لا أحد منا يستطيع أن ينكر ما لمتابعة أفلام الأبيض والأسود من متعة خاصة، وضعتها في مقدمة ما نطلق عليه أيام الزمن الجميل، بحيث أصبحت هذه الأفلام من كلاسيكيات السينما العربية المرغوبة من قبل جميع الأجيال. فقد كانت وما زالت أفلام فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وشادية تحمل مادة جميلة في عصر جميل يحن اليه الجميع كبيرا كان أم صغيرا. وقد كان نجوم السينما يمثلون الشخصية التي تحتذى سواء في التصرفات والسلوكيات أو في الأناقة من قبل الشباب والشابات في تلك الأيام. فعلى سبيل المثال، كانت سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة تتربع على عرش السينما في ذلك الحين، وقد كانت نموذجا تتبعه الصبايا والشابات في رقي شخصيتها وفي أزيائها الأنيقة التي كانت تمثل موديلات راقية تصبو الشابات إلى ارتدائها وحياكتها حينما كانت للخياطة والتفصيل شأنهم وأهميتهم في تلك الأثناء، وحينما كان الفستان يمثل رمز الجمال والأنوثة على عكس ما نراه اليوم من سيطرة "البنطالونات الجينز" التي لا تختلف كثيرا في شكلها ولا نستطيع تمييزها سواء إن كانت للسيدات أو الرجال. فكانت الشابات يتخذن من هذه الفنانات نموذجا يحتذى، وعلى حذو فاتن حمامة كانت هند رستم، ماجدة، شادية، سعاد حسني وغيرهن من الفنانات التي كانت صورهن تملأ جدران غرف الفتيات والشبان في تلك الأثناء والتي كان لها الأثر الكبير في إنصراف بعضهم عن جادة الأمور.
واستطعنا من خلال هذه الأفلام التعرف على مصر أم الدنيا أجمل بلاد الأرض، وأكثرها تميزا، وتعرفنا كذلك من خلالها على اللهجة المصرية الجميلة، الخفيفة الظل لتصبح لهجة متقنة ومحببة من قبل الجميع، كما تعرفنا من خلالها على الشعب المصري الطيب المعطاء الذي لا تفارقه البسمة والنكتة حتى في أعصب الأوقات، وأقسى الظروف. فحيت مصر بقلوبنا، واحتلت مكانة وحيزا كبيرا في أفئدتنا، وأصبحت محط الأنظار لكل من تاقت نفسه للتمتع بحضارة عريقة، وطبيعة خلابة فأصبحت بذلك مصر بلدا سياحية، يتوق لزيارتها كل عربي ويتمنى دوس ترابها كل عطشان ليرتوي من نيلها العذب، ويأكل من خبز قمحها الشهي، ويرى سمرة شعبها القمحاوية، ويسمع عذب لهجتها الجميلة.
وبالرغم من أن هذه الأفلام كان لها الأثر الكبير في التعرف على جوانب عديدة في مصر أم الدنيا، إلا أن الأمور قد اختلطت عند الكثيرين، بسبب طبيعة المواد الدرامية المطروحة في هذه الأفلام، بحيث خال للجميع بأن مصر في ذلك الوقت كانت إحدى أثرى بلدان العام، وأنها كانت رمز البلد الأرستقراطي، المزدهر في شتى المجالات، إذ كانت القصور الفخمة والعمارات الشاهقة والعائلات الثرية، مادة محورية تتمركز حولها معظم الأحداث الدرامية، فظنت الغالبية العظمى من شعبنا أن شعب مصر في هذه الفترة كان شعبا أرستقراطيا، يعيش متنعما بثراء مدينة الأحلام، متجاهلين طبقة الفلاحين التي كانت مستغلة أيما إستغلال من الإقطاعيين في هذه الحقبة من الزمن، وغير مدركين لمدى الفقر الذي كان يخيم على مئات الألاف من العائلات المصرية في هذه الأثناء. بل وما زال الكثيرون يعتقدون حتى عصرنا هذا،أن تلك الفترة