كان لافتاً إصرار أحد المثقفين التونسيين على التحدث بلهجة بلاده في حواره
مع مراسل إحدى الفضائيات العربية، مجاهراً بالقول أن هذه اللهجة صارت عنده
اليوم موضع اعتزاز وكرامة، وكأنه بموقفه هذا يظهر روحاً وطنية جديدة ما
كانت لتظهر لولا أن هذا الشعب أمسك -أخيرا- قضيته بيده.
في المقابل يصح القول بأنّه ثمة تردد وخجل في إظهار هذا العنفوان الوطني
في مجتمعات عربية أخرى، يفسرها تنامي شعور الناس بالغربة عن أوطانهم مع
غياب مناخات الحرية والمساواة والتشارك والتي دونها لا يمكن بناء لحمة
وطنية حقيقية يعتز بها، هذا إذا لم يفض هذا الغياب إلى مراكمة عجز هذه
المجتمعات وفشلها في معالجة ما صارت إليه من تردّ وبؤس، وإلى تسارع مظاهر
التفكك والتنابذ وتغذية عناصر التدمير الذاتي فيها.
ولعل نظرة سريعة إلى تطور الصراع السياسي واحتدامه في غير مكان، في العراق
وفلسطين ولبنان واليمن والسودان وغيرها تدل بالفعل على الفقدان التدريجي
لمقومات الحياة المشتركة وتراجع معايير المصلحة الوطنية الجامعة.
فأيّ أسباب يمكن أن تبرّر اندفاع أبناء الشعب العراقي الواحد لقتل بعضهم
البعض، دون رأفة أو شفقة، مرة على الهوية القومية ومرة على الهوية الدينية؟
وأي دوافع يمكن أن تفسر هذه الشحنة الهائلة من الحقد والكراهية ليغدو دم
الصديق مهدوراً وقتل الجار مباحاً لمجرد انتمائه إلى طائفة أخرى أو مذهب
مختلف؟
وفي فلسطين تستغرب وتأسف في آن من ازدياد حالة الاحتقان والتأزم وحضور
التعبئة الاقصائية بين قيادات غزة وقيادات الضفة الغربية، وكأن العوامل
السياسية والأخلاقية التي شكلت فيما مضى ما كان يسمى "الحصانة الفلسطينية"
قد زالت اليوم تماماً أمام قوة حضور المصالح الحزبية والإصرار الأعمى على
حمايتها والدفاع عنها بكل الوسائل المتاحة، وكأن ليس من احتلال إسرائيلي
ينكل يومياً بالفلسطينيين ويتوغل كيفما شاء قتلاً وتدميراً، وكأنه لم تعد
من قيمة تؤخذ بالحسبان لشدة ما يكابده هذا الشعب المنكوب وسيل التضحيات
الغزيرة التي يقدمها.
ثم ها هو الأمل في توصل اللبنانيين إلى صيغة ديمقراطية للتعايش يسير نحو
التبدد بسرعة ربما تضاهي سرعة إعادة إنتاج الاحتقانات وأجواء التحدي
الطائفي والسياسي. وبدل أن يعمل على تعزيز اللحمة الوطنية التي عرفها هذا
البلد في حروبه المتعددة مع إسرائيل بدأ مسار تفكيكها لصالح إحياء البنى
المتخلفة وعلى حساب الثقة بالدولة ومؤسساتها ودورها العمومي. ما ينذر
باحتمال انفلات الأوضاع وتنامي الأسباب ذاتها التي أججت فيما مضى الاقتتال
الأهلي.
بينما يتقدم السودان نحو الانقسام وهو ما أظهرته النتائج الأولية
للاستفتاء، دالة على رغبة عارمة للجنوبيين في الخلاص من كابوس السلطة
المركزية، وهي النتيجة الطبيعية لسياسة الاضطهاد والتمييز التي مارستها
حكومات الخرطوم المتعاقبة والتي أضاعت أيضاً الكثير من الفرص التي منحت لها
لتصويب هذه العلاقة وتنمية المنافع المتبادلة وأهلية التعايش المشترك!
