في
سنة 1926، قام آرثر جفري بكتابة بحث عنونه: "بحثاً عن محمد التاريخي(1)"،
وذلك جرياً على عنوان ترجمة الكتاب الألماني (صدر 1906) للإنكليزية "بحثاً
عن يسوع التاريخي The Quest of the Historical Jesus(2)" الذي اشتهر حينها
بكونه مسحاً للكتابات اللاهوتية التي تناولت حياة يسوع في أوربا. وعليه
يقترح جفري القيام بعمل مشابه بكون أن الوقت قد نضج لمثل هذه الدراسات،
وخاصة مع تقدم مدارس النقد والتاريخانية… لكن مثل هذا العمل لم يتم القيام
به إلى الآن بنحو جدي يرتقي إلى حجم ما تمأسس من دراسات استشراقية
وإسلامية تناولت محمد وصورته بشكل واف. فما قام به جفري رغم أهميته، لا
يعدو كونه مسحاً سريعاً للدراسات التي تناولت سيرة حياة محمد ووجهات نظر
أصحابها. لكن مع ذلك يبقى العنوان ذاته يحمل دلالة مهمة تشير إلى همّ نقدي
كان يعيشه الاستشراق الحداثي، بحيث أن التساؤل عن محمد التاريخي كان
حاضراً، وهو ما يحتم الآن الشروع بدرسه وتقصيه، لا سيما مع سيطرة اللاهوت
الاستشراقي الما بعدي، وتشظي صورة محمد في أروقته، فضلاً عن تشظيها في
أروقة العقل الإسلامي المتأزم. يأتي هذا المقال ليقارب -من غير الدخول في
التفاصيل- بعضاً من هذا التشظي بين ميادين مختلفة (استشراقية وإسلامية)،
والاستحقاق المعرفي لهذا في ظل غياب صورة تاريخية لمحمد.
في الواقع، لم تحظ شخصية على مر التاريخ بالكتابة عنها كما حظيت شخصية
محمد؛ ولم تُمجد (وبالمقابل لم تُشوّه أيضاً) شخصية بأطنان التهويل
والتفخيم كما نالته الكاريزما التي امتلكها؛ حتى لقد وصل الأمر ببعض
الطوائف الإسلامية التي تبالغ بحبه، ليس بوضعه إلى جانب الإله، وإنما
أمامه، وإن اتخذ هذا التعبير شكل الفعل اللاواعي الذي يظهر من فينة إلى
أخرى، والذي يعبّر عن نفسه بأعمال عنف إسلامية وغيرها تحت مظلة الله
ومحمد. ونحن نتذكر من قاموا بترويج الرسوم، التي اعتُبرت من قبل
الإسلاميين بأنها مسيئة لشخص محمد، وردود الفعل القوية عليها التي اكتست
أثواب السياسة والإيديولوجية لبعض الدول الإسلامية مع غيرها من الدول
الغربية.
وبغض النظر عن أن الدفاع عن صورة محمد "المثال" الذي يعود أحد أسبابه
إلى الفراغ الحضاري وأزمة العقل الإسلامي في قراءة محمد، فإن هذا الدفاع،
لم يكن دفاعاً عن شخص محمد، بل هو دفاع عن "رمزيته" الأسطورية التي صُنعت
عبر التاريخ واستقرت في عمق مخيال الشعوب الإسلامية. لذا من المهم أن ندرك
في هذا السياق، سواء للذين قاموا بتلك الرسوم أو الردود من الجانب
الإسلامي عليها، أننا لسنا في الواقع مع شخصية محمد التاريخية، بقدر ما
نحن مع "الرمز المحمدي"، والذي استطاع بعض الغربيين أن يقرأه جيداً، بكونه
أحد الخطوط الحمر في الشرق الإسلامي.
هذه النقطة الأخيرة لا يمكن أن نقاربها إلا بدراسة جدية للمخيال
المقدس داخل العقل الإسلامي، الذي هو في الواقع ليس عقلاً تاريخياً بقدر
ما هو عقل مهيكل بأطر والضوابط الذهنية للإيديولوجية المبنية عبر السياقات
التاريخية على أنقاض خطابات اجتماعية قديمة.
