السطح السياسي في مصر يزداد سخونة، وشخصيات كبرى من نوع محمد حسنين هيكل وعمرو موسى دخلت على خط السجال الداخلي، الأستاذ هيكل قدم مبادرة لحل الأزمة المصرية، وعمرو موسى أوحى ـ في حوارات صحافية ـ برغبته في ترشيح نفسه للرئاسة، وإن كان قد تحسب للتداعيات بقوله 'أنه لايفكر الآن في الترشيح'.
مبادرة الأستاذ هيكل بدت مثيرة، وفيها معنى تخطى نظام مبارك من داخله، فقد قدم مبادرة ـ نشرتها بقلمه صحيفة يومية مستقلة ـ بإنشاء ما أسماه 'مجلس أمناء الدولة والدستور'، واقترح أسماء للمشاركة فيه من نوع عمر سليمان وطارق البشري وأحمد زويل ومجدي يعقوب وعمرو موسى ومحمد البرادعي، وتصور أن يتكون المجلس المذكور من خمسة عشر عضوا، وأن تتعهد القوات المسلحة ووزير الدفاع بتوفير الحماية والدعم للمجلس المقترح، وتكليفه بوضع تصور جديد لنظام سياسي واقتصادي ومراجعات دستورية شاملة، وأن يواصل عمله في مرحلة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، وعلى أن يبقى مبارك رئيسا للجمهورية بصفة رمزية خلالها، ومع نقل صلاحياته للمجلس المقترح، والإبقاء على حكومة تدير الشؤون التنفيذية للبلد اقترح الأستاذ هيكل أن يترأسها رشيد محمد رشيد وزير التجارة الحالي، وعلى أن يكون نائب رئيسها د. يوسف بطرس غالي وزير المالية الحالي .
وجوانب الإيجاب في مبادرة الأستاذ هيكل منظورة، فهو يريد أن يصادر خطر سيناريو توريث الرئاسة من مبارك الأب إلى مبارك الابن، ويقترح سيناريو الفترة الانتقالية الذي سبقه إليه البيان التأسيسي لائتلاف المصريين من أجل التغيير، والذي صدر في 4 نيسان (أبريل) 2009، ومشفوعا بتوقيعات مئات الشخصيات العامة والمفكرين والأدباء، وقادة الحركات السياسية، وقادة الإضرابات والاعتصامات الاجتماعية، وبينها أسماء من التي اقترحها الأستاذ هيكل لعضوية مجلس أمناء الدولة والدستور، وإلى هنا يتوقف وجه الشبه لتبدأ وجوه الخلاف، فائتلاف المصريين من أجل التغيير يقترح مدة انتقالية لمدة سنتين، وليس لمدة ثلاث سنوات، وعلى أن يحكم البلاد خلالها رئيس محايد بديل لمبارك، أي أن شرط للفترة الانتقالية ـ في عرف الائتلاف ـ تنحى مبارك أو إنهاء حكمه أولا بأساليب المقاومة المدنية والعصيان السلمي، وأن يكون حكم الفترة الانتقالية نظاما بديلا، وإن كان موقوتا، بينما فكرة الأستاذ هيكل تبدو كنصيحة يمكن لمبارك أن يأخذ بها، أو أن يتجاهلها، هذا إن قرأها أصلا، وهذا هو الفارق الأول بين مبادرة الائتلاف ومبادرة هيكل، الفارق الثاني أن حكم الائتلاف الوطني الانتقالي ينطوي على معنى القطيعة مع سياسات النظام الحالي، فائتلاف التغيير يقترح تشكيل حكومة وحدة وطنية لإدارة البلد خلال الفترة الانتقالية، ويصوغ لها مهاما وإجراءات ديمقراطية ووطنية واجتماعية، أي أن الحكومة الائتلافية ملزمة ببرنامج لإطلاق الحريات العامة وضمان استقلال القضاء، وتنفيذ إصلاحات اجتماعية عاجلة، وإجراء استفتاءات شعبية ثلاثة لإلغاء قيود معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ووقف برنامج الخصخصة ورفض المعونة الأمريكية وحل هيئاتها، وإلزام الرئيس المحايد وحكومة الائتلاف بالدعوة لانتخاب جمعية تأسيسية شعبية، وتكليفها بوضع دستور جديد لمصر في نهاية الفترة الانتقالية، وعلى أن تجري الأمور بعدها سجالا بين القوى السياسية في انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة، وفيما يبدو تصور الائتلاف راديكاليا بحق، يبدو تصور الأستاذ هيكل محصورا برغبة إصلاح معلقة بدورها على رغبة مبارك، أما الأسوأ فهو الحكومة التي يدعو إليها الأستاذ هيكل خلال الفترة الانتقالية، والتي تثير دواعي الريبة، فالأستاذ هيكل لايقترح برنامجا للحكومة، وهو ما قد يعنى سريان نفس سياسات الحكومة الحالية، ثم أن الأسماء التي يزكيها الأستاذ هيكل تستدعي الريبة أكثر، فرشيد محمد رشيد رئيس الوزراء المقترح من جانب هيكل، هو من مليارديرات لحظة النهب العام في مصر، ويحظى برضا وعطف الأمريكيين، ومرشح ـ من قبل جمال مبارك نفسه ـ لرئاسة الوزراء، ونائب رئيس الوزراء المقترح يوسف بطرس غالي هو الوزير الاكثر كرهاً في الحكومة الحالية، وإن كان الأستاذ هيكل يقترحه ـ على ما يبدو ـ لاعتبارات تتعلق بكسب رضا المسيحيين المصريين، وقد تكون اختيارات هيكل مفهومة الدواعي، فهو يريد أن يطمئن الأمريكيين ويطمئن المستثمرين ويطمئن المسيحيين، خاصة أنه اقترح ضم ممثلين من التيار الإسلامي إلى مجلس أمناء الدولة والدستور الذي يقترحه، وفي توازن يبدو شكلانيا جدا، وليس فيه من معنى إيجابي سوى حاجة البلد لفترة انتقالية، ولكن ليس بطريقة الأستاذ هيكل التي سوف يرفضها نظام مبارك بالتأكيد، رغم أن معانيها الإصلاحية تبدو محدودة ومقيدة بأسقف منخفضة جدا .