ويقف اليمن على كف عفريت، فالسياسات التمييزية وغياب الإصلاحات السياسية
الحقيقة دفعت بالجنوبيين على حد تعبير أحدهم إلى " الكفر بالساعة " التي
قرروا فيها الوحدة والاندماج مع اليمن الشمالي، يعمق هذا الشرخ صراع
الحوثيين مع السلطة المركزية، وما تخلفه حروبهم المتكررة من آثار سلبية
وخطيرة على حاضر اليمن ومستقبله.
في البدء كان يمكن تسويغ هذه الظواهر بأنها مخاض لا بدّ أن تمرّ به هذه
البلدان للتخلص من عفنها ونتن ركودها المديد ولبناء الوطنية الحقة، لكن
اليوم ونحن نرى النتائج المؤلمة وما يرجح أن تفضي إليه من تفسخ وانحطاط،
ليس ثمة ما يدعو للتفاؤل ويبدو أن هناك شرخا كبيرا لا يزال قائماً بين هذا
الحلم النبيل وبين الواقع، وتبدو الفرص ضائعة ومبددة لبناء نظام سياسي
تعددي على قدر من الصدقية يعيد اللحمة إلى أبناء المجتمع الواحد.
وإذ يصح إرجاع ما وصلت إليه أحوالنا في بعض أسبابه إلى صعود الإرهاب
الديني وتوظيف العنف الوحشي لصالح مشروع طائفي استئصالي لا يعير انتباهاً
لتدمير الأوطان وتمزيق أوصالها، أو إلى صراع النفوذ في المنطقة وتنامي
الاستعداد لدى بعض الجماعات والعصبيات المحلية للارتباط بأحد مراكز التأثير
الخارجي وإخضاع مستقبل الوطن ومفهوم الوطنية للعبة التنازع الإقليمي
والعالمي، فثمة سبب جوهري عتيق يتمثل بفشل المجتمعات العربية في بناء
الدولة الديمقراطية الجامعة، ولنقل نجاح النخب والأنظمة الحاكمة في تحويل
السلطة من إطار قانوني وسياسي يفترض أن يشحذ روح الانتماء الوطني ويضمن
للمجتمع تنظيم شؤونه وتجاوز صراعاته بالوسائل السلمية، إلى أداة سيطرة
لإدارة المصالح والحسابات الخاصة، تفضي إلى تفريغ الدولة الحديثة من
جوهرها، أي من مفاهيم المواطنة والقانون والمؤسسة والحريات، لتكرس الولاءات
المتخلفة القومية والطائفية والعشائرية كقوة هيمنة لا غرض لها سوى استخدام
العنف الشرعي لقهر المجتمع وتطويعه وإعادة إنتاج النفوذ والامتيازات على
حساب المساواة وتكافؤ الفرص ومشاريع التنمية وتطوير الإنتاج وضمان العيش
الكريم للمواطنين.
وتأسيساً على ما سبق فإن أزمة الوطنية في مجتمعاتنا العربية تتعلق في
جوهرها بالعجز عن بناء الدولة الديمقراطية وتالياً بتراجع ثقة الناس
بالدولة القائمة ودورها العمومي ما يضعف شعورهم بالانتماء لأوطانهم
واعتزازهم بها، ويدفعهم إلى البحث عن بدائل تعوض ما افتقدوه، توفرها عادة
الملاذات المتخلفة الدينية والعشائرية، ما يهدد البنية الوطنية في الصميم.