البشر لا ينتجون صورهم أو رموزهم فقط، بل إنهم حينما يقومون بذلك،
فإنهم ينتجون منظومات معرفية وثقافية، مبنية أساساً على حوامل تاريخية،
تُباين أو يجب أن تتباين فيما بينها –بين هنا وهناك- في الوظائف التي
ستُناط بها. لهذا سنقرأ أنّ ألوان صورة محمد وحجمها والوظيفة المناطة بها
سيختلفون من منظومة إيديولوجية إلى أخرى، مع العلم أنّ أياً من المنظومات
ترفع الصورة نفسها كـ "رمز" (أو عنوان طريق الخلاص أيضاً).
صورة محمد في هذا السياق ليست إلا تكثيفاً رمزياً مخيالياً، مغطى
بغلاف أسطوري فولاذي سميك، ونتاج للتشوهات التاريخية والجماعات الدينية
التي آمنت أو أمسكت به، سواء كإيديولوجية عليا أو في ظل غزوهم لأراضي
غيرهم، أو حتى كسلاح في اعتداءاتهم على بعضهم البعض (كما قرأنا ذلك في
صفحات صراعات الإسلاميين فيما بينهم على مر التاريخ، حيث كل طرف يحمل صورة
لمحمد في مخياله ضد الطرف الآخر، وبالتالي سيبني كل طرف هالة من الأحاديث
المحمدية بما يشرعن إيديولوجيا الصورة، وبالتالي فعله). هذه الأسباب إضافة
إلى غيرها الكثير، قد عززت التفنن والشطط الإسلامي في رسم لوحة أسطورية
لمحمد، الأمر الذي وجد له متسعاً في كتب التراث.
لذا لن نستغرب إذا غدا محمد سلاحاً بيد، ووسيلة للهجوم بيد أخرى.
فالوضع ليس فقط أنّ كل أمة تصنع رمزاً لها، بل إنّ لكل أمة رموزاً (وهنا
في سياقنا الرموز المحمدية) بحجم اتجاهاتها الاجتماعية والإيديولوجية؛
تتكاثر هذه الرموز وتختلف فيما بينها سواء في الشكل أو المضمون أو حتى في
الوظيفة التي يمكن أن تؤديها، وذلك بحسب التموضعات الثقافية المختلفة أو
الاجتماعية المشخصة على حد تعبير التيزيني. وقل الأمر نفسه بخصوص حجم
مكانة محمد في الدراسات النقدية الجدية التي ينعدم فيها الإطار الأسطوري
لصورته، بخلاف ما هو عليه الأمر داخل ميادين الدراسات الدينية الإسلامية.
إنّ قراءة ليس فقط للتاريخ ومكره اللاهوتي الذي صُنع محمد خلاله، بل
للنظر سريعاً في الوقت الحالي إلى صورة محمد بين بلدين إسلاميين على
الأقل، هل محمد في أفغانستان هو نفسه محمد في دمشق أو في أي مدينة
إسلامية؟ وقل الأمر نفسه داخل دمشق نفسها ما بين طائفتين إسلاميتين على
الأقل؟ في الواقع، إن لكل طائفة رمزها، وبالتالي إن لكل طائفة صورة لها عن
"مُحمّدها" التي تناقض الصور الإسلامية الأخرى عنه، ليس فقط شكلاً، بل حتى
في تناقضاتها في أمور ثيولوجية أساسية، كمسألة مكانة محمد الدينية
والنبوية وتأليهه وما شابه.
- ومما له دلالته في هذا الصدد هو غياب أي صورة أو لوحة يمكن أن تقارب
الشكل الجسدي لمحمد. فنحن نعلم أنّ الإسلاميين ما زالوا إلى الآن يتمسكون
باعتقاد تحريم تصوير محمد أو رسمه وتجسيده بلوحة، رغم أن المئات من كتب
التراث قد فصفصت جسده من قدميه حتى رأسه بالوصف والتحليل (مثلاً ابن سعد
في كتابه الطبقات).
طبعاً بعض الإسلاميين يعلمون أن "مخيال التراثي" –الذي كتَبَ الحديث
في تصوير محمد- غير بريء في هذا من جهة الشطط المقتبس من اللاهوت المسيحي
وبلاد الرافدين وغيرهم؛ وهم في هذا يقرون أنّ هذا المخيال هو الأداة
الرئيسية في تصويره (بطنه أو شعره مثلاً)، بغض النظر الآن عن دقة رواية
الحديث من حيث صحته (لأنه ليس محل اتفاق بين طائفتين إسلاميتين على
الأقل)، إلا أنهم بالرغم من ذلك يمتنعون من تجسيد هذا المخيال أو الصورة
التي كونها هذا المخيال على لوحة رسم؛ وهذا بالرغم من أنهم يكوّنون مئات
الصور عنه، والتي تعبر من جهة ثانية، عن مخيالهم اللاهوتي هم. لقد أصبحوا
في الواقع يتقاطعون مع الاعتقاد الإسلامي المشهور أيضاً: كيفما تصورت الله
فهو خلاف ذلك.