ورغم النواقص والثغرات، تبدو مبادرة الأستاذ هيكل جريئة قياسا لكلام عمرو موسى، فتصريحات الأخير بدت أقرب إلى أمان عامة، ورغبة في برنامج للتحديث، وفي حكم ائتلاف وطني، لكنه لايقدم بديلا، ولا يوغل في نقد السلطة الحالية، ويكتفي بأنه مواطن قد يكون له الحق في ترشيح نفسه، وإن كان لايفكر في الوقت الحالي، وهو كلام أقرب إلى تصريحات سبقت لمحمد البرادعي المدير المنتهية ولايته للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والذي قال أنه يؤجل التفكير في موضوع الترشح للرئاسة حتى عودته إلى مصر، وربما يكون كلام البرادعي وموسى إيجابيا في جانب واحد، وهو اختراق أسماء مصرية بارزة لستار الحظر المفروض في الموضوع الرئاسي، وتقويض دعاية نظام مبارك بأنه لابديل للرئيس أو لابنه، فهاهي شخصيات مصرية بارزة لم تكن يوما في تيارات المعارضة، وقضت أعمارها تعمل في خدمة جهاز الدولة، واكتسبت جرأة إشهار اعتراضها على فساد الوضع الحالي، وفي سياق مزاج شعبي ساخط بشدة، وتوحي للناس بقشة أمل، لكن الآمال ليست كلها سواء، وبعضها يبدو خادعا مترددا على طريقة عمرو موسى، وهو رجل يحظى بعطف شعبي ملموس، ليس لأن مواقفه في الجوهر تختلف مع سياسات النظام الحالي، بل لأن لغته مختلفة، فيها بعض البلاغة وبعض التشدد اللفظي، فعمرو موسى ـ مثلا ـ مع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، ومع التطبيع وعلاقات التبعية لأمريكا، لكن تصريحاته ـ أحيانا ـ تشي بنغمة معارضة، وهو ما يستدعي التصفيق والإعجاب أحيانا من الجمهور الغاضب اليائس، وربما الأخطر أن عمرو موسى ـ على نزوعه السياسي المحافظ ـ لايقترح أي سبيل للخروج من الانحطاط التاريخي الذي آلت إليه مصر، فهب أنه يرغب في ترشيح نفسه، فهل يمكن له التقدم للترشيح بصورة تحفظ مكانته الرمزية ؟ الجواب بالقطع: لا، فقد جرى تزوير الدستور والإنقلاب عليه في تعديلات شهيرة جرى الاستفتاء عليها في 26 اذار (مارس) 2007، والمادة 76 من الدستور بعد التعديل، وهي بحجم قصة قصيرة لنجيب محفوظ على حد تعبير الأستاذ هيكل، وقد صيغت على المقاس العائلي بالضبط، وتحصر حق الترشح للرئاسة في واحدة من طريقتين، أولهما أن يكون الراغب في الترشح عضوا في إحدى الهيئات العليا للأحزاب المعترف بها رسميا، وهؤلاء في مجموعهم لايزيدون عن بضع عشرات من المصريين، والطريقة الثانية أن يكون الراغب في الترشح مستقلا، أو ليس عضـــوا في إحدى الهيئات العليا للأحزاب المعترف بها رسميا، ويلزم لترشيحه أن يحصل على تزكية 250 عضوا في المجالس التمثيلـــية، بينهم 65 عضوا من مجلس الشعب، و45 عضوا من مجلـــس الشورى، و 140 عضوا من المجالس المحلية بالمحافظــــات، وهو شرط يستحيل تلبيته في مصر، وفي صعوبة العثـــور على لبن العصفور، فانتخابات المجالس كلها مزورة، وفي يد الحزب الحاكم، تماما كما أن التصريح للأحزاب الرسمية في يد الحزب الحاكم، والمعنى: أن عائلة مبارك ـ أبا وابنا وأما ـ هي التي تحدد أسماء المرشحين مباشرة، أو من وراء الستار الأمني، وهو ما يجعل فرصة عمرو موسى الوحيدة للترشح مرتبطة برضا عائلة مبارك، ولو فعلها فسوف يفقد أي تعاطف شعبي معه، وهو ما قد يفسر حذر ودبلوماسية تصريحات عمرو موسى .
وبالجملة، ثمة قلق مصري يتسع، ومكائد وشراك خداع، وزحام حوادث متصل مندفع إلى محطته الأخيرة .
الإثنين أكتوبر 26, 2009 9:56 am من طرف سميح القاسم