هل يمكن تأسيس الأخلاق على الدين؟ وهل أنّ للدين دورا محدّدا في تهذيب المعاملات الإنسانية وتحسينها؟
يبدو أنّ الإجابة عن السؤال الأوّل، من وجهة نظر فلسفية، هي بالسلب. لقد كتب أرسطو أخلاق نيقوماخوس، ولم يُعرّج بتاتا على أيّ من النصوص الدينية اليونانية، لم يربط في أيّ موضِع من مواضع كتبه بين الفضيلة، التي هي دعامة العمل الأخلاقيّ، وبين التعاليم الدينية. الفضيلة هي وسط بين إفراط وتفريط، أو بعبارة أخرى، الفضيلة هي فعالية إنسانية في منبعها، وإنسانية في غايتها. وفقط عن طريق الفضيلة، وعلى رأسها الفضيلة النظرية، يمكن للإنسان أن يحقّق السعادة في هذه الحياة الدنيا. لكنّ الفضيلة، بالنسبة للمؤمن، غير مكتفية بذاتها، ولا تستنفد العمل الإنسانيّ، لأنّ مرجعيتها وغايتها هي طاعة الله والقيام بأوامره. الأساس الذي تقوم عليه هذه النظرة للأخلاق، هو أساس لاهوتيّ، من حيث التصديق بوجود إله ما، ذي صفات وأفعال معيّنة، ثمّ بوجود رجال خارقي العادة، اجتبتهم العناية الإلهية، من دون البشرية كافّة، ولأسباب لا نعلمها، بحيث أنّ هذا الإله، المفترض وجوده، اصطفى منهم مجموعة مصغّرة جدّا لكي يُنزل عليهم وحيه ورسالته، ولكي يبثّوا هم بدورهم في بني جنسهم هذه الرسالة.
إذا تصفّحنا جوهر هذه الرسالة، دون الدخول في نقاش معمّق لقاعدتها اللاهوتية (والتي بدت للعديد من الفلاسفة غير صامدة أمام الفحص العقلانيّ)، فإننا سندرك مدى تناقضها، بل ومدى منافاتها لأسباب أسس التعايش السلمي بين البشر. الصعوبة المحورية في منظومة الأخلاق الدينية، والتي ربّما قد أعطت للشكّاك سببا مدعّما لنفورهم من الدين جملة وتفصيلا، هي التقسيم المانويّ للبشرية إلى ناجين وهالكين: الناجون هم الذين اتّبعوا تعاليم الدين الذي بشّر به هذا النبيّ أو ذاك، والهالكون هم باقي الإنسانية في جميع الأقطار والأزمان. أمّا أولئك الذين عارضوه أو قاوموه فإنّهم خارجون عن السراط القويم، ويحقّ لأصحاب الدين الجديد قتلهم وإبادتهم. في إطار هذه النظرة المانوية للأشياء فإنّ مفهوم الإنسانية، الذي من المفروض أن يكون متعاليا على أعراض الملّة والاعتقاد، يفقد من معناه، ويحلّ محلّه تصوّر نظريّ وعمليّ انتقائيّ، إقصائيّ، يُحابي الناس أو يعاديهم على أساس المعتقد، وليس على أساس الفعل والقصد. النتائج العملية لهذا التقسيم كانت في الماضي، وهي في الحاضر، وستبقى إلى الأبد ـ ما دامت هناك أديان ومعتقدات تعتمد الإقصاء كمنهج ـ جدّ كارثية، سواء في إطار المجتمع الواحد، أو على نطاق الإنسانية بأسرها. فمنظومة الأديان لا تكتفي بالالزام الفرائضي الذي هو تعذيب للنفس وقهر لها، دون مبرّر معقول أو غاية سليمة، بل إنها تستثير في الإنسان طاقة عدوانية موجّهة كلّها ضدّ المختلف المغاير (الكافر، المشرك، الصابئ، حسب القاموس الإسلامي) لقهره (هَديه) أو تدميره (غزوه). التاريخ يثبت بما فيه الكفاية أنّ الأديان، وعلى رأسها الأديان التوحيدية الثلاثة، التي اعتمدت التعصّب والانغلاق، وادّعت بأنّها تمثل إرادة الله على وجه الأرض، هي التي قامت بالحروب وقتلت الأبرياء وسبَتْ وعذّبت.
إذن من وجهة نظر موضوعية، التاريخ وحده، إذا تفحّصنا أحداثه العينيّة، يدحض دون رجعة أيّ ادّعاء بأنّ الإنسانية لو رُبِّيت تربية دينية، لحسن حالها ولفازت بالخلاص في الدنيا (وفي الآخرة).
