تمهيــد: في ربيع العام 1991، نشرتْ دار "ريجين ديفورج" الفرنسية كتاباً وضعه اشتراكيان، أحدهما هو جان زيغلر ZIEGLER، النائب في المجلس الوطني السويسري، وعالم الاجتماع، ومؤلف عدد من الكتب منها "سويسرا تغسل أكثر بياضاً" يلامس عالم المصارف والحسابات السرية وغسيل الأموال، بالإضافة إلى كونه صديق صديقنا الدكتور غسان اللرفاعي، الذي كتبَ عنه أكثر من مرة في أسبوعياته غير المتزنة التي تنشرها "تشرين".
اتَّخذ المؤلف الثاني اسماً مستعاراً هو أُرييل داكوستا، نظراً لقربه من صاحب موقع رفيع في الحزب الاشتراكي الفرنسي – فَضَّل – عدم إحراج مُعلّمه بآرائه – وهناك من قال إنه المعلم نفسه المشارك في الكتاب. كان اليوم التاسع من تشرين الثاني 1989 قد شهد انهيار جدار برلين، وبداية تفكك كتلة الدول الاشتراكية، وسادت مقولات هيمنة السوق ونهاية الإيديولوجيا، فانبرى الكاتبان الاشتراكيان إلى التذكير ببعض الأمور الجوهرية بالرجوع إلى كارل… ماركس طبعاً.
قرأتُ عن الكتاب الموسوم بعنوان: "إلى غَدٍ يا كارل" في ملحق الكتب من – لوموند دبلوماتيك – وطلبتُ من صديق مسافر إلى سويسرا إحضار الكتاب ففعل. انشغلت بالكتاب أياماً وحَدَّثتني نفسي بترجمته. وكنت يومها أجمعُ الدراسات والمقالات وأترجمها تمهيداً لنشرها في "نظام النهب العالمي". وهي مواضيع تنحو بشكل عام منحى كتاب إلى غد يا كارل.
أنجزت ترجمة نصف الكتاب أو أكثر قليلاً، وشعرت أثناء مراجعة النص وتمحيصه بضرورة تحسين الترجمة، فتركتُ الكتاب على أمل العودة إليه، وانصرفتُ إلى استكممال نظام النهب العالمي وأتبعتُه بكتاب نظام التضليل العالمي، نشرتْها دار المستقبل الدمشقية في 1992 و 1994، دون أن يلفتا نظر الإعلام أو القراء، وهذا أمر عادي يحدث كل يوم.
ولما اندلعتْ الأزمة المالية العالمية الراهنة، وهي في الواقع لم تنطفيء، عدتُ أبحث في دفاتري القديمة واستخرجتُ إلى غدٍ يا كارل، وبدأت معالجة الترجمة من جديد. وكنت أجمع عدداً من البحوث المهمة من المصادر التي استقيتُ منها نظام النهب العالمي، ولكنني عزمت على تقديم كتاب زيغلر وداكوستا "إلى غدٍ يا كارل" وإهمال الجزء الثاني من نظلم النهب العالمي.
أبدأ اليوم بتقديم ما كتبه جان زيغلر في مقدمة الكتاب وما اختَتَم به تلك الصفحات القّيِّمة لاقتناعي بفائدة الكتاب وأهميته فهو "راهن" مثل فلسفة ماركس. يستحق أن يكون، مع ما يماثله من نصوص، أَيْرَماً على طريق الصراع الأزلي بين من يستأثرون بالثروات وبين المحرومين منها. والأيرَم في لسان العرب هو علَمٌ على القارّة يُهتَدى به، والقارة هي أرض مرتفعة عما حولها.
غازي أبو عقل
تقديم:
جان زيغلر ينبغي ألاَّ نستنفد موضوعاً ما ونرهقه دائماً، بحيث لا نَدع للقارئ ما يفعله. ليس المقصود أن نجعله يقرأ، بل أن نجعله يفكر.
