11 يناير 2014 بقلم
محمد الدخاخني قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:على الرغم من تركيز النزعة الحداثية على مفاهيم المساواة وحقوق الإنسان، وقيام العولمة بإماهة الحدود الزمكانية، من خلال الفضاء السبراني، إلّا أن خطابات النكوص والانكفاء والاحديداب التي عادة ما تأخذ بعداً هووياً، يستهدف ضبط الإيقاع للمحافظة على الـ"خصوصية" و"الذات" من الـ"العالمية" و"الآخر"، ما تلبث أن تعيد إنتاج مقولاتها وتصوراتها. وأحدها هو الخطاب القومي الشوفيني (المعتقد في تفوق مجموعة بشكل مرضي غير عقلاني) الكزينوفوبي (الكاره للغرباء)، وهو نمط خطاب له تجليّات عدة، ويوظّف في مناسبات مختلفة. وأبرز معالمه التأكيد على وحدة المجموعة واستمراريتها، وطهرها عرقياً (من حيث محافظتها على سلالتها نقية من دنس الأغيار) أو معرفيا (من خلال التأكيد على التثاقف ذاتياً وبكارة النماذج المعرفية للمجموعة)، والنظر للكون مانوياً (شر مطلق أو خير مطلق)، والتأكيد على فكرة المجتمع العضوي، والهوية القومية أو الإثنية، وغيرها من المعالم الجوهرانية.
والقومية، عموما، شأنها شأن جُل الأدلوجات يعتمل فيها زخم من النقيض للنقيض؛ فهي نزعة ثورية في فرنسا القرن الـ 16، وتحررية ضد الكلونيالية في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا في القرن الـ 20، وعنصرية استئصالية في نظريات لامبروزو عن المجرمين بالميلاد born criminal، ومتعالية نرجسية وحدوية كزينوفوبية في كتابات زكي الأرسوزي المقعدة للرحمانية (من الرحم) من خلال مدخل فلسفي لغوي، يرى الأمة امتدادا للأسرة والعرق كامتداد للطبيعة مغلق مثلها واللغة كحبل سري، وينتج مقولات نكوصية كالعودة لـ"العصر الجاهلي الذهبي"، وقريبة من ذلك عند أنطون سعادة، وموجودة لدى نجيب عازوري في حديثه عن أن "العرب يتفوقون على الأتراك في كل شئ"، ورافعة آيديولوجية تعيد مقولات من قبيل "الأئمة من قريش" لدى عبد الرحمن الكواكبي عند مقاومة الأتراك، وهي ذات نزعات نهضوية عند أديب إسحاق وبطرس البستاني وناصيف اليازجي، ولديها قدر لا بأس به من البارانويا والعضوية عند محمد عابد الجابري أثناء حديثه عن عقل عربي "بياني" صاف دخل عليه العقل العرفاني من خارجه وأسهم في تخريبه، ومقاومة لما بعد الكولنيالية عند جلال أمين.
وتصورنا أن النزعة القومية في السياق الغربي كانت امتدادا للمركزية الغربية؛ ففي حال زحزحنا الحداثة ونظرنا لما تحتها نجد نزعة جوهرانية متعالية تُكرّس للمركزية الغربية ولعبء الرجل الأبيض على العالم، هذا العبء الذي تمفصل في سياسات الفتح والكشوفات الجغرافية، كما أنها في الخطاب العربي نتيجة لخطاب القدامة الذي ينفعل من خلال خليط من النرجسية والمظلومية والتأكيد على انتظار اللحظة المهدوية التي هي "نهاية التاريخ" العربية أو الإسلاموية.