لكن، إذا غاب رسم محمد على اللوحة، فإنه بالمقابل تمت صناعة محمد
دينياً وسياسياً وحتى ليتوروجياً، (بحيث يغدو محمد مادة طقسية-شعائرية) لا
وبل المبالغة في هذه الصناعة، وذلك تبعاً للأشخاص والمذاهب الذين كتبوا
عنه، بحيث كل إيديولوجية أو كل طائفة أو مذهب…الخ يقومون بتفصيل محمد بما
يتناسب ومقاساتهم الفكرية، وبأدوات ذهنية كلانية مؤطرة غير قابلة للنقد.
صورة محمد الرمز: ما نقصده بالضبط من استخدام مصطلح "الرمز" تلك القوة الكاريزمية التي
تغذت ومازالت تتغذى من السياقات الاجتماعية الحاملة لها، والتي هي من يقوم
ومن يحدد –في نهاية المطاف- مسار الرمز ووظيفته وآليات اشتغاله ونتائجها.
لكن أيضاً السياقات الاجتماعية لا تعمل في فراغ لوحدها في صناعة وتغذية
الرمز؛ لذا لابد من تضافر تأثيرات خارجية. لا بل يمكن أن نمتد بالقول بما
يخص صناعة صورة محمد الرمز أنه لولا التأثيرات الخارجية، لما تأسطرت صورة
محمد بالشكل الحالي عند مسلمي اليوم. وهذا من خلال تأثر التراثيين الأوائل
بحضارات غيرهم في مجالات القص والرواية والحكاية، فيأتي هذا التأثر ليسد
بعضاً من فراغهم الحضاري. ومرد هذا أن التطور الذي يطال الرمز هو بالدرجة
الأولى نتيجة تفاعل تلك العناصر الخارجية مع الداخلية، وبحسب حدود وأطر
الهيكليات الاجتماعية للثقافات الأخرى. وبالتالي إن صورة محمد الرمز هي
نتيجة لذلك التفاعل الذي نتحدث عنه.
بعض المستشرقين الجدد يأخذ هذه النقطة إلى حدود متطرفة لينفي شخصية
محمد من أساسها، وأنها لم تكن إلا شخصية مخيالية احتاج لها الغازون العرب
لبلاد غيرهم كـ بطل حضاري لهم، فخلقوها بناء على ذلك، كما هو الأمر في
حضارات بلاد الرافدين والهند، أصحاب السبق في صناعة الكاريزما والأبطال.
العرب كما هو الأمر عند غيرهم، بحاجة إلى قائد يهديهم، إلى رمز يستظلون
بظله يرشدهم حيثما توجهوا، يقاتلون أعدائهم باسمه… هذا التطرف الاستشراقي
يوازيه تطرف من نوع آخر هو تطرف الإسلاميين الذين يحكون عن محمد وكأنه بين
ظهرانيهم.
لا شك أن تلك النظرة النقدية الاستشراقية، متطرفة في حدودها القصوى
وخاصة في حذف صورة محمد كلها (التحقق الفعلي لوجوده)؛ لكن من الصحيح أيضاً
أنه لطالما يتم الحديث بأنه لا يخلو أي بناء ديني من تأثيرات أسطورية
(ودين الإسلام ليس استثناء من ذلك) من جهة، وبأنه لطالما ينشدّ الفكر
الجماهيري دوماً إلى إلباس المؤسس الأول بصور ميثية وإعجازية ما فوق
طبيعية حتى تغدو هذه الجماهير مرتهنة في وجودها ومستقبلها الغامض إلى
التأطيرات الأسطورية لتلك الصور عن بطلهم (قائد، نبي، فاتح..) من جهة
ثانية. هذه إحدى نتائج الغوغائية الجماهيرية في صناعة الأساطير بل وفي
سرعة تصديقها.