لكنّ بعض مفكّرين ولأسباب عديدة، لا يطيقون نزع مشروعية العنصر الدينيّ من حياة البشر، وحتى إن اقترحوا أخلاقا دنيوية، فإنهم لم يذهبوا بها إلى مداها الأقصى، فبقيت القضية عندهم معلّقة، أو بالأحرى متأرجحة بين التعالي والمحايثة، بين الدينيّ والدنيويّ، دون البتّ الواضح في أيّ من طرفي المعادلة.
يحاول كاتب هذه السطور، في هذا المقال تتبع العلاقة المتوتّرة بين الأخلاق والدين من خلال قراءة لبعض نصوص الفليسوف الألماني عمانويل كانط، ومناقشة جانبا من أطروحاته الأخلاقية بالمقارنة مع فلاسفة التنوير والماديين الفرنسيين، وهذه المقارنة اتّخذناها كمثال إجرائيّ لتبيين صعوبة التوفيق بين التعالي والمحايثة لبناء أيّ منظومة أخلاقية.
***
« الأخلاق، نظرا إلى أنّها مَبنيّة على مفهوم للإنسان ككائن حرّ يَخضع، بما هو كذلك وبواسطة عقله إلى قوانين لامشروطة، لا تحتاج إلى فكرة كائن آخر متعالٍ على الإنسان، لكي يَعرِف واجباته، ولا تحتاج إلى وازع مغاير للقانون ذاته، كي ينفّذه(1)».
هذه أولى الكلمات التي صدّر بها كانط كتابه " الدين في حدود مجرّد العقل"، وهي كلمات تقريرية مُعتدّة وواثقة من نفسها قد تَصدم لأوّل وهلة القارئ المؤمن. لا، بل إنّ كانط يُوبّخ هذا الأخير ويُحمّله المسؤولية لبحثه عن ركيزة نظرية لأفعاله خارج القانون الأخلاقيّ ذاته: «الذنب يعود للإنسان ذاته إذا شعر في نفسه بحاجة من هذا القبيل، والتي لا شيء ولا أحد يمكن أن يوفّرها له: كلّ ما لا ينبع من الإنسان ذاته ومن حريته، ليس قادرا، فعلا، على تعويض نقصه الأخلاقي».
الأخلاق، في نهاية المطاف، لا تحتاج أبدا (سواء من جهة موضوعية، بحسب الإرادة، أو من جهة ذاتية، بحسب القدرة) إلى الارتكاز على الدين، لكنها تكتفي بذاتها بفضل العقل الخالص العمليّ(2).
القوانين الأخلاقية، كما يراها كانط، هي قوانين مُلزِمة بفضل صورتها البسيطة، التي تتمثّل في المطابقة الكلّية بين الشرط النظري والتحقيق العمليّ، وهذه الصورة البسيطة هي الشرط الأَسمى لكلّ الغايات. وبالجملة فالأخلاق ليست بحاجة إلى أيّة علّة مادّية محدِّدة للإرادة الحرّة (keines materialen Bestimmungsgrundes). ومَنْ يطلب غاية خارجة عن الواجب الأخلاقي فهو، في نظر كانط، إنسان خسيس (ein Nichtswürdiger).
يبدو، من وجهة نظر عمليّة، أنّ انتزاع الفعل الأخلاقيّ من الدين هو أمر محمود لأن جلّ الفلاسفة عارضوا الفكرة السائدة؛ أنّ الفضيلة تكمن في اتّباع تعاليم الدين، وأن الحلال والحرام والمباح والمحظور هي كلّ ما يتطابق مع تعاليم الشرائع وما جاءت به الكتب المدعوّة مقدّسة.
وهذه، فعلا، نقطة سلبيّة على حساب رجل اللاهوت والإنسان المؤمن بصفة عامّة؛ وقرّاء كانط، كانوا ولا زالوا إلى يومنا هذا ينقسمون إلى قسمين: المؤمنون والملحدون. بتلك الكلمات يحوز كانط على مصادقة الفيلسوف العقلاني اللامتديّن الذي يرغب في الاكتفاء بنفسه، سواء من حيث إنتاجه النظريّ المعرفيّ أو إنتاجه العمليّ، أي سنّ قوانين الإجتماع وتسيير نشاطه العمليّ. لكنّ خطاب كانط هذا لا يحظى هو نفسه بتزكية رجل اللاهوت والإنسان المؤمن على وجه العموم، لأنّه يعتبر الإرادة الإنسانية ناقصة لا بدّ لها من إطار مرجعيّ متعال يوجّهها، أي لا بدّ لها من وحْي صادق منزّل من السماء على غراره يَستمدّ شرائعه ويُسيّر أعماله.
