عرف المسرح عبر عقود طويلة من الزمن عديد التغيّرات سواء على مستوى التركيبة والشكل أو على مستوى المضمون والوظائف، مرتبطا في ذلك بمجموع التغييرات التي تحدث في المجتمع، ذلك أنّه كان منذ نشأته ظاهرة اجتماعية منغمسة في الواقع الاجتماعيّ والوعي الجماعيّ سواء كان ذلك بطريقة واعية أو غير واعية، حيث أنّ التركيبة والشكل والمضمون والممارسة كانت في غالبها نتاجا اجتماعيّا بشكل مباشر أو غير مباشر، وكون هذا الظاهرة متجذّرة في الواقع ممثلّة عنصرا من العناصر المكوّنة للمجتمع، كان لزاما أن تتأثّر بمجموع القوانين العامّة التي تسيّره والتغيير الاجتماعي أبرز تمثّلاتها، إذ عرف المسرح تغيّرات شبيهة بالتغيّرات التي عرفتها المجتمعات الحاضنة له، كما كان مساهما بطريقة أو بأخرى في إحداث تغييرات اجتماعية في إطار وظيفته الاجتماعية التي عرفت - في نشأته وتطوّره أو في مكوّناته وتمظهرات تأثيراته- أوجها عديدة بدءا بالمرحلة الإغريقية الأولى إلى اليوم.
ففي البداية كانت "إثارة الشّفقة والخوف ممّا يؤدّي إلى التّطهير"، ثمّ تعدّدت التّسميات وتنوّعت : من وظائف مرتبطة بالتّسلية وأخرى ارتبطت بالتربية وصولا إلى الوظائف التّوعويّة والنقدية والتّحريضية، أو وظائف أخرى متمثّلة في كشف الطبيعة الحقيقية للعلاقات الاجتماعيّة، والكشف عن الأصالة الحقيقيّة للحياة الواقعية والتّأثير على الطّبيعة النّفسية (1).
بالتّمعّن في هذه الوظائف التي اتخذها المسرح عبر عصور من التّغيّرات يمكن تلخيصها في وظيفتين ارتبطتا دائما بعمليّة التّغيير الاجتماعي، تتمثّل الأولى في محاولة تعطيل عجلة التّغيير عن الدّوران أمّا الثّانية فتتمثّل في دفعها.
فمنذ لحظة المكاشفة الأولى يذهب أرسطو في مؤلّفه فنّ الشّعر إلى تحديد وظيفة التّراجيديا الاجتماعية بكونها "تثير الشّفقة والخوف ممّا يؤدّي إلى التّطهير" (2) فما معنى ذلك؟
يورد أرسطو نصّا في كتابه "الخطابة" لتفسير معنيي الشّفقة والخوف : "علينا أن نتذكّر المبدأ العامّ القائل بأنّ ما نخاف منه على أنفسنا يثير رحمتنا حين يحدث للآخرين"(3) ، فهو بذلك خوف من الوقوع فيما يقع فيه الآخرون، هو خوف المشاهد من أن يقع فيما وقع فيه البطل الّذي يقوده خطؤه إلى العقاب، خوف من المصير المجهول، من "الشرور الّتي تتضمّن ألما عظيما أو دمارا"(4) ، فهذه الشّرور تؤدّي إلى التّدنيس وهي تهمة بشعة بالنّسبة للمواطن الأثيني، فأوديب قتل أباه وتزوّج أمّه، ليس المهمّ أن يكون بطريقة واعية أو غير واعية عن قصد أو غير قصد، المهمّ أنّ الجريمة ارتكبت، هذه الجريمة التي تعود أصولها إلى محاولته تحدّي الآلهة.
يثير عمل من هذا النّوع شفقة المتفّرج العادي على مصير البطل المتميّز طبقيّا والنّبيل، كما يثير خوفه من أن يلاقي نفس العقاب، وهذا ما يؤدّي في نهايته إلى "الارتياح الّذي يثير الشّعور"(5) (بمعنى آخر يؤدّي إلى التّطهير). إذا ما أضيف إلى ذلك كون الأسطورة وتمثلات الآلهة عند الإغريق كانت تمظهرا للمجتمع في تلك الفترة، يمكن أن تفهم "إثارة الشّفقة والخوف الّلذين يؤدّيان إلى التّطهير بكونه تطهيرا للمتفرّج لأيّ نزعة تغييريّة، تطهير له من الرّغبة في المضيّ قدما، تطهير له من "الإرادة البروميتية"، حسب تعبير جون دوفينيو، في تغيير أوضاعه ومحاولة التّحكّم بمصيره، هو تطهير من نزعة الثّورة على الأوضاع الاجتماعية، والأطر العقائدية، مهما كانت ظالمة وفاسدة والمقدّسات والمحرّمات على حالها، بمعنى آخر هو عرقلة للتّغيير ومحاولة لسلب الإرادة خدمة للنّظام القائم فيكون المسرح بذلك عنصر عرقلة للتّغيير الاجتماعي ومبطئا لحركته رغم تجذّره في الوعي الجماعي الأثيني عارضا "الوقائع والمشاهد بحيث تبدو غير قابلة للتّغيير"(6).