وهكذا، فإن نبي الإسلام، بالرغم من تمتعه بالتحقق التاريخي والفعلي
لوجوده (بعيداً عن الشكوك التي تثار حوله وحول بعض الشخصيات النبوية
الأخرى)، فقد تحوّل عبر التاريخ إلى كاريزما ميثية، تأسطرت بفعل عوامل عدة
ليس أقلها، التأثيرات الخارجية التي طالت المخيال الشعبي للعرب، ثم لا
حقاً بالمخيال الصوفي، البارع حقيقة في عملية الصناعة الميثية والرسم.
«- هل تدرون من التقى نبيكم محمد في أحد الأيام؟ يقول أحد القاصين.
- ومن التقى؟
- لقد التقى بملاك نزل عليه من السماء، له ستمائة ألف جناح، وقال له يا محمد: أنت نبي الله!».
في ظل هذا النمط من التفكير الشعبي، ليس ثمة حدود ما بين الحقيقي
والخيالي، ما دامت هذه الأساطير تمس البطل أو المؤسس الأول محمد. كل
أسطورة تُبنى فوق أختها، حتى ليغدوا ذهن المسلم وكأنه قصر من الأساطير لا
يعيش في عصره إلا بجسده فقط، أما عقله فهو معلق هناك. والسبب الرئيسي
لهذين التطرفين (المرفوضين) هو غياب الآليات النقدية والنقد تاريخية في
دراسة شخصية محمد من داخل بنائها الاجتماعي والمحيط الخارجي الذي احتواها
وغذاها؛ حيث البناء الاجتماعي له استحقاقاته التاريخية، وكذا المحيط
الخارجي له تأثيراته على ذلك البناء الاجتماعي.
لم يكن الأمر ليقف عند الحد الذي أطره التخلف التراثي والصوفي… ، فما
زالت صور محمد يعاد، في العصر الحديث، صناعتها في كل مرة، إنْ بمنطق
اشتراكي تحرري، حيث سيتحول محمد هنا إلى "رجل ثوري" (اللون الأحمر) دافع
عن الطبقات المقهورة في مكة، كما هو الأمر في الأدبيات الماركسية، أو
سيتحول إلى عبقري بطولي (كما أتحفنا "العقاد" بالحديث عن عبقرية محمد
بوصفه رجل عبقري)، أو سيتحول إلى بطل ومجاهد خشن، بمنطق إيديولوجي معسكر
لا يكون الهدف منه إلا إشهار صورة محمد في وجه الآخر كـ "سلاح"، قابع في
عمق الذاكرة، يُستثار في أي وقت متى دعت الضرورة لذلك، كما نشهد هذا عند
بعض الخطابات الإسلامية…الخ. وهذا ما نشهده الآن عند الإسلام العسكرتاري
المسلح.
طبعاً إذا أردنا وضع ألوان لصورة محمد (إضافة للأحمر الثوري) عند
مخيالين لا على التعيين، المخيال الصوفي ومخيال المجاهد (مثلاً)،
فبالتأكيد سيكون الفرق لاختيار الألوان شاسعاً: فالصوفي سيميل إلى الألوان
الفاتحة، اللون الأخضر وربما الأصفر… بينما نجد أن المجاهد سيميل إلى
الغامقة، اللون الأسود، البني الغامق… هل نستغرب إذن، إذا رأينا اللون
الأخضر يُغلّف رأس الصوفي في زوايا البانثيون أو المعابد الإسلامية، بينما
اللون الأسود يغلف رأس المجاهد في زوايا جبال أفغانستان؟ وبكلمات أخرى، كل
طرف يلوّن ويصوّر محمداً بحسب بُنى المنظومة الثيولوجية المستقرة في كيانه
من الداخل، وطبقاً لطرق إنتاج الأدوات الذهنية لها؛ وهنا يكمن منشأ
الاختلاف في وظيفة كل صورة قد صُوّر بها محمد.
ذلك هو بالضبط إحدى نتائج الغياب الكلي في قراءة محمد، قراءة تاريخية،
بمنطق التاريخ الذي أنتجه، بكل ما اكتنفه من حوامل واستحقاقات سياسية
واقتصادية وثقافية ودينية…الخ. والأخطر من هذا، أن الأمر لا / ولم يقف عند
هذا الحد، بل باحتكار كل طائفة (أتحدث هنا إسلامياً) والتحدث باسم محمد
والتنكر والاستنكار والتكفير لكل من يُقدّم صورة تاريخية لمحمد بغير ما هو
مرسوم في ذهن تلك الطائفة عن محمد.