من تاريخ مصر كانت الفترة الذهبية التي اعتلت فيها مصر عرش الثراء والإزدهار والرخاء. لهذا فقد امتازت هذه الفترة ببعض الأمور الملفتة للنظر والتي قد تكون مضحكة أحيانا، منها مثلا، تقليد كثير من السيدات العربيات للفنانات المصريات حتى في اللهجة المصرية. إذ كانت تتباهى إحداهن بالحديث باللهجة المصرية لإضفاء طابع الثراء وروح الأرستقراطية على شخصيتها. أيضا لا يمكن التغاضي عن ما غرزته هذه الأفلام من قيم ومظاهر وأخلاقيات كانت دخيلة على مجتمعاتنا في ذلك الوقت، فالملاهي الليلية والرقص واللهو كانت مادة دسمة للطرح في معظم مشاهد هذه الأفلام، مما حدا بالكثير من أبناء شعبنا العربي باتخاذ وتقليد هذا النمط من الحياة باعتباره المظهر الحضاري والعصري في ذلك الوقت العصيب التي كانت الأمة العربية بأشد الحاجة إلى شبابها، لضحد العدوان والإحتلال الصهيوني الذي كان يغرز ويثبت أقدامه في أراضينا المقدسة، بدلا من توجههم إلى ما من شأنه ابعادهم عن جوهر المأساة التي كانت مسيطرة في تلك الفترة. كذلك كانت للأزياء طابعها الخاص المميز في هذه الفترة والتي نستطيع أن نلمحها من بعض ما توفر من صور ألاهل القديمة، التي تبين بوضوح مدى التأثر بهذه الأفلام حتى في الأزياء.
وقد تنوعت المواد المتناولة في الدراما المصرية في تلك الفترة، فمن الأفلام الرومانسية التي تربع على عرشها فاتن حمامه، ماجدة، شاديه، عبد الحليم حافظ، عماد حمدي، عمر الشريف، رشدي أباظة، إلى أفلام الجريمة بأبطالها فريد شوقي، محمود المليجي، توفيق الدقن، إلى الأفلام الكوميدية التي برع فيها إسماعيل ياسين،عبد المنعم إبراهيم وغيرهم من الفنانين والفنانات الذين أثروا السينما المصرية والعربية في ذلك الوقت.
وقد لمعت أسماء فنية في تلك الأثناء لفنانات وفنانين اعتبرها صناع الأفلام خسارة، لا يمكن للسينما العربية تعويضها لما قدمته من إبداعات فنية فريدة متميزة، مثال فاتن حمامة، شادية، عماد حمدي، فريد شوقي، محمود المليجي وغيرهم من عمالقة الفن الجميل. وأصبحت أسماءهم معلما لا يقل مكانة عن الإهرامات وأبو الهول في شهرتها عند عشاق الفن والسينما، كما وأعتبر البعض بأن السينما المصرية في تلك الفترة كانت ومازالت الحضن الدافئ للعديد من فنانين مبدعين من الأقطار العربية المختلفة، فكان فريد الأطرش أسطورة الطرب العربي, وصباح شحرورة الوادي، وأسمهان صاحبة الصوت العذب الرنان.
وأما أطرف ما كان يميز تلك الأفلام في تلك الفترة، فكان النهاية السعيدة التي ينتهي عندها الفيلم في معظم الأوقات. حيث يتزوج البطل البطلة ويعيش الجميع في تبات ونبات ويخلفوا صبيان وبنات
لهذا كان لا بأس على أحد في أن يتابع مقدمة الفيلم فقط، لأنه بالتأكيد سيعرف النهاية الحتمية له، حيث النهاية السعيدة لا محالة، فإما زواج البطلين، أو عودة المغترب، أو لم شمل العائلة وهكذا.
وفي النهاية نقول أنه بالرغم من بعض السلبيات والعيوب والمآخذ التي أخذت على تلك الأفلام والتي تمثلت في صرف نظر الشباب العربي عن القضية الام، إلى أن هذه الأفلام ستبقى ذكرى جميلة من زمن عصر جميل في تاريخ سينما أفلام الأبيض والأسود.