرون عليك، من دون شك، إذا ما تحدثوا معك، وقد يتوصلون إلى تغيير رأيك فيما يخص هذه النقطة أو تلك. ويقول «تارد» ما يلي: إذا كانت الأفكار في مجتمع ما لا تتغير إلا ببطء شديد، بل وتبدو جامدة تماما، فإن ذلك يعود إلى ندرة المحادثات بين الأفراد وانعدام حرية التعبير في المجتمع. أو قل إن المحادثات، أو المناقشات والمناظرات، تدور في حلقة ضيقة ومغلقة على ذاتها. ولكن إذا كانت المحادثات كثيرة وجريئة وحرة في مجتمع ما، فإن الآراء تبدو حيوية، متحركة، تنتقل من النقيض إلى النقيض.انظر الفرق بين المجتمع التقليدي المغلق على نفسه، والمجتمع الديمقراطي الحر المنفتح. في الأول ممنوع الكلام تقريبا أو قل محصورا ومراقبا مراقبة شديدة، وفي الثاني مفتوح على مصراعيه وحول مختلف القضايا من دون تابوهات أو محرمات.
لقد أثبت «تارد» أن المحادثة هي أهم رابط اجتماعي بين الأفراد، وهي الأكثر قدرة من حيث تأثير فرد ما على فرد آخر في المجتمع. وسبق بذلك النظريات الحديثة حول التواصل والعقل التواصلي أو الحواري (انظر هابرماس). ولكنه ساهم أيضا في بلورة مفهوم التفاعل الداخلي الذي يحصل بين أفراد الجمهور الغفير وليس فقط بين فرد وآخر. فالأفراد عندما يجتمعون في جمهور يصبحون وكأنهم في حالة تنويم مغناطيسي، وتختلف عندئذ ردود أفعالهم، مما لو كانوا قد بقوا في الحالة الفردية. فالجمهور يؤثر عليك ويجعلك تقوم بتصرفات جريئة أو حتى متهورة، ما كنت قادرا على القيام بها لو بقيت لوحدك. وهذا يعني أنه تحصل عملية محاكاة متبادلة بين الأفراد المجتمعين أو المحتشدين على هيئة جمهور. وعندئذ قد يتصرفون بطريقة غير متوقعة ولا يمكن السيطرة عليها، كما أنهم يصبحون مهيئين لقبول الأوامر التي يصدرها قادة الجمهور، حتى لو كانت هذه الأوامر لاعقلانية أو مضادة لأفكارهم في الحالة العادية (أي قبل الانخراط في الجمهور). وقد كتب غوستاف لوبون أيضا عدة أبحاث حول هذا الموضوع. وترجع شهرته إلى تأليفه عام 1895 لكتاب «سيكولوجية الجماهير»، الذي ترجمناه في بدايات تسعينات القرن الماضي ونشرته دار الساقي في لندن عان 1991. وترتكز نظريته على الفكرة الأساسية التالية: الجمهور هو كيان متماسك ينصهر فيه الأفراد انصهارا، ويصبحون عندئذ خاضعين للروح الجماعية. في الواقع إن الجمهور يضمن الهوية لكل من يساهمون فيه. وهو يضمنها أولا عن طريق إزالة كل الفوارق الطبقية أو الاجتماعية الموجودة بين أعضائه. في الجمهور يصبح الفقير والغني متساويين. وعندئذ ينسحب الوعي الفردي لكي يفسح المجال لهيمنة الوعي الجماعي. ويصبح الفرد المنخرط في الجمهور قويا، أو قل يشعر بأنه أقوى منه في الحالة العادية. يصبح مدفوعا إلى الأمام بقوة هائلة تتجاوزه. وهو إذ يتعلق بالوعي الجماعي يصبح قادرا على التضحية بمصالحه الشخصية من أجل المصلحة العامة للجمهور. ولهذا السبب نستطيع القول إن الأفراد تحولوا إلى جمهور.
ويتميز الجمهور برد الفعل الانفعالي على كل حدث خارجي. وهو رد فعل عنيف أو متطرف ويمكن أن ينتقل من النقيض إلى النقيض. على هذا النحو درس غوستاف لوبون نفسية الجماهير وأسلوب تصرفها. وهذا ما يفسر لنا تقلب الجمهور، وحركته الحيوية، وتغيير رأيه بسرعة. فالجمهور قد ينتقل من العنف الوحشي الأكثر دموية إلى مواقف الكرم والتضحية والبطولة. وبسهولة يمكن أن يصبح جلادا، ولكن بسهولة أيضا يمكن أن يتحول إلى شهيد! فعن طريق التعبئة الجهادية والتدجين اليومي قد يتحول شاب أو فتاة إلى قنبلة بشرية ويفجر نفسه في السوق أو المطعم أو أي مكان آخر ويقتل عددا كبيرا من البشر بمن فيهم الأطفال أو النساء. وهو ما كان قادرا على فعل ذلك في الحالة العادية أو الفردية، أي لولا الفتوى الدينية والتحريض اليومي والتعبئة العقائدية من قبل تنظيم أصولي إرهابي يعرف كيف يؤثر على العقول ويغسلها تماما. والجمهور يتحرك عن طريق العدوى العاطفية التي تنتقل كالشرارة الكهربائية من شخص إلى أخر. وعندئذ يمكن لقادة الجمهور أن يفعلوا بك ما يشاءون، أو أن يوجهوك في الوجهة التي يريدونها، أو أن يتلاعبوا بعقلك على هواهم. انظر ما حصل للجماهير إبان الثورة الفرنسية أو الثورة الإيرانية أو سواهما. ولكن الفرق هو أنهم في الحالة الأولى مشوا بحركة التاريخ إلى الأمام، وفي الحالة الثانية عادوا بها إلى الخلف!
الخميس نوفمبر 12, 2009 2:16 pm من طرف متوكل