أوضح النقد النسوي للثقافة البطركية في الغرب مسألة المنظور على نحو مدهش. فكروا، مثلاً، بهذا الرأي لإليزابيث غروس:
تؤكد النساء أنفسهن لا كموضوعات للمعرفة وإنما كذوات بمنظورات ووجهات نظر معيّنة مختلفة منهجياً عن منظورات ووجهات نظر الرجال. إن منظورات أو وجهات نظر كهذه هي "ذاتية" أي تعبّر عن مواقف فردية أو شخصية أو خاصة، و"ذاتية" كونها تُرى كتدخل في الإجراءات "الموضوعية" للمعرفة كما نتاجات الرجال النظرية هي وظيفة مواقفهم المعاشة في العالم ("ما هي النظرية النسوية؟"، ص:194).
تروم النظرية النسوية الكشف عن الشخصية "الجزئية"، و"الملتزمة"، و"غير الكونية" للمنظور المعارض عبر تبيان أن "الخطابات البطركية ليست نماذج حيادية وكونية وغير خاضعة للتشكيك، وإنما هي نتاج المواقع السياسية المحددة التي يشغلها الرجال" (المصدر نفسه،ص:198). ربما كان الإسهام الأعظم للنقد النسوي هو إنشاء نموذج مضاد قابل للحياة مستمد من قدرته على توضيح طبيعة القوة – المعرفة لتيار الذكور ووحدة مجالات قمعه وسيطرته: الطبقة، العرق، والجنس، والبنى المتواشجة التي فيها هذا القمع – الرأسمالية، الإمبريالية، والبطركية. هكذا، مثلاً، إنّ ما يواجهه المفكرون النقديون العرب في الدراسة الأكاديمية الغربية كاستشراق، تجربه الناقدات النسويات كبغض للنساء.
سأحاول أن ألخص بإيجاز المظاهر الموازية في الخطابين النقديين النسوي واللاغربي.
أولاً، إن الموقفين هما "خارجيان" بالنسبة إلى الخطاب الغربي المهيمن: فالموقف النسوي خارجيٌّ بالنسبة إلى الموقف الذكوري والموقف اللاغربي خارجيٌّ بالنسبة إلى الخطاب الغربي المهيمن. وعلى العموم، إن الخطاب الغربي المُهيمن عليه ذكورياً والمتمركز غربياً يعارض باشتغالاته وفرضياته غير المعبّر عنها كلاً من المزاعم النسوية والمتطلبات النقدية اللاغربية؛ ويميل باستمرار إلى تجاهل الاثنين والتقليل من قيمتهما. وهكذا في طريقته الثنائية في التصنيف يعارض الذكورة مع الأنوثة والغربي مع اللاغربي بطريقة مماثلة ومتكافئة ويميل إلى إضفاء قيمة أكبر على المصطلح الأول.
مثلاً، إن "المؤرخ"، مثل "الرجل" أو "الفرد"، هو في الخطاب المهيمن دوماً ذكر وغربي، أي متمركز ذكرياً. إن ميّزات هذا المؤرخ النموذج، كما تعبّر جوديث آلن:
"تشكّل قائمة من المواصفات الذكورية الغربية… وتُطرح عدالته وغرائزه على أنها كونية، وليس كجزئية، تتحقّق عبر التجربة المعاشة لجسد مذكر في ثقافة غربية بطركية" (الدليل والصمت: النسوية وحدود التاريخ" [1987]، ص:179).
يتّفق المفكرون النقديون النسويون واللاغربيون أيضاً على مسألة ذاتية المعرفة، حيث التاريخ والمجتمع، الذات والآخر، موضوعات للمعرفة. ويحاولُ كتاب المعسكرين جمع التحليلات النظرية للطبقة مع تحليلات الجنس، وتحليلات الرأسمالية مع تحليلات البطركية، وتحليلات الإمبريالية مع تحليلات الأصولية الدينية. ويميل المعسكران، في تعبئة قواهما المنهجية والنظرية، إلى استخدام النظريات والتقنيات الغربية الذكورية على نحو انتقائي. ويتبنى الطرفان المنظورات الجذرية نفسها: الماركسية، التحليل النفسي النقدي، ما بعد البنيوية، نيتشه، فوكو، ديريدا، لاكان، فريدريك جيمسون، تيري إيجلتون. ولكن يجب أن ننبّه إلى أنه بينما قارب النقاد النسويون، وخاصة في فرنسا، أولئك الكتّاب والخطابات بفحص نقدي قويّ، فإن النقاد العرب (واللاغربيون الآخرون) كانوا أقل حزماً وأقل ثقة بالذات في الطريقة التي قاربوا بها مصادرهم الغربية.
وفي هذا السياق، يجب أن نلفت الانتباه إلى مسألة نادراً ما فحصها النقد اللاغربي ولكنها محورية للنسوية: الفرق الجوهري، من وجهة النظر النسوية الراديكالية، بين المساواة والاستقلال. ومن هذا المنظور، تبدو المساواة مع الرجال مقولة مزيّفة، تتضمن قياساً وفق معيار ذكوري رسمي يتضمن تكافؤ مصطلحين أو أكثر، أحدها يُنصّب كعرف أو نموذج. بالمقابل، إن الاستقلال يُفهم كحق قبول أو رفض المعايير أو النماذج المتلقاة وفق ملاءمتها لتعريف المرء لذاته. ويمكن أن يُوصف المشكل المماثل للنقاد غير الغربيين كتمييز بين الاستقلال "السياسي" و"الاستقلال "الثقافي".