وليس من المبالغة القول أن أهم تأثير قد طال الذهنية العربية
الصحراوية المفتقرة في جيناتها للخيال الخصب هو التحولات الجذرية بما يخص
"المخيال الشعبي" للعرب في صناعة صورة لمحمد، وإعادة الصناعة وإنتاج
الصورة بحسب مفاعيل السياق الاجتماعي الخارجي الذي انخرط فيه العرب. فإذا
كان من الصحيح أن لمحمد من وجود متحقق في التاريخ، إلا أن صورته قد أعيد
خلقها ألف مرة داخل مخيال ثقافات الجماهير المختلفة وعلى مدار التاريخ
المتحول. وبالطبع هذا الكلام يلقي بظلال كثيرة من الشك في ما أنتجه
التراثيون إلينا، لكن ليس من النقد في شيء أن ترمى كتب التراث كلها بكونها
لا تمثل إلا أساطير الشعوب (كما يذهب في ذلك ثلة من المستشرقين)؛ بل
الحاجة الماسة هي في تفعيل آليات النقد التاريخي التي تطال حتى درس كيفية
انتقال وتموضع الرواية والحكاية والحديث… داخل مخيال من حملوا اسم محمد
لبلاد غيرهم.
إذن، وعبر مراحل التاريخ المختلفة وتطور الأجيال، لا يمكن الحديث بنحو
مطلق عن صورة استاتيكية لمحمد سواء بوصفه نبي بدوي، أو شخص كان قد هجر
تقاليد وعادات قومه والتزم حنيفية أصدقائه الموحدين، أو مهرطق ارتد عن
المسيحية، أو حتى بوصفه غازياً متعطشاً للدماء، أو سياسياً محنكاً…الخ كل
هذا لا يمكن الحديث عنه من غير درس البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي
أو بكلمات مختصرة: درس الحاضنة التاريخية واستحقاقها عليه.
وباستمرار تموضع محمد كـ رمز "كاريزمي" في مخيال الإسلاميين، البعيد
عن أي تعيّن واقعي، فإن استحضار هذا الرمز كمثال طوباوي في الأزمنة
الحاضرة والكيفية التي تتم بها هذه العملية هي التي تلقي بإشكالات عديدة،
لم يجد الإسلاميون حلاً لها إلى الآن أو على الأقل محل اتفاق بين جماعتين؛
بمعنى ثان:
تنميط صورة محمد ضمن مخيال جماعة إسلامية ما، ومحاولاتها من ثم سحبها
إلى الحاضر وفرضها عليه كمثال أوحد يقتدى (تلتقي هذه العملية مع أحد جوانب
الأسلمة)، هو ما يشير إلى أزمات الإسلاميين الحالية وإشكالات تفاعلهم مع
الواقع المعاصر، ليس أقلها اغتراب الإسلامي وازدواجيته العقلية بين محاولة
التعايش (وليس العيش) مع واقعه، وبين رفضه، بحجة أنه ثمة مثال محمدي يجب
أن يطبق ويحتذى. ولا نستغرب في هذه النقطة الحالات الصدامية التي يجد فيها
الإسلامي نفسه مع محيطه التي تؤدي به إلى القيام بأعمال إرهابية إسلامية
كما هو الأمر عند كثير من الجهاديين الإسلاميين المسلحين الذين يحاولون
بأي طريقة استعادة ليس فقط المثال المحمدي، بل وحتى كيف كان يبول محمد.
إلا أنه وبنفس الوقت لم يحدث –ولن يحدث- على مر التاريخ المعاصر (وحتى
في الأزمنة القديمة)، من زمن الأفغاني إلى الآن أن نجحت أي جماعة في ذلك.
لماذا؟ لأن الاستحقاق التاريخي الحضاري المعاصر بإفرازاته المتحولة
(سياسية، اقتصادية، ثقافية…) دائماً ما يقف في وجه هذه الهياكل الذهنية
الهلامية، هذا فضلاً عن اختلاف الجماعات الإسلامية فيما بينها في تنميط
صورة محمد ضمن قالب محدد لكي يطبقوها في أزمنتهم المعاصرة. من هنا يمكن أن
نقرأ أحد أسباب تكفير الجماعات الإسلامية لبعضها البعض (محمد شخص ديمقراطي
وقد حض على الشورى، لكن إسلاميون آخرون لا يرون الديمقراطية إلا كفراً
مستعاراً من الغرب، دار الكفر…الخ).