بارن دومونتيسكيو. في مطلع القرن السابع عشر، غادر أُرييل داكوستا مدينةَ بورتو (البرتغالية)، إلى أمستردام (في هولندا)، جاداً في البحث عن جذوره، وهو البرتغالي المتحدر من عائلة يهودية اعتنقت المسيحية، حيث كان يشغل وظيفة أمين صندوق في مَجمْع كاثوليكي.
غير أن الطائفة اليهودية (في أمستردام) رَفَضَتْه، لأنه لم يقبل فرائضَها الدينية، فكشف أضاليلَ مذهبهم في كتابه "سيرة ذاتية" مُقدماً مرافعةً شديدة اللهجة لصالح حرية التفكير. وهكذا وجد نفسه لا يهودياً، ولا مسيحياً، ولا حتى مُلحداً: تجربة تقاسمها سبينوزا وأطاله لها، وسيجعل منها – في ما بعد – أنظومةً قائمة بذاتها.
أُرييل داكوستا، هو الاسم المستعار لفيلسوف شابٍ من محافظة سافوا الفرنسية، يُحَضّر حالياً أُطروحةً عن سبينوزا. هذا الشاب من أصدقاء ميشيل روكار [رئيس وزراء فرانسا السابق]، وهو مؤلف هذا الكتَيّب معي.
تكَوَّنَ – إلى غدٍ يا كارل – من مناقشاتنا المتوالية، ومن منازعاتنا التي لا تنتهي، ومن أملٍ مشترك، ومن اتفاق الصداقة وتفاهمها. ومع أن الكتاب "صغير المقاييس" إلا أنه يثير بعض المسائل: ذلك أننا لا نستطيع الكتابة بأكُفٍ أربعةٍ. ولكي يحتفظ نصٍّ ما بترابطه وبقوّته المقْنِعة، وبأسلوبه، يجب أن يضطلع مؤلف واحد بعبء كتابته، ويتحمل مسؤولية آرائه. لذلك اقتسَمتُ مع أرييل داكوستا فصولَ الكتاب.
أنا أُعارض بعضَ تحليلاته. ولا أشاركه تسامُحَه حيال الحزب الاشتراكي الفرنسي بخططهِ المتغيرّة، وبانقلابات مواقفه. كما أنني لا أوافق على نقده المتطرف للحزب الشيوعي الفرنسي، لأنني أحكم بأهمية معركته من أجل العدالة الاجتماعية، وأعتبر ما تقوم به ريجيس دوبريه Regis DEBRAY، وماكس غالوMax GALLO عملاً حوهرياً.
صميم الهواء جليدي في نصف الكرة الأرضية الشمالي، هذه الأيام. فلقد وصلتْ الهمجية الجديدة، ومعها تعظيمها الأحمق للنجاح الفردي، والتنافس الوحشي، الذي يُشيد بفكرة سحق القوي للضعيف ويعتبرها فوزاً للذهن. وصلتْ ومعها رفضُها الظالم لكل شكلٍ من أشكال التضامن و والتكافل. كونوا مَهَرة في تقدير العواقب ونفعيين واقعيين – براغماتيين -. فالثري على صواب، والفقير مخطيء. ولا يُفَسِّرْ فقرَ الفقير إلا علّة سرية كامنة فيه. أما فكر المجموع فإنه حكاية بالية تجاوزها الزمن، لا تكاد تصلح إلا لشغل فراغ بعض اليساريين المتأخرين عن الركب. والفكر النقاد؟ لا أظنكم تفكرون فيه. فالفكرة ينبغي لها أن تكون قادرة على الفوز، أي "وظيفية" ونفعية.
عند الإنسان الذي حَوَّلتْه العقلانية الجارية إلى أداة، لا توجد إلا فكرة وحيدة "صحيحة" هي الفكرة التي يُنتجها العقل الأداتي بالضبط. زد على ذلك أن "الأداتية" هي الموضوع الحقيقي والصحيح للتاريخ (1).