هذه الأزمة مرشحة لمزيد من التفاقم طرداً مع تزايد اهتزاز قناعة الناس بأن
حقوقهم مصانة ومتساوية مع الآخرين وأن ليس ثمة من يستطيع التعدي عليها
كائناً من كان، وطرداً مع الإصرار على تغيب شروط المواطنة الحقة التي تجعل
كل الانتماءات ما قبل الوطنية سواء العشائرية أم الطائفية أم الأثنية هي
الأضعف والأقل حضوراً أمام انتماء أقوى وأرقى هو الانتماء إلى الوطن والثقة
بالدولة العادلة ومؤسساتها الديمقراطية. فشعور الناس بالحرية والمساواة هو
ما يعزز انتمائهم لأوطانهم وهو ما يمنح مختلف الفئات والقوى الاجتماعية
الحافز المشجع لتجاوز حساباتها العصبية والضيقة وبعبارة أخرى لا معنى
للحديث عن اجتماع وطني يستحق اسمه في ظل غياب مبادئ الحرية والمساواة وحضور
المحسوبية والاستزلام والولاء العصبوي.
من جهة ثانية لا يمكن النظر إلى أزمة الوطنية بمعزل عن غياب رؤية عادلة
وعقلانية للتنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فما يعطي قيمة حقيقية
للاجتماع الوطني هو إعادة توزيع الثروة وضمان حد أدنى من العدالة بين
الطبقات والفئات الاجتماعية ولنقل تحقيق تقارب نسبي بين الناس في الدخل
والحياة المعيشية، بينما أكثر ما يعيبه هو إحساس المواطنين بالدونية
والتمييز وتعاظم قلقهم على مستقبلهم، ويزيد الطين بلة انحسار وزن الطبقة
الوسطى وتقلص حضورها كما هو حالها اليوم جراء اتساع الفجوة بين شريحة واسعة
من الفقراء تزداد فقراً وقلة قليلة من الأغنياء تزداد غنى.
وأيضاً لا يمكن تلمس جذور هذه الأزمة بمعزل عن الهزيمة التي منيت بها
الأفكار التحررية القومية أو الاشتراكية التي شكلت لعقود من الزمن إطاراً
سياسياً جامعاً لأناس تباينت انتماءاتهم ومنابتهم. وبالفعل فقد جربت
مجتمعاتنا العربية هذه الخيارات السياسية والأيديولوجية، إن في السلطة أو
خارجها، وكانت النتائج مخيبة للآمال، فلا الأرض تحررت، ولا الوحدة القومية
أنجزت، ولم تقم النهضة المنشودة، ولم يرتق الإنسان إلى مجتمع العدالة
والحرية، ويبدو أن " النصر الوحيد " كان نجاح الأنظمة في ترميم قواها
باستخدام الولاءات المتخلفة وتعزيز سلطانها بتغييب الحريات وقمع القوى
الديمقراطية، فاتحة الطريق أمام القوى الدينية المتطرفة لركب الموجة وملئ
الفراغ، هذه الأخيرة استثمرت الفرصة على أكمل وجه وراحت تعيث فساداً
وتكفيراً وتمزيقاً في المجتمع!!
إن تمسك غالبية النخب السياسية بمبادئ قومية ووطنية معزولة عن الخيار
الديمقراطي، ورفضها الإقرار بالتعددية الثقافية وبضرورة حل مشكلة الأقليات
واحترام حقوقها، إما لشوفينية بغيضة وإما تخوفاً من احتمال تفسخ مجتمعاتنا
التعددية إلى بنى متخلفة قومية وطائفية، ساهم في تكوين ثقافة قومية ووطنية
شكلية، فارغة من أي التزام، ومفتقرة إلى أي محتوى إنساني، والأهم أنه لم
ينقذ هذه المجتمعات من إخفاقات وإتنكاسات طاولت لحمتها الوطنية، مثلما لن
تنقذها اليوم كثرة الدعوات للحوار والتقارب بين " القوميات والطوائف " أو "
بين الأديان والمذاهب "، إذا لم تترافق بتحولات عميقة تشعر كل من يعش على
هذه الأرض بأن له مصلحة حقيقية في الدفاع عن انتمائه وتكافله مع المجتمع
وتالياً عن وطن يقدم له ما يصون أمنه وحياته وحقوقه.
