إن الظواهر الاجتماعية التي أخذ يعج بها المغرب منذ زمن ليس باليسير لتدعونا جميعا إلى إبداء قدر من القلق على مستقبله بالقلق على مستقبل أبنائه الأجيال الصاعدة . ظواهر اجتماعية تضرب في العمق خصوصيات الهُوية الأصيلة للمغاربة و تكشف بالملموس أنهم في مواجهة غزو ثقافي رهيب يهدد معنى وجودهم باعتبارهم مغاربة مسلمين . و إن الأمر ليستشري و يسري فينا رويدًا رويدًا ، حتى إن الجهات التي كنا نظن أنها في منأى عن أي انحراف أصبحت وكرا للكثير من السلوكات الشاذة ؛ فأصبحتَ ترى أطفالا و شبابا في مقتبل العمر يسلكون سلوكات ما وجدنا لها في أصالتنا الأصيلة أصلا ، تائهون في خيالات و أوهام قد لا يستفيقون منها إلا بعد فوات الأوان و قد لا يستفيقون منها أبدا . الأسرة تعاني ، و الجيران يعانون ، و المدرسة تعاني ، و المجتمع بأسره يعاني من جيل لا يكاد يراعي لأحدٍ و لا لمكانٍ أيّة حرمة ...
و يبقى سؤال الهُوية سؤالا ملحّا ..؛ يلح علينا في السؤال كلما تناهت إلى مسامعنا الأشكال الجديدة المتجددة للانحرافات الشاذة و الخطيرة التي أصبح يتخبط فيها مجتمعنا : من أنا و نحن ؟ و من ذاك و هؤلاء ؟
تقول المسَلمة الأولى أننا ، نحن و هؤلاء جميعا ، كلنا بشر بنو آدم و حواء . من تراب نحن جميعا ؛ أي لا فرق بين جميع البشر أينما كانوا و وقتما كانوا . كلهم من تراب . بناء على هذه المسلمة فإنه عند أي إنسان يستوي المكان و الزمان سواء أكان في شرق الأرض ، أم في غربها ، أم في جنوبها أم في شمالها . الأرض كلها تسَعُه . مسلمة ترفعنا جميعا عن مرتبة الأنعام ؛ فنكون بذلك نحن و هؤلاء جميعا الإنسان الذي كرمه الله عز و جل و حمله في البر و البحر و فضله على كثير مما خلق تفضيلا ؛ الإنسان الذي حُمّل أمانة الخلافة في الأرض ... يا أيها الناس ..؛ و إن الإنسان لفي خسر .
و تقول المسَلمة الثانية أننا ، نحن ، مسلمون ... و هنا تميُّزُنا الأول و الأساس عن غيرنا . ميزة الإسلام . و أن تكون مسلما معناه أن تكون فيك مواصفات معينة ليست عند غيرك من الناس ؛ مواصفات معينة تميزك عن غيرك من الناس . مواصفات يصبغك بها انتماؤك للإسلام . عندها إذن تشير إلى هؤلاء بمميزات أخرى تميزهم : هذا مسيحي ، و ذاك يهودي ، و أولئك مجوس و بوذيون و ملحدون ، إلخ . مُسَلمة ترفعنا نحن المسلمون بمختلف درجات رقينا في تقربنا إلى الله عز و جل عن بقية الناس ؛ نحن الذين فُضّلنا عن غيرنا من الأمم بأننا نأمر بالمعروف و ننهى عن المنكر و نؤمن بالله ؛ نحن المكلفون بتبليغ الرسالة قولا و عملا ... و إنه » و العصر ، إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر « ..؛ فيا أيها الذين آمنوا .
و تقول المسَلمة الثالثة أنني أنا " أنا " . و هنا يبدأ تميزي أنا عن مجموعة " نحن " . بل هنا تطفو على سطح اللُّحمة التي تجمعنا تفاصيل دقيقة مختلفة الألوان و الأشكال : وطن ، و لغة ، و أعراف ، و قبلية ، وتجاور و ..، قرابة ، و أسرة و فرد . هنا تبدأ في الظهور انتماءات أخرى أكثر دقة و حساسية تختلف من حيث صلابتها أو هشاشتها ... بل هنا تقول المسلمة الرابعة أن انتمائي يمكنه أن يتفتت إلى ما هو أدق وأدق حسب إرادتي فأعيشَ عند قعرها في أنانيتي و عزلتي وحيدا منفردا ، لا أطيق أحدا و لا يطيقني أحد .