وماذا نقول عن العالم الثالث؟ إنه لم يعد يحظى بالاهتمام إلا من بعض المجموعات الضئيلة من الرجال والنساء المصَمّمين ذوي الرؤيا الواضحة. أما الصحافة الواسعة الانتشار، فهي تلتحف "بواقعيتها": لَكَمْ كنا مخدوعين، بشأن شعوبكم المكافِحة والمتألمة والمقاومة. لقد فهمنا أخيراً: ففي نهاية كل تمرد هنالك بول بوت POL POT ينتظر، قابعاً في الظل (2)؟
ضلالات ضرورية، مبرمجة منذ الأزل، وانحراف بطيء لكل واحدة من حركات التحرر الوطني الكبرى… أما المفسرون الوقورون، والمعلقون، وكتبة افتتاحيات الصحف الباريسية، فلا يدققون كثيراً في التفاصيل. كذلك البرامج المخصصة لدراسة المصائر العديدة والمأساوية للشعوب البعيدة عن المركز، فإنها تتناقص من عام إلى عام، في المعاهد والجامعات ومراكز البحوث. لأن المخصصات المالية غير كافية. والفكر المناهض للإمبريالية هو اليوم شبه أقلية. ويبدو أولئك الذين يتَبنونه كأنهم من "الخوارج" المزعجين إلى حدٍ ما، واللطفاء أحياناً لكنهم دائماً خارج الزمن. وبكلمة واحدة،، فالطائفة العليا للمفكرين الباريسيين، و (بابَوات) المعرفة المعتمدين رسمياً، يعتبروننا – نحن أنصار الفكر المضاد للأمبريالية – خارج الموضوع نهائياً.
ما كان البارون (دومونيتسكو) ثورياً، ولا ديمقراطياً، ولكنه كتب وهو يشهد عاجزاً الدمار الذي ألحقَتْه الإمبريالية الإسبانية بالعالم الجديد – أميريكا -: "هؤلاء القائلين بأن قَدَراً أعمى أعطى النتائج كلها التي نراها في الدنيا، قالوا سُخفاً كبيراً. أيوجَدُ سُخْفٌ أكبر من قدَر أعمى يُنتج كائناتٍ ذكية" (3).
في نهاية القرن العشرين، وفي المجتمعات الصناعية لنصف الكرة الشمالي، يتولى الغباءُ مقاليدَ السلطة. بينما يحصد الجوع الأرواح، وتستفحل كوارث الجفاف الدورية، ويستمر تخلف اقتصادات البلدان البعيدة عن المركز، ويتكرر انخفاض أسعار المواد الأولية، ويتزايد عدد الأمهات المسلولات، والأطفال الكسيحين والمقعدين، المتغضنة جلودهم كالعجائز، والعائلات الممزقة، والدموع ومرض البلهارسيا وداء "الولد الأحمر" (4)، والحروب الدموية بين البلدان المتجاورة، والدعارة المتفشية، والتخلي عن الأولاد، والبطالة الدائمة، وامتداد محيطات من مدن الصفيح والأكواخ في القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينة. "إنها أحداث مؤسفة، ولكن تجنبها عسير. إنها حوادث شديدة التعقيد لا يمكننا شرحها… كان الفقراء دائماً موجودين. نعم أيا السيد. إنه القدر والقضاء، أقول لك".
يُقيم في هذا الكتاب، أمرٌ مطلق – كفعل ضروري في ذاته -: إن نظاماً للعالم يَعتبرُ التعاظمَ السريع لثروة بعض الناس، والضنى المستمر لأكثريتهم، أمراً طبيعياً وكونياً شاملاً، وضرورياً لازماً، وتقوم فيه الحريات الأساس، والرفاه النسبي، والحقوق المدنية للديمقراطيات الصناعية، لقاء ثمنٍ يُدفَع من بؤس جماهير العاملين في العالم الثالث، ومن دماء هذه الجماهير ومن استغلالها، إن مثل هذا النظام غير مقبول، وينبغي تغييره جذرياً.
