كان بود كاتب هذه السطور أن يتمم موضوع تحرير المفاهيم ضمن سلسلة "المفاهيم" التي تم التناقش حولها خلال المقالين الماضيين، لكن ما وقع الثلاثاء الأخير 13 أكتوبر 2009 قلب كل شيء، ويجب اعتباره منذ الآن تاريخا جديدا للسياسة في هذا البلد. الذي وقع هو أنه السادة المستشارين في الغرفة الثانية قرروا عن سبق إصرار وترصد انتخاب رئيس حزب موجود في المعارضة هو محمد الشيخ بيد الله على رأس المجلس خلفا للمعطي بن قدور عن حزب التجمع الوطني للأحرار. لكن أين المشكل؟ قد يردد البعض..
وللأسف الشديد يجب أن نقر بحقيقة مرة هي أنه لا يوجد مشكل أصلا، لأنه لو تم تحديد طبيعة المشكل وهويته لتم علاجه، لكن ما يوجد أمامنا سلسلة من المآسي لا يمكن إلا أن تكون لها تداعياتها السلبية الخطرة ليس على المشهد السياسي وحده..
ولنبدأ الحكاية من البداية.. الحرب "بدأت" مع انتخابات تجديد مجلس المستشارين وهي الخطوة الضرورية لكي يسيطر فريق الهمة كما هو مرسوم له على هذا المجلس الموجود أصلا لضبط المشهد التشريعي الوطني. وفعلا حقق الهمة ورفاقه فوزا كاسحا في هذا المجلس الكسيح واستطاع توفير 54 مستشارا. لم تتوقف موجة البام عند هذا الحد بل كرست هدفها المعلن سابقا برئاسة المجلس المفترض نظريا أنه بين يدي الأغلبية الحاكمة والتي تضم بين ثناياها كلا من حزب الاستقلال والتجمع الوطني للأحرار والتقدم والاشتراكية والحركة الشعبية. لكن الكل كان متأكدا شهورا قبل الانتخابات أن الفوز سيؤول إلى بيد الله رغما عن أنف السياسة والساسة في هذا البلد، وكذلك كان. فاز الهمة حتى بعد أن عقدت الأغلبية بحضور عباس الفاسي سلسلة اجتماعات لتوحيد صفوفها وحث بعضها البعض على التصويت لفائدة مرشحها الوحيد بنقدور. المفترض نظريا كان أن يتحقق فوز المعطي بنقدور لأن القانون الذي على الأقل يرتاح بفهمه بسطاء هذا البلد يقضي بذلك كون بنقدور لديه أغلبية تسنده وليس من المعقول أن تصوت الأغلبية على مرشح "المعارضة"..
قد يقول قائل: قبح الله الساسة والسياسة ليس يهمنا أمر من فاز أو خسر..
لكن على الأقل بسطاء هذا البلد يرتاحون حينما يفهمون أما حينما يسيطر الغموض على كل شيء ويصبح كل تصرف لغزا فهنا تتعقد الأشياء وتضيع معالم الصورة وهنا مكمن الخطأ والخطر في الوقت نفسه. صوتت أغلبية الفاسي على الشيخ بيد الله رئيسا للمجلس وعبره سيتمكن الهمة من تفعيل أجندته: فكلنا يعلم أن مجلس المستشارين أصلا وضعه الراحل الحسن الثاني لعرقلة كل ما يتقدم به مجلس النواب من قوانين، وحتى يضمن الحسن الثاني حسن سير وسلوك المجلس وضبط المشهد السياسي ويضمن عدم حدوث مفاجآت..
وهذا السيناريو ذاته الذي سعى إليه الهمة منذ البداية، وتمكن لحد الآن من تحقيقه. وعلى الرغم من الأمراض الكثيرة التي أصابت قبتنا التشريعية التي لا تغني ولا تسمن من جوع، فعلى الأقل كانت أملا لدى بسطاء هذا البلد ممن يطمحون في أن يصعد جيل يحمل همومهم وآمالهم ويسنوا القوانين التي تحمي مصالحهم. أما الآن، فلتتحرك الأحزاب المشاكسة كيفما شاءت فكل شيء سيعرقل في مجلس الهمة..
نعم لن يسمى بعد الآن مجلس المستشارين وإنما مجلس الهمة. لم تكن لبسطاء هذا البلد يوما مشاكل مع الهمة ونسخه السابقة ممثلة في إدريس البصري أو أوفقير أو رضا اكديرة أو غيرهم، ولكن مع هذه النخبة التي يحير المرء في إيجاد وصف يناسبها. أقل ما يقال عنها إنها نخبة منبطحة خائنة إمعة تسبح دائما مع اتجاه التيار (وحدها الأسماك الميتة تسبح مع التيار).
أغلبها لا تهمهم سوى مصالحهم ومصالحهم تلك لا يرونها سوى مع الهمة فقرروا أن لا يعصوا له أمرا ولا يغيظوا له نفسا ولتذهب مصلحة المواطن وقيمته إلى الجحيم، ثم لا يجدون حرجا في إيجاد وجوه جديدة تنبت كما ينبت الفطر ليذهبوا عند هذا المواطن ويحاولون تحبيبه في السياسة...
لقد سيطر الهمة على مجلس المستشارين، وتمكن من تعزيز موقفه، مثلما نجح في تشتيت كل من يخالفه داخل أحزاب الأغلبية، ولعل فيما حدث للتجمع الوطني للأحرار خير دليل. المثير هو أن حزب الاستقلال الذي يقود أغلبية حكومية زاد إلى سجل ذله وانبطاحه إنجازا جديدا... وليرحم الله ذكراك يا علال الفاسي..
سيناريو انتخابات 2012 التشريعية موجود والهدف مكننة الحياة السياسية وجعلها رتيبة وفق تصور وحيد، لكن من الآن ليعلم أصدقاء رئيس مجلس المستشارين الجديد أنهم ربحوا أعداء جددا كانوا دوما هم الحصن الحقيقي لهذا البلد.