الانتماء إذن هو انتماء إلى مجموعات مختلفة موحّدة . الأمر أشبه بحلقات متحلقة حول مركز واحد هو الشخص المقصود بتحديد انتمائه . كل حلقة تنتمي إلى حلقة أخرى ..، فنجد في الأخير أن الفرد ينتمي إلى مجموعة كبيرة داخلها مجموعات صغيرة . لا يمكن إلغاء كل تلك الانتماءات لصالح انتماء واحد ، لكن لا بدّ أن يكون أحد هذه الانتماءات هو المهيمن و المسيطر على غيره ؛ معناه أنه قد تتعارض و تتصادم في نفس الفرد خلال مواقف معينة عدة انتماءات فيَكلُ أمرَها إلى الانتماء الحَكَم الذي له الهيمنة و السيطرة عنده كيْ يقرر السلوك المناسب . و هنا تظهر درجات انفتاح الشخص على محيطه . أدنى الدرجات و أحطّها تكمن في انعزاليته و أنانيته و تركزه حول ذاته ؛ ثم تليها درجات أرقى و أرقى رقيا نسبيا بحسب عدد الحلقات التي تستوعبها نفسية الفرد ؛ و على درجات هذا الرقي لا بد أن يسترشد الفرد بنور قيم أخلاقية نبيلة تجعله أقدر على قبول و استيعاب الآخرين .
و إنه من المعلوم بالضرورة في ديننا الحنيف أن آصرة العقيدة أقوى من أية آصرة أخرى سواء أكانت قرابة ، أم قبلية ، أم قومية أم وطنية ضيقة أم غيرها . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :» لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله و ولده و والده و الناس أجمعين « ( متفق عليه ). و قال الله تعالى :» إن الذين يحادّون الله و رسوله أولئك في الأذلين . كتب الله لأغلبنّ أنا و رسلي ، إن الله قوي عزيز . لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادّون من حادّ الله و رسوله و لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيّدهم بروح منه و يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، رضي الله عنهم و رضوا عنه ، أولئك حزب الله ، ألا إن حزب الله هم المفلحون . « ( المجادلة ، الآيات : 20 ، 21 ، 22 ) ... ألا إن حزب الله هم المفلحون .
والانتماء إلى الإسلام هو الانتماء الأصل و الحَكم الذي يحق أن تكون له الهيمنة و السيطرة . » يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم ، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و رسوله إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ، ذلك خيرٌ و أحسن تأويلا « ( النساء ، الاية 59 ) ... هو الأحق بالهيمنة و السيطرة لأن ذلك خيرٌ و أحسن تأويلا .
والمواطنة بدورها انتماء ... انتماء يجد له دعاةً و مبشرين متحمسين يعتقدون أنه الأحق بالهيمنة و السيطرة على غيره من الانتماءات الأخرى كيفما كانت . و في هذا الصدد يدعون إلى واجبات و حقوق المواطنة ..؛ و خدمة الوطن ..؛ و النضال من أجل الوطن ...، و الوطنية ...إلخ . فنميز في الأخير ما بين أنا المواطن المغربي ..، و أنت المواطن السوري .، و أنت المواطن المصري ..؛ إلخ ... و ما أظن تلك الكلمات و باقي مشتقاتها التي يلفظ بها كل يوم على مسامعنا إلا أنها أضحت أشكالا متضخمة الحجم فارغة المضمون ، لم تعد تحمل في حقيقتها أي معنى في نفوس سامعيها ..، مجرد فقاعات ، كلما ازدادت تضخما زاد احتمال انفجارها و اندثارها .
الإثنين أكتوبر 26, 2009 11:49 am من طرف Admin