كتبَ سيبنوزا، في العام 1661، اثناء إقامته في رينسبورغ: "تترابط الأفكار غير الصائبة وغير الصحيحة، الواحدة منها بالأخرى، كما تترابط بالضرورة أيضاً الأفكار الصحيحة والوافية بالغرض" (5).
الواجب الأول لهذا الكتاب هو هدم المنطق الجبري ظاهرياً للعقلانية التجارية، وكشف مَن تُخدم – هذه العقلانيةُ – وكيف تخدمهم. ونستعرض بعدئذ، المخاطرَ التي يُعَرِّضنا إليها، نحن سكان الغرب، التوسعُ المستمر لهذه العقلانية التجارية.
أتبنَّى مع أرييل داكوستا حق المجموع في الفكر، وأطالب معه بحقنا في إرث تراث العقل بحكم كوننا من أبنائه، هو الذي نطلق عليه منذ كانط "العقل النَقَّاد". هنالك سويات ومراتب متدرجة وهُويات. واليسار ليس اليمين و "عصر الفراغ" الذي يُعلِن عنه المجتمع ما بعد الصناعي ومجتمع وسائل الإعلام، لا يُشكِّل تقدماً (6)، والدنيا ليست عرضاً تمثيلياً. وانتصار الفردية الضاري وروح التنافس على عقلية التضامن والتكافل، وخفض شأن الإنسان إلى "وظيفيته" التجارية، هذه الأمور كلها تهيء انحسارَ الحضارة.
توجد مباديء يستحيل التساهل بشأنها: منها مبدأ ضرورة السعادة للجميع، والتماثل في الحياة – والهوية – بيت البشر جميعاً – أنا الآخر والآخر أنا (7). إن اللاإنسانية التي تصيب الآخر، تدمّر الإنسانية في ذاتي.
(تعود فكرة هذا الكتاب الأولى إلى جان كلود غاوزيفيتش. فلولا نصيحته وانتباهه ما كان لهاذ المشروع أن يصل إلى غايته. كما قامت بنسخ المخطوطة وتصحيحها بكفاءة ماري آنج دولاسين. أرييل داكوستا وأنا نعبر لهما عن امتناننا العميق…
خاتمــة: منذ ثلاثة قرون، أبدى بعضُ الحمقى دهشَتَهم من سبينوزا الذي أراد تحرير الإنسان، في حين أنه ما كان يعتقد بحريته هو شخصياً، ولا يؤمن بوجوده الخاص. واليوم يُبدي حمقى جُدُد – أو ربما أولئك الحمقى أنفسهم وقد تجسدوا ثانيةً – يُبدون دهشَتَهم لاشتراك فوكو في أشكال النضال السياسي. وهو القائل بموت الإنسان.
( جل دولوز Gilles DELEUZE )
بأي كلامٍ نُخاطبُ شخصاً نعرفه من قديم إن لم نَقُل له "إلى الغد"؟ إلى غَدٍ إذن، لأن النصوصَ العظيمةَ التي قَدَّمتْها الماديةُ التاريخية لا ينبغي تركها للنَّقْد القارض الذي تمارسه الفئران. وهذه النصوص، مثلها مثل كل ما يُسهم في مغامرات العقل من قريب أو من بعيد، ستتضمن حتماً، نوعاً من سوء الفهم. لذلك ليس هناك أي سبب يدعونا إلى أن نُسْلِمَ الروح، بطبيعة الحال.
مع ذلك، إذا وُجِدَتْ إخفاقات أو خيبات كثيرة، تقوم كمؤشرات على مسيرة التاريخ الذي نتحدث عنه، وتزيد من سرعته، كأنها عقبات إبيستيمولوجية تُعزِّزُ صَبْرَ المفاهيم، فإنه يوجد غيرها مما ينقلب سريعاً إلى ثرثرة، إن لم نقل إلى خصام سَيء.