صورة محمد في المخيال الاستشراقي: "محمد قائد بدوي عربي، يتمتع بأبشع صفات البداوة البربرية، من غزو
واستيلاء على أراضي غيره واستحلالها باسم آلهة خرافية، وما ادعاؤه النبوة
إلا لتبرير سطوته وإشباع نزواته النفسانية والجنسانية؛ وفي أحسن حالاته ما
هو إلا مهرطق ارتد عن المسيحية بعد أن استفاد منها واستنفدها ليؤسس ديناً
اسمه الإسلام….الخ". هذه بعض من صور محمد في الذهنيات الاستشراقية في
القرون الوسطى، والتي كان من أحد أسباب رواجها في أوربا هو التخلف الذي
كان يسود شوارعها والظلام المسيطر (حتى في تأطير الصور عن يسوع المسيح)،
فضلاً عن انعدام التواصل والهوة السحيقة ما بين الشرق والغرب. حيث كانت
كتابات اللاتين القروسطيين تستمد معلوماتها من إحدى مصدرين (جفري): من
الروايات البيزنطية، ومن التواصل الشخصي مع المسلمين أثناء الحروب
الصليبية. لكن هذه الصور كانت تقابل عند الطرف الآخر الشرقي بصور مناقضة
تماماً، كلنا يقرأها إلى الآن في كتب التراث. إنه بالرغم من ضيق المساحة
هنا في تناول صورة محمد وأدوات الرسم وغيرها بشكل كامل عند كلا المخيالين،
الإسلامي والاستشراقي، إلا أنه يمكن القبض على بعض من ذلك بشكل سريع.
لنقرأ صورة لـ محمد في المخيال اللاستشراقي الأوربي في القرون الوسطى،
حيث اعتبر محمد أنه لا يخرج عن أحد الأصنام الثلاثة التي يعبدها المسلمون:
أبولين، تيرغافان، ماهون. وقد حُرّف اسمه في ما اصطلح عليه بـ Mawmet التي
تشير إلى "الصنم" (جفري). ثم وألم تكن صورته هي صورة الماهوند Mahound ،
الذي كان يعتبر اسماً من أسماء الشيطان(3)؟
لم تتغير كثيراً هذه الصور القروسطية عن محمد في بدايات عصر النهضة،
هذا في الوقت الذي كانت فيه صورة محمد –في الطرف المقابل- داخل أحضان
الإسلام التركي العثماني في الشرق تموج وتعلو فيها قوة صناعة المخيال،
لدرجة أن يتحوّل محمد ليس إلى صورة البطل الحضاري أو البطل الممدود
بإعانات ملائكية فقط، الذي يحمي ويرعى خلافته –أي العثمانية-، بل تحوّل
إلى: نور الهدى، ضياء الحق، خلقت الدنيا من أجله…الخ (ما زالت هذه الصور
فاعلة في مخيال الإسلام الشعبي إلى الآن). النقطة الرئيسية مع بدايات عصر
النهضة أن الإسلام بشكل عام كان قد اختُزل فقط بالأتراك البعيدين جداً عن
أي رقي حضاري ومدني، حيث توقفت في هذا العصر بشكل شبه تام حركة التأليف
والتقدم، وهذا ما وجد انعكاسه على الإسلام ومؤسسه نفسه بإشاعة الخرافة
والأسطورة عنهما، وذلك لصالح الاهتمامات بالأمور العسكرية والسيطرة على
البلدان. وهذا أحد الأسباب أنه في مستهل عصر النهضة لم تتقدم كثيراً صورة
محمد في أوربا. فحينما كان يُشار إلى الإسلام، فلا يشار لممثليه إلا فقط
بالأتراك.
ولنتذكر أن القرآن في ذلك الوقت كان يدعى بـ "الكتاب التركي" والعثماني. ومحمد زعيم الأتراك أو رسولهم.
ثم لنقرأ التبدلات الجوهرية التي بدأت تطرأ على صورة الماهوند تلك مع
عصر النقد الأوربي، بالتزامن مع سيطرة الخطابات التاريخية والفيلولوجية
التي قطعت بشكل شبه كامل مع صورةَ محمد التي كوّنها أوربيوا القرون الوسطى
عنه؛ وهذا ما بدا جلياً في الكتاب الضخم لـ وليم موير عن "حياة محمد" الذي
بدأ بإصداره في أربعة مجلدات وذلك من سنة 1857 حتى 1861. ومن ثم دراسة
نولدكه لتاريخ القرآن سنة 1860، لتبدأ منذ ذلك العهد تقريباً قراءات
ستختلف جذرياً عن سابقاتها القروسطية. العملان هذان هما تتويج هذه المرحلة
والبداية بمرحلة أخرى مهدت السبيل للدراسات النقدية لحياة محمد والقرآن،
واللذان ما زلنا إلى الآن نفيد منهما. وبحق، لقد وصف نولدكه ووليم موير
بأنهما شيوخ المستشرقين.