تغيّر العالم وتوازى مع ذلك تغيّر في الظاهرة المسرحية، فتجلّى ذلك أساسا في النقطة المفصلية التي مثلتها الثورة الصناعية التي ركزت بدورها ثورة مسرحية (وهذا ما ذهب إليه العديد من علماء اجتماع المسرح خاصة منهم عالم الاجتماع الفرنسي جان دوفينيو)، ففي مسرح ما بعد الثّورة الصّناعية ظهر مسرح بروليتاريّ متجذّر في التّجربة الاجتماعية، معبّر عمّا تعانيه هذه الطّبقة العمّالية من استغلال وقهر وحرمان واستعباد بطريقة جديدة، واغتراب، فكان أن برزت وظائف اجتماعية أخرى اضطلع بها المسرح كالتّحريض والتّوعية والتّقويم خدمة لمصالح العمّال وتعبيرا عن آمالهم، مسرح يتّخذ من المقولة الماركسية بمحاولة تغيير العالم بدل تفسيره منهجا له، مسرح عبّر عنه جان دوفينيو بـ"الإرادة البروميتيّة" في مواضع عديدة من مؤلّفاته، هو مسرح العصر العلمي الجديد الذّي عادت فيه القدرة في التّحكّم وتحديد المصير إلى الإنسان بعد أن كانت في أزمنة أخرى تعزى إلى ذلك الإله الّذي أعلن نيتشه عن موته. سواء كان هذا المسرح كما في مسارح أخرى من أزمنة مختلفة نقدا للأوضاع القائمة أو تحريضا للطّبقة المضطهدة أو تثويرا، فإنّه مسرح يهدف إلى تغيير العالم وتغيير وعي الإنسان به، مسرح مناضل بطرق متفاوتة يساهم في "تنشئة الإنسان الجديد وتدريبه"(7)، حيث يعوّض التّماهي ومحاولة إثارة أحاسيس المتفرّج بمحاولة إثارة فكره ووعيه، مسرح يعوّض التّطهير بما هو محاولة للحفاظ على الحالة السّائدة إلى مسرح آخر يثير تلك النّزعة البروميتية من أجل التّغيير، مسرح يكون فيه المتفرّج مشاركا إيجابيا في العرض لا مجرّد كائن مستلب، خاضع، فاقد للإرادة، بل كائنا واعيا يسعى إلى تحديد مصيره، سمته المميّزة الدّعوة الدّائمة للتّغيير، عبّر عنه أرتو كما إرنست طوللر(8) وإيروين بيسكاتور كما برتولت برشت، وبعد أن كان المجتمع يتوجّه للمسرح أصبح المسرح يتوجّه للمجتمع، بهذا يكون هذا المسرح عاملا من عوامل التّغيير الاجتماعي.
بناء على هذا يمكن اعتبار وظيفتين للظّاهرة المسرحيّة تدور في فلكهما وظائف فرعية حسب راديكالية كلّ واحدة، مسرح خاضع للنّظام، للسّلطة المهيمنة، للأوضاع السّائدة، مسلوب من أيّ إرادة، مسرح تراجيديّ معرقل لحركة التّاريخ بما هي تغيير دائم، ومسرح متجذّر في الممارسة الاجتماعية دافع للتّاريخ في مسار تطوّره وتغيّره، متأصّلا في الوعي الطبقي والاجتماعي.
مسرح يدعو إلى الفعل وتكوين إنسان جديد لا كما الطّريقة الإغريقية الّتي أنتجت إنسانا فاقدا لكلّ إرادة، وإنّما إنسان متحرّر من سحر الخرافات اللاّعقلانية"(9) يتحوّل المسرح بهذا المعنى إلى أداة من أدوات التغيير الاجتماعي، فسواء من ناحية محاولاته المتعدّدة للتأثير على الجمهور- بغضّ النظر عن نوع هذا التأثير- حسّيا كان أم عقليا، تطهيريا أو تثويريا، فهو طرح إمكانيات جديدة بدلا عن تلك الموجودة في الواقع، حيث أنّ مسارح المحافظة على الواقع، المتفانية في خدمة الأنظمة القائمة تؤدّي إلى تغيير اجتماعيّ بغضّ النظر عن مداه وفاعليته، إذ أنّ أيّ محاولة لعرقلة التغيير تؤدّي في حدّ ذاتها إلى تغيير آخر، ذلك أنّه كما لا يمكن إيقاف عملية تقدّم الإنسان في السنّ، فإنّه لا يمكن إيقاف عجلة التغيير الاجتماعي عن الدوران.
أمّا المسارح التي يمكن أن نطلق عليها صفة بروميثية، فهي تلك المسارح التي مثلت إزعاجا دائما للأنظمة القائمة، بما هي دعوة دائمة للتغيير(10)، واستعداد دائم له، وإدانة للواقع وتصدّ للرجعية بمختلف تمظهراتها، ذلك أنّ هذا المسرح "كان على الدوام ذلك المكان للمقاومة من أجل المدنية والإنسانية"(11)، حاملا آمال الإنسان، ذلك الكائن الاجتماعي، دائما إلى الأفضل.
كما أنّ المسرح مثّل في تجارب عديدة النظرة الاستشرافية لما يمكن أن يكون عليه الواقع الاجتماعيّ في المستقبل(12)، متخذا من تحليله للواقع منهجا في ذلك مؤيدا أحيانا رافضا أحيانا أخرى.
فالمسرح بذلك مراوحة بين التأييد للواقع المعيش أو الرفض، أن يدعو إلى الحفاظ على العالم كما هو، أو أن يدعو إلى تغييره.