وتأتي نسبة الحديث عن القومية من الخطاب الطالع في شكل الحماسة القومية والبروباغندا الوطنية التي يستثيرها التوسع العسكري الذي يُهيمن على الإعلام والمجتمع المصريين بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين (وهم أصحاب خطاب استئصالي طائفي استعلائي أيضا) في 3 يوليو / حزيران 2013، والمتجلي في الأغاني "الوطنية" التي تصدر مقولات تشبه ثنائية العبرانيين - الكنعانيين والإغريق - البربر، كـ "أحنا شعب وانتو شعب"، وتنزع صفة المواطنة ثم الإنسانية عن الإسلاميين تمهيدا لتقديمهم إلى المقصلة بدم بارد، وهو خطاب يتطابق مع مقولة "الأخ الفلوطة" التي صدّرها أحد قيادات جماعة الإخوان، والتي هي تطبيق لتصنيف حسن البنّا لغير المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين من حيث هو أحد أربعة: مؤمن، متردد، نفعي، متحامل. ومصداقا لمنهجية تجريد الشعوب من إنسانيتها كما يوضح ذلك رسل مينز بقوله : "ولكن من هم أولئك الذين يعيشون بذهنية تجريد الشعوب من إنسانيتها؟ الجنود الذين خاضوا كثيراً من المعارك تعلموا تجريد الأعداء من إنسانيتهم قبل أن يزحفوا إلى جبهة القتال. المجرمون يفعلون ذلك قبل أن ينقضّوا على ضحاياهم. جلادو معسكرات التعذيب النازية فعلوا ذلك بمعتقليهم. وكذلك رجال الأمن. إن أصحاب الشركات الكبيرة أيضاً يجردون عمالهم من إنسانيتهم قبل أن يرسلوهم إلى مناجم اليورانيوم أو مصانع الفولاذ. كذلك حال رجال السياسة مع كل الناس. إن لكل وجوه تجريد الإنسان من إنسانيته عند هذه الجماعات قاسماً مشتركاً هو تبرير قتل الآخر، وسحق الشعوب الأخرى. ولكن، بما أن إحدى وصايا المسيحية تقول "لا تقتل" (البشر في أضعف الإيمان)، فقد تفتقت حيلتهم عن تحويل ضحاياهم ذهنياً إلى ما ليس ببشر، ليضفوا بذلك على القتل وعلى تحديهم وصية ربهم صفة الفضيلة".
كذلك صار استعمال كلمة الإرهاب شبيها بفعل بعض الأوروبيين حين نعتوا أعداءهم بالـ "صراصير - Cockroaches"، ليستبيحوا دماءهم، فصارت كلمة إرهابي أداة تكفيرية حديثة تماثل عبارات مرتد وزنديق ومهرطق، إذ النتيجة تجريد الآخر من إنسانيته واستباحة دمه باسم الهوية والوطن والأرض والأمن القومي، إلخ. وبهذا استحالت الوطنية إلى مفهوم تحريضي يكرس المركزية والجوهرية في الحديث عن الذات والاستئصالية والانفصالية في العلاقة مع الآخر. والوبال أن هذا كله يتم في مجتمع لديه - أصلا - قابلية للنزعات العنصرية والفاشية والتميزية على أسس جندرية وطبقية.