لكنّ كانط لم يتمسّك، بأطروحته أعلاه، ولم يذهب بها إلى مداها الأقصى: لقد حدّ من خطورتها، بل انقلب عليها وتبنّى نقيضها. مثلما فعل في نقد العقل الخالص، بعد أن سدّ الأبواب أمام أيّ تعقّل ممكن للكيانات الغيبية الدينية من وجهة نظريّة بحتة، أعاد تأهيلها على المستوى العمليّ، وجعل منها ركيزة الفعل الأخلاقيّ، فإنه هنا أيضا يعود أدراجه ويتدارك الموقف: الأخلاق لا تحتاج إلى تمَثّل أيّة غاية ( keiner Zweckvorstellung ) تؤسّسها أو تسْبق تعيين الإرادة (Willensbestimmung). هذه هي الأطروحة المركزيّة والمبدأ الموجّه في النظرية الأخلاقية لكانط؛ الأطروحة النقيض تقول: الأخلاق لها «علاقة ضروريّة ( eine notwendige Beziehung habe ) بغاية مُتمثَّلة(3)»، وأشدّد هنا على كلمة ضروريّة لأنّ كانط نفسه يؤكّد أنّ الإرادة العمليّة، لا تتحدّد معالمها ولا تستقرّ إن لم تكن هناك غاية ما. والعقل لا يمكن أن ينتهج نهج اللاّمبالاة أمام هذا السؤال: ما النتيجة التي نخلص إليها عند قيامنا بعمل سويّ ما؟ وما الغاية التي نصبو إليها لتكييف تصرّفاتنا طبقها؟ الجواب هو في انسجام مع توجّهات كانط التي وردت من خلال نقد العقل الخاص ونقد العقل العملي، هذه الغاية لا يمكن أن تكون إلاّ «فكرة موضوع (Idee von einem Objekte) يحتوي في ذاته، موحّدة جميعا، على (أ) الشرط الصوري لكلّ الغايات التي ينبغي حيازتها (الواجب) وفي نفس الوقت، (ب) كلّ التشريطات المتوافقة مع تلك الغايات التي تُحرِّكنا (السّعادة المتطابقة مع القيام بالواجب)؛ إنّها فكرة خير أسمى في العالم (Die Idee eines höchsten Gutes in der Welt)، ولأجل إمكانيّته فإننا مضطرّون لافتراض كائن (Wesen) أخلاقيّ متعال، مقدّس، قدير، بحيث إنّه الكائن الوحيد الذي يجمع هذين العنصرين المكوّنين(4)».
إنّ فِكرة وجود هذا الكائن ليست فكرة خيالية وفارغة من أيّ محتوى، فهي، كما يؤكّد كانط، ليست بفكرة خاوي (leer، دون أية استتباعات نظرية أو عملية، ويكفي للوعي بدلالتها المهمّة في حياتنا العمليّة، أنها تُسعفنا في حاجيّاتنا العينية، وترشدنا لتوجيه أفعالنا نحو غايات مُثلى.
لقد احتار المعلّقون أمام هذا التراجع، أو ربّما التناقض الكانطي الصارخ. البعض منهم رأى فيه خطابا يغلب عليه طابع اللاهوت الإيمانيّ البروتستانتيّ، وهو في جوهره متَطابق مع تعاليمه الواردة في النقدين الأول والثاني، ولكنه يصبّ دائما في مصبّ التعاليم الدينية. فعلا، هذه الاستنتاجات ليست مجانبة للصواب لأنّ رأي كانط الصريح يدعّمها: «الأخلاق إذن تقود ولا بدّ (unumgänglich) إلى الدين، الذي بواسطته ترقى إلى فكرة مُشرّع (Gesetzgebers) أخلاقيّ خارج الإنسان، بحيث تكمن في إرادته تلك الغاية القصوى (خلق العالم) التي، في نفس الوقت، يمكن ويجب أن تكون الغاية القصوى للإنسان(5)».
الأخلاق بما تحمله من اعتراف بقدسيّة قانونها واعتباره كموضوع يستحقّ الإجلال، ثمّ الدين، بدوره، حينما يعترف بذاك السبب الأسمى ـ كمشرّع لتلك القوانين ـ وموضوع للتقديس، هما في انسجام تامّ ويبرز أحدهما عظمة الآخر.
***
السبت أكتوبر 31, 2009 12:52 pm من طرف Admin