لا نستطيع أن نذكر كل ما كتب بعدها (هذا فضلاً عن أننا لم نذكر ما قبل
تلك المرحلة إلا الأعلام الرئيسيين، فلم نذكر مثلاً "كانون سل" الذي له
مؤلف مهم هو The Life Of Muhammad(4)). وقد وفى آرثر جفري بذلك إلى حين
موعد كتابة بحثه في مستهل الربع الثاني من القرن العشرين، وهذا رغم عدم
تقديمه في بحثه صورة شاملة للتطورات التي لحقت بصورة محمد وحياته من خلال
ما قدمه الاستشراق. لكن بوسعنا القول أن صورة محمد بقيت صورة مائعة -رغم
التقدم الهائل- سواء في ما بين المستشرقين أنفسهم (وذلك بحسب النافذة
الإيديولوجية والمعرفية التي تُتناول بها صورة محمد) أو حتى داخل ميادين
الدراسات الإسلامية.
ويجدر القول أن مرحلة الاستشراق تلك في دراسة محمد قد امتدت (من ناحية
الخطوط العريضة بغض النظر عن التفاصيل) إلى ما بعد منتصف القرن العشرين.
حيث مثل نهاية هذه المرحلة المستشرق الكبير مونتغمري وات في عمليه
الخالدين: "محمد في مكة Muhammad At Mecca" و"محمد في المدينة Muhammad At
Medina" ( أكسفورد، الأول في سنة/1953/ والثاني/1960/)، ليقرأ محمد ليس
كما عند المستشرق كويل سابقاً من زاوية أنه "سياسي صرْف"، بل بكونه "نبي
وسياسي": نبي في مكة، سياسي في يثرب. المنهج النقدي الذي اختطه وات في
الواقع فريد بكثير من مناحيه. فهو من جهة استفاد واستوعب جهود من سبقوه من
المستشرقين متجاوزاً بذلك الهنات والأخطاء التي وقعوا بها، ومن جهة أخرى
قدم مسحاً شاملاً للحاضنة التاريخية لمحمد بكافة مناحيها الاقتصادية
والسياسية والاجتماعية والدينية وتأثيرها على ذلك الرجل محمد ودعوته. نقول
هذا الكلام في إجلاء وتقدير وات قيمته النقدية في عالم الاستشراق، ونحن
ندرك بنفس الوقت أنه شخص لاهوتي في الأساس، وهذا اللاهوت كان أحد العوائق
المعرفية في التوصل إلى كثير من النتائج؛ لكن يبقى كتاباه الآنفا الذكر
هما الأكثر أهمية في تناول حياة محمد، واللذان اختصرهما بكتابه: "محمد،
نبي وسياسي(5)". ولا ننسى إضافة إلى ذلك، ما قدمه مكسيم رودنسون الذي رسم
صورة في دراسته: "محمد" الذي يقترب ويبتعد من وات….الخ الدراسات.
ثم لتبدأ بعد ذلك في أوربا وأميركا مرحلة جديدة من الاستشراق في دراسة
محمد والقرآن، كانت قد قطعت مع سابقاتها من الناحية المنهجية، وذلك في ظل
تعدد المدارس النقدية والنقد أدبية، وفي ظل اكتساح فكر ما بعد الحداثة
الذي غلف المرحلة هذه من الاستشراق. لكن مع ذلك وبالرغم من التقدم الهائل
في الاكتشافات، لم تتقدم كثيراً مناحي النقد في تقديم صورة تاريخية لمحمد؛
بل بالعكس، فمع تنكر الكثير لجهود المستشرقين السابقين، وشنهم حملة شعواء
ضد مناهج النقد التاريخي، أصبحت صورة محمد ليست فقط صورة "مائعة"، بل
متنازع عليها. وهذا موضوع متصل آخر.
الإثنين أكتوبر 17, 2011 10:42 am من طرف سبينوزا