وكاتب هذه السطور تشغله منذ فترة قضية العنصرية في المجتمع المصري، خاصة ضد ذوي البشرة السمراء. وأذكر هنا عدة تصريحات فاقعة لإعلاميين وساسة وشخصيات دينية منها - على سبيل المثال لا الحصر - تصريح الدكتور محمد سليم العوّا، المحامي والكاتب الإسلامي، قبل ثورة 25 يناير بمدة طويلة، أثناء محاضرة له بعنوان: "ثورة يوليو والإسلام"، والتي فرّغت فيما بعد في كتاب طبعته دار الشروق الدولية، وهي متوفرة أيضاً على موقعه على الشبكة، بأن القائد أو الزعيم السياسي يجب أن تكون له "مواصفات بدنية محددة". ولمّا قام أحد الحضور بمقاطعة الدكتور العوّا بأن غاندي لم تتوافر فيه هذه المحددات، قام المُحاضر بنزع صفة الزعامة عن المهاتما غاندي، وهو ما يعيد إنتاج رطانة الرجعية العلموية عن "المجرمين بالميلاد" التي صُدّرت في مطلع القرن المنصرم ضمن الخطاب الفاشي - والتي أشرنا لها آنفاً - بـ "الزعماء بالميلاد". كذلك تصريح الدكتور عصام العريان، القيادي بجماعة الإخوان، ضد النوبيين، والذي جاء في نفس الفترة التي صدّر فيها مقولات بشأن وضع اليهود المصريين وأثارت جدلاً واسعاً، أذكر أيضاً تصريحات عدّة لمعلقين سياسيين - ينتمون للحزب الوطني المنحل - عند زيارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لمصر، عقب ولايته الرئاسية الأولى، نعتوه فيها بالأسود الذي لو جاء من هو في مثل بشرته لحُكم المصريين لرفضوا، يضاف لهذه التشكيلة المجمّعة - غير المرتبة زمنيا - ما قام به أحد العاملين في فرع تابع لسلسلة صيدليات شهيرة في العاصمة المصرية ضد مواطنة من أصول نوبية، ومواقف شخصية تعرض لها كاتب هذه السطور أثناء تجواله مع بعض أصدقائه النوبيين في ضواحي القاهرة، منها أن صبية شحاذة جاءت لتطلب المال - وكان حينها مع صديقين له في وسط المدينة - فلما قال لها الصديق النوبي ما يفيد الدعاء بأن ييسر الله لها أمورها، قالت ما يعني أنها لم تطلب منه (هذا الأسود)، وإنما من الآخرين، ومنها أن صديقا نوبيا - يصفف شعره على طريقة الفنان العالمي بوب مارلي - اشتكى أكثر من مرّة من معاملة الناس له، باعتباره "الأسود غريب الأطوار" وملاحقة الأطفال له في الشوارع، ومنها أنني سألت أحد كبار عائلتي سناً عن أصول العائلات في بلدنا - بصعيد مصر - فاستخدم أكثر من مرّة عبارة "هذه العائلة من العبيد" إشارة إلى إحدى عائلات البلدة. يعضد كل هذا عشرات الشهادات التي يتداولها الأفراد على حساباتهم في "فيس بوك" و"تويتر"، وانسحاب دائرة الخطاب العنصري على اللاجئين السوريين في مصر، عن طريق تشويه سمعتهم والخوض في أعراضهم، ومن قبلهم الفلسطينيين، بل - في حال امتد تشريحنا على استقامته – إلى موقف العديد من المواطنين من ذوي اللحي والمنتقبات، بعد عزل الرئيس محمد مرسي، وحوادث التحرش والاغتصاب المروعة التي تعرض لها عدد من الصحفيات الأجنبيات، وتصريحات الإعلام المصري أثناء الـ 18 يوما في الثورة المصرية بشأن الأجانب والأصابع الخارجية، وهلم جرا.
مع أخذ كل ما سبق في الاعتبار، جاءت الصحوة في مصر وتونس واليمن وغيرها، لتغيّر قواعد اللعبة وتعيد مفصلة العقد الاجتماعي على أسس من العدالة والمساواة، وهو ما يقتضي ملاحقة كافة الخطابات الاستئصالية والعنصرية والنكوصية الحداثية منها والماضوية، بما يقرع الرهان على فصائل الثورة بأن تدرك خطورة الخطاب الهوياتي الحداثي على الدولة، كما أدركته في خطاب الإسلاميين، وبأن ينعموا النظر في فهم بنية الفكرة الوطنية، لتكون نتيجة ذلك قيامهم بملاحقة هذه الخطابات وتطويقها وضبطها وهتك بناها الإيديولوجية.
الخميس يوليو 30, 2015 4:13 pm من طرف سميح القاسم