الواقع أننا نجد أنفسنا بالضرورة وبشكل شبه حتمي، في هذا النوع من اللافهم والضياع السفسطائي والمغالطة، ما إن يتعلق الموضوع بالعودة إلى الحديث عن ماركس وعن فكره.
الأمر أسوأ مما نظن، فلمجرد وجود نية استعادة الحديث عنه، تنهض شبهةٌ تمنعُ استمرار هذا الحديث، شبهةٌ تزداد وطأتُها لكونها مقبولة من الأكثرين، بمن فيهم قُدامى المفرطين في غيرتهم على ماركس.
المؤكد أن فكر ماركس مُشْبَعٌ جداً بالتاريخ وبالاغترابات السياسية، مما يمنعه من حرمان نفسه من هذا التوسع السجالي، كما لو أن إثارة التناقض كانت في طبيعته. وليس هنا مجال الاستفاضة في هذه النقطة، ولا مجال دفعها إلى منتهاها. فلقد سبق القيام بمثل هذا التمرين، الذي يُحيلنا إلى عددمن الكتب الجيدة التي عالجت هذه المسألة. كلا، إن موضوعنا الآن مختلف، فلنكرر، ليس المقصود "القيام بعودة" إلى ماركس، كما عاد المدرسيون – مثلاً – طوال قرون إلى أرسطو، أو كما قد يرجع بعض المريدين إلى حقيقة موحى بها ومُغلقة. فالمسألة لم تعد مطلقاً أن نكون ماركسيين أو ألاَّ نكون. لأن مسألة الماركسية اليوم، في نهاية المطاف بعيدة عن كونها بمثل هذه البساطة التي تبدو عليها. غير أن هذه الرغبة العارمة – لسائدة – برمي الطفل الوليد على عجل، مع ماء حوض استحمامه والحوض نفسه، تجعلنا نخاطر بأن نجد أنفُسنا ذات يوم دون حمَّام، قذرين بمعنيي الكلمة: الحقيقي والمجازي.
يتحدث الناقد الأدبي أندريه كلافل Andre CLAVEL عن هذه الحمَّامات المنزلية، التي سبق لآلفونس آليه Alphonse ALLAIS أن وجدَ فيها الإلهام ووصفها بقوله: "مكان يثير الوهم، حالمٌ تماماً، مؤاتٍ لغرغرة الروح، نستطيع – فيه – تمشيط أسلوبنا على مهل، ومن ثم فالاستيهامات وصور الخيال ليست أبعد من صنبور الماء"…
لقد اَلغَتْ العواقبُ التوتاليتارية لفكر ماركس. وما واكبها من اعترافات وجَلاَّدين ومُعَذَّبين، كُلَّ إيمانٍ بقدوم مدينة الشمس المثالية، التي تتمكن فيها الأجساد من العمل حول الكتاب الضخم المفتوح للمعرفة المطلقة، المُنظِّم لسائر الإنفعالات والأشياء.
هنا اكتشفَ جيلٌ في ألم جسَده وعَبر أوهامه الضائعة أن السياسية متعلقة بفن "الشر الأقل" أكثر من تعلقها بتصريف المُثُل العليا بالصيغة الدالة على الحاضر. كتب جِلْ دولوز DELEUZE: "لا يُقدّم الفلاسفةُ الجدد، في وشايتهم بماركس، أي تحليل جديد لراس المال، الذي يفقد وجودَه تحت أقلامهم بشكل خفيّ وغامض. إنهم يفضحون عواقبَ وتبعات ستالينية يفترضون أنها نجمت عن ماركس. وهم بذلك أكثر قرباً من الذين عَزوا إلى فرويد FREUD التبعات اللاأخلاقية: وهذا أمر ليس له أدنى صلة بالفلسفة." [من كتاب ج. دولوز: محادثات 1990، بالفرنسية].