إن ما تحتاج إليه مجتمعاتنا العربية لتجاوز أزمتها ولتأكيد حضورها ككيانات
موحدة وفاعلة، ليس الشعارات والإدانات بل تحولات جدية في مختلف الميادين
السياسية والاقتصادية والاجتماعية من أهمها ضمان حقوق المواطنة والعدالة
وسيادة القانون، والقبول بالتنوع والتعددية كمقدمة لا غنى عنها لصياغة صورة
جديدة متوازنة لدولة عمومية توفق بين منازعات بشر تباينت همومهم وتفاوتت
مصالحهم وتضمن حقوقهم في المشاركة السياسية وإدارة الشؤون العامة.
وبالتالي لا خير يرتجى في معالجة أزمة الوطنية العربية ما دام ثمة سلطات
تحكم لا يهمها سوى مصالحها الضيقة وامتيازاتها وتتقصد أحياناً تشجيع اندفاع
الناس نحو ملذات متخلفة، طائفية ومذهبية وعشائرية، لتسهيل السيطرة عليهم،
وما دام هناك رؤية قاصرة لمفهوم الوطن تختزلها، مرة النهضة العمرانية، ومرة
التصدي للإرهاب الأصولي، ومرة مقاومة إسرائيل أو المطامع الخارجية، بينما
يهمل جوهرها في العمل على صنع أوطان حرة ومتطورة يفخر بها كل منتم إليها
وتشكل موضوعياً رابطاً قوياً بين الإنسان ومجتمعه. هي أوطان تثق بأن الخلاص
جمعي وأن التقدم لا يتحقق إلا بجهود الكل، ربطاً بالاستعداد الكامل لتقديم
التنازلات المتبادلة في صالح روح التعايش والتوافق وتالياً لبناء الدولة
الديمقراطية ومنح مؤسساتها دورها المركزي والعمومي لإدارة المجتمع وضمان
مسار تطوره وتقدمه.
ولنعترف أننا نعيش اليوم في واقع لم يعد يستطيع الاستمرار بالصورة التي هو
عليها إلا ويجر خلفه مزيداً من البؤس والانحطاط، وبعبارة أخرى فإننا نعيش
في مجتمعات تحتاج بالفعل إلى أن تكون جديدة، وتحتاج تالياً إلى إعادة صياغة
وترشيد مكوناتها ومقومات تطورها. لكن ليس من زاوية إعادة رسم الجغرافيا
السياسية، كما يعتقد البعض، بل من خلال العمل جدياً على بناء وتعميم رؤية
وطنية يكون عمادها الثقة بدور الإنسان وقدرة المجتمعات الحرة على تحصيل
حقوقها المسلوبة ومواجهة تحديات التنمية والتطور، فلم يعد مقبولاً إهمال
الخيار الديمقراطي في بناء الوطنية بما هو الثقة بدور البشر في تقرير
مصيرهم وتقديم أولوية الحريات وحقوق الإنسان والحوار والتوافق ضد مظاهر
الاستئثار والاقتتال وأعمال العنف.
والخلاصة فإن مجتمعاتنا على اختلاف همومها وأزماتها تقف اليوم أمام زمن
جديد عنوانه ضمان حقوق الناس وحرياتهم، زمن لا تسلب طعم الحياة فيه ثقافة
القمع والإرهاب ومظاهر التدمير المنظم، أو يشوهه خطاب أيديولوجي إقصائي يجد
المعادلة المجدية في ممارسة السياسة هي المكاسرة والقوة العارية والتوعد
بإلحاق المزيد من القتل والتدمير بالآخر دون النظر إلى الجدوى أو إلى الثمن
الذي قد تدفعه مجتمعاتنا لجهة استنزاف مقدراتها ومحفزات تطورها.
وبمعنى آخر لم يعد مقبولاً فصل مسارات التنمية ومقاومة الإرهاب والتحديات
الوطنية عن المسألة الديمقراطية والحداثة السياسية سواء من زاوية مفهوم
المواطنة وبناء المؤسسات السياسية الدستورية والتمثيلية وإحلال قيم
المشاركة ورفض تهميش الآخر ودوره في الحياة العامة، وسواء ببعدها المتعلق
بالتوزيع العادل للثروة والاقتصاص من الفساد.