جاءت
ثورة الشعب في تونس لتفتح مرحلة جديدة، ثم تبعتها ثورة الشعب المصري،
لتتسارع الخطوات نحو بداية عصر جديد في المنطقة العربية والإسلامية. فقد
عادت الشعوب للواجهة، لتقوم بدور رئيس في تحديد مسار السياسة، وتحدد النظام
السياسي التي ترضى به.
لقد بلغ الغضب منتهاه، وبلغ الضغط أشد
درجاته، فكان الاستبداد والفساد هما العنوان الأبرز لغالب النظم السياسية
الحاكمة في المنطقة. ولم تدرك الطبقة الحاكمة أن استمرار الاستبداد غير
ممكن، بل راهنت على سلبية الشعوب، وراهنت على يد الأمن الغليظة في إسكات
الشعوب، وتمادى الاستبداد الأعمى، وهو لا يرى إلا ما يريد أن يراه، بل أنه
ظل متمسكا بمواضعه، ويتصور أنه عائد مرة أخرى. فالطبقة الحاكمة تتصور أنها
قادرة على تجاوز مرحلة الانتفاضات الشعبية، ومن ثم تعود من جديد.
فالاستبداد لا يتعلم درس الشعوب، بل يظل يعاند حتى يسقط ويرحل بالكامل، ولا
يدرك في أي لحظة أن عليه أن يقدم التنازلات المطلوبة، وأن مطالب الشعب
ومواقفه هي أساس شرعية أي نظام. ولكن الطبقة المستبدة والفاسدة، لا تعرف
كيف تتحول إلى طبقة وطنية وشريفة، وكيف تتعامل مع مناخ تسوده التعددية
والحرية، وتكون فيه الكلمة للشعب. لذا يعاند النظام المصري الحاكم، ويدفع
المجتمع ثمن عناده، وكأنه يتصور أنه قادر على تجديد نفسه مرة أخرى، ولم
يدرك أن عجلة التاريخ قد دارت.
فما حدث في تونس ومصر، أن الشعوب
بدأت تثور لمصلحتها، بعد أن أيدت في الماضي ثورات لم تعمل من أجل مصالحها،
وأيدت نخب انفردت بالحكم واستبدت، وأهدرت مصالح الشعوب. لقد كانت معادلة
العملية السياسية في المنطقة العربية والإسلامية، تتكون من نخب حاكمة ودول
غربية مهيمنة، وغاب عن تلك المعادلة دور الشعوب، وما يحدث الآن هو عودة
لدور الشعوب في المعادلة السياسية.
وللمفارقة، يكتشف الجميع أن
الشعوب عندما تكون جزءا من المعادلة السياسية تكون هي الطرف الأقوى، وتتغلب
على النخب الحاكمة المستبدة، وتتغلب على آلة الأمن، بل وتتغلب أيضا على
الهيمنة الخارجية، وتصبح هي الصانع الأول للمستقبل السياسي للبلاد. هي حقبة
جديدة إذن، سوف تمر بالكثير من النجاحات والإخفاقات، ولكنها سوف تحقق
النجاح الأخير والمهم، حيث تصبح الشعوب هي صانعة النظام السياسي، وهي التي
تختار حكامها ودستورها ومرجعيتها وهويتها.
هي ثورة أمة، أو بداية
تلك الثورة، بداية تحدث بعد أن وصلت الأمة لحالة من التردي الواسع، وسقطت
تحت الهيمنة الخارجية والاستبداد الداخلي. فقدت أيدت شعوب المنطقة حركات
التحرر الوطني التي تخلصت من الاستعمار العسكري الغربي، ولكن تلك الحركات
تحولت إلى طبقات حكم مستبدة، وتحولت في النهاية إلى نوع من الاستعمار
المحلي، الذي يعمل من أجل مصلحة القوى الخارجية، ويفرض الاستبداد وينشر
الفساد. لقد كان هذا الاستعمار المحلي يمثل مشكلة كبرى، ولم تعرف الشعوب
كيف تقف في وجهه، حتى توصلت إلى صيغة الثورة الشعبية، حيث يخرج الناس إلى
الشوارع حتى يسقط النظام الحاكم.
ومع خروج الجماهير الغاضبة في
شوارع مصر، أصبح النظام الحاكم في مأزق، ولكن كل ما فكر فيه هو كيفية تجديد
نفسه حتى يبقى. والدول الغربية الحامية له والمؤيدة له، وقعت في مأزق. فلم
تحاول الوقوف مع الشعب المصري، إلا عندما وجدت النظام الحاكم يقترب من
نهايته. ولكن أزمة الدول الغربية سوف تتفاقم، لأن عليها من المستقبل أن
تتعامل مع خيارات الشعوب، وليس مع نخب حكم مستبدة تدعمها مقابل تمرير
مصالحها. ولن تكون خيارات الشعوب كلها تحقق مصالح الغرب، ولن يستطيع الغرب
الوقوف أمام إرادة الشعوب، إلا إذا عاد لعصر الاستعمار الغربي العسكري،
وهذا زمن لن يعود.
أما الاحتلال الإسرائيلي، فهو ربما يكون الخاسر
الأول، فلم يعد هناك نظام مستبد يمرر مصالحه ويحمي أمنه، بل بدأ عهد
السياسة النابعة من رغبات الشعوب. وما حدث في مصر وتونس مرشح للحدوث في
العديد من الدول العربية والإسلامية، وهو ما سيغير طبيعة الطبقة الحاكمة في
المنطقة. فالثورة الشعبية في مصر، أفقدت الاحتلال الإسرائيلي الداعم الأول
له، وأفقدته أهم عناصر أمنه، والمتمثل في وجود أنظمة حكم تابعة للسياسة
الغربية، وليست تابعة للشعوب، تحمي وجود دولة الاحتلال الإسرائيلي.
هي خطوات أولى من مرحلة جديدة، مرحلة لم تتشكل كل ملامحها بعد، ولكنها
بداية مرحلة التخلص من الاستعمار المحلي، وبداية التحرر الحقيقي، بعد زوال
التحرر الزائف، تحرر تقوم به الشعوب وتحميه بإرادتها الحرة.