ينبغي أن نشير أيضاً إلى حقيقة أن المصادر الفكرية الرئيسية للنقد العربي، بما فيه النسوية، كلها غربية الأصل. وبصرف النظر عن كم تبدو من النوع نفسه من وجهة نظر النقاد اللاغربيين، فإنها كلّها مشكّلة من أوضاع ومصالح معيّنة تنبع من سياق مختلف جوهرياً. وإذا لم يحقق النقد العربي الاستقلال الكامل – أي القدرة على التنظير المستقل – سيبقى مقيداً بتغيرات المقاربات الغربية وبصعود وهبوط الموضة الفكرية الغربية.
إن النقد في الغرب ممارسة نخبوية، مقتصرة على الدوائر الفكرية والأكاديمية. تستخدم مصطلحات يصعبُ فهمها على "الجمهور العام". وهكذا فإن أحد الأخطار الواضحة التي تتعرّض لها الحركة النقدية العربية هو محاكاة طريقة البرج العاجي للنقد الغربي وبعده عن الصراع الاجتماعي. وهذا الخطر يبدو مُحدقاً أكثر حين نفكر بالقيود السياسية والإيديولوجية التي يعيش في ظلّها المفكّرون النقديّون في معظم البلدان العربية وبلدان العالم الثالث، بحيث أن الموضة، والتعاليم الأكاديمية، والتجريد تصبح إغراءات لكتّاب وباحثين يجب أن يحموا أنفسهم من مراقبة الدولة بقدر ما يحموا أنفسهم من الأصولية. وهكذا يصبح إبعاد أنفسهم عن "عالم حياة" العنف السياسي والإيديولوجي الخيار المتناقض للمفكرين المنخرطين في النقد الثقافي من أجل تغيير المجتمع.
إن الصعوبة الأخرى التي تواجه النقاد العرب هي داخلية. تنبع من التناقض المتضمن في محاولة تأسيس نقد في اللغة نفسها وتراكيبها التي يروم نقدهم تغييرها أو إزاحتها. ينتهي هذا إلى المفارقة التي افترضها دريدا: "لا نملك لغة مستقلة عن هذا التاريخ؛ ولا نستطيع التفوّه بفرضية تفكيكية واحدة لا تنزلق مسبقاً في شكل ومنطق ما تروم مجادلته ومسلّماته الضمنية" [1978]،ص/280-81).
وعلى الرغم من خلل وعيوب اللغة المتاحة في المجتمع العربي الحديث، ما تزال هناك إمكانية لتأسيس خطاب مضاد لتحدي الخطاب الرسمي واستبداله. ولا يهدف مشروع مضاد للهيمنة كهذا إلى مجرد الصراع ضدّ اللغة المعطاة ونماذجها. إن هدفه النهائي هو تقويض "الذهنية" التي تتأصل فيها هذه النماذج.
تشكّل الأسئلة التي يثيرها هذا المشروع الإطار الذي يمكن أن تؤثر التشكيلات الجديدة عبره في تحول النقد الجديد إلى تنظير مستقل وأصيل. ولن يكون هدف الخطاب المتولّد نموذجاً آخر بديلاً ومهيمناً؛ على العكس، سيهدف إلى توفير الشرط الضروري لصعود خطابات متعددة غير مهيمنة وغير قطعية تتفاعل داخل إطار منفتح على الاختلاف وعلى الاعتراف بالآخر وقبول المعارضة.
يروم نقدٌ من هذا النوع أولاً تخطّي الحدود التقليدية للدراسة الأكاديمية الرسمية ليس فقط من ناحية المنظور بل أيضاً في مجالات البحث الأكاديمي. والواقع أن التغير الجوهري في الكتابة والبحث سيمنح أسئلة النظرية والمنهج شكلها ومعناها الملموسين، ويضفي على التنظير التجريدي حياة وشكلاً محددين. ولكن مهما كان ما يقود إليه توجّه المنظور النقدي الجديد والموضوعات التي ينخرط فيها، لن يكون هناك بديل للدراسة الأكاديمية القويّة والمنهجية وللصرامة في البحث عن الدليل، والدقة في التحليل، والتماسك في السرد الدلالي.
وإذا كانت الأشكال الجديدة للكتابة والبحث تروم إحداث تحوّل جذريٍّ في الفهم والتأويل، فإنها إذاً يجب أن تبتعد عن اللجوء إلى النقد النظري الصرف. إذ يمكن أن يُنجز هذا في ميدان الدراسات الاجتماعية والثقافية، عبر الاختيار الملائم لموضوعات البحث واللجوء إلى مناهج البحث "الصحيحة". ولا يمكن أن يصبح النقد ممارسة بناءة إلا عبر الانخراط في الاستقصاء الملموس لميادين ومقاربات جديدة. ماذا يمكن أن تكون هذه الموضوعات على نحو محدد؟
إنها الموضوعات التي تجاهلتها الدراسات الأكاديمية التقليدية قصديّاً أو قلّلتْ من قيمتها. مثلاً، إعادة تقويم البنية المفهومية لـ"النهضة" ومراجعة متزامنة لسيرورات التوسع الأوربي في المنطقة؛ نقل التركيز من ما هو سياسي صرف إلى الاقتصادي والاجتماعي، أي، إلى التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، من زاوية الاندفاع القوي العام للتطور وكذلك البنى والنماذج المحلية؛ وإعادة تقويم طرق مراكمة الأشكال الإدارية والاجتماعية الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، تنظيم البلديات، البنى البرلمانية الناشئة، الإصلاحات القانونية تحت شروط "حكومة وصاية"، "انتداب"، و"معاهدة خاصة"، وهلمّ جرّا.
الثلاثاء نوفمبر 03, 2009 1:51 pm من طرف هشام مزيان