لا تُقدم المُعتَقلات الستالينية أو تلك التي أقامها POL POT الدليلَ على أن ماركس أخطأ بكل شيء. ولا تعيد إلى رفوف الغرائب الأركيولوجية – نهائياً – أُطروحات الأيديولوجية الألمانية ، ونقد الإقتصاد السياسي أو مخطوطات 1848.
تكمن المفارقة في أن هذه النكبة تعيد إلينا فكر ماركس، فكرٌ ينبغي إعادة قراءته من خلال الآفاق التي فتحها انهيار جدار برلين، لا من أجل ارتجال يوتوبيات قاتلة جديدة، ولكن من أجل صنع أدوات تكون قادرة على مساعدتنا على فهمٍٍ أفضل لطبيعة تاريخ مجتمعاتنا المعاصرة. فالرأسمالية حاضرة دائماً، مَشْغَلُها يعمل مدى الحياة، متغيرة ومتطورة باستمرار، وهي دائماً أكثر تعقيداً دون أن تَعدِل لا عن تبذير البشر، ولا عن هدر الطبيعة، ولا عن وأد الأحلام. ينبغي لنا – إذن – أن نناضل، إن لم يكن من أجل تغيير الحياة، كلها فوراً، فمن أجل تدوين مقاوَمات مضادة لنظام الدنيا، ومن أجل تغييرات مضطردة في أَجَلِ وقتٍ مفتوح دون عنف اجتماعي، ولكن بالحوار كأداة لهذا العمل.
ما كان فكر ماركس – أبداً – معاصراً وحاضراً ووثيق الصلة بالراهن، أكثر مما هو عليه اليوم. مُقَدّماً بعضَ المفاهيم الصارمة الدقيقة القادرة على مصالحة الأخلاق والسياسة.
تضعُ "الماركسية المُقاوِمة" – وهي خيط لُحمة هذا الكُتَيّب – واجباً أولاً، ليس بالهيّن ولا القليل: أن يكون أمرُ كل فردٍ بيده، وأن يتوقف على نفسه، لكي يعود إليها بشكل أفضل، وينتقل شيئاً فشيئاً من كونه موضوعاً للضرورة التاريخية، إلى كونه فاعلاً فيها.
كتبَ Paul NIZAN: "يجب ألا نعتبر الإنسان مقياساً يسجّل الضغط، أو لاعب أسطوانات أو آلة موران. فكم من الشرور يمكن أن يُسببها هذا (اللَّبْسُ) عندما لا تكون المسألة مجرد تسجيل أرقام، ولكن تدوين قرارات سياسية وأُمثولات الحكمة الأخلاقية. أكثر ما أثار قرفي من إخوتي، كانت رؤيتهم يعيشون كالديدان: لا تفهم الديدان شيئاً عن الإنجذاب الشامل الكوني، ولا يفهم البشر شيئاً عن إلههم الطيب، وعن رغباتهم: - يُحَلّقُ كلُّ شيء فوقَهم، وهم يعتقدون بأنهم اخترعوا كلَّ ما يُحلّق [من كتاب Aden ARABIE ، طبعة جديدة 1990 بالفرنسية].
ينبغي عاجلاً أم آجلاً، إعادة ابتكار فلسفة للحرية، من أجل أن نقاوم بشكل أفضل الهذيانات المستمرة والمرهفة للبضاعة.
عندئذ سنعيد – حتماً – قراءة كارل ماركس في نصوصه… إلى العمل إذن، وإلى غدٍ… ماتت الشيوعية؟ فلتحيا الإشتراكية الديموقراطية…
جان زيغلر
آذار مارس 1991 الهوامش: 1- الأداتية Instrumentalisme: مذهب فلسفي يقول إن الذكاء والنظريات هما وسائل للعمل. Instrumental: تَكَيُّف يؤدي إلى قيام حيوان ما