أولا: تصاعد نزعة الهيمنة على العالم في الولايات المتحدة الأمريكية
بدأت نزعة الهيمنة الإمبريالية تتقوى لدي الطبقة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل ملفت للنظر مع بداية تآكل التحالف الاجتماعي الذي كان قائما على أساس التوازن العالمي الثلاثي، الذي ساد فيما بين معسكر شرقي اشتراكي يتزعمه الاتحاد السوفيتي المنهار ومعسكر غربي رأسمالي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية وكثلة ثالثة لدول عدم الانحياز تضم مختلف دول العالم الثالث وما رافق كل ذلك من توافقات أعقبت الحرب العالمية الثانية. ودون العودة إلى تفاصيل هذا التآكل نكتفي بالإشارة إلى أن هذا التطور قد أدى إلى أن ميزان القوى مال لصالح رأس المالالذي تحرر من جميع القيود المفروضة عليه نتيجة معادلات المرحلة السابقة. فمنذ عهد رونالد ريغان ما فتئ اليمين المتطرف يخصص مبالغ خيالية في مجال التسلح كوسيلة لتحريك عجلة الاقتصاد الراكد وللضغط على النظام السوفيتي الذي لم يتمكن من مجاراة السباق نحو التسلح خصوصا مع مشروع خيار الصفر وحرب النجوم لإدارة ريغان الشيء الذي ساهم في انهياره. ومع تعاظم القدرة العسكرية الأمريكية وانهيار الاتحاد السوفيتي بدأت بوادر نزعة الهيمنة على العالم تتعاظم لدى الطبقة السياسية سواء في الحزب الجمهوري أو الحزب الديموقراطي وتشهد على ذلك سلسلة التدخلات العسكرية للولايات المتحدة في مختلف بقاع العالم.
فقد دشنت الولايات المتحدة عجرفتها العسكرية المتعاظمة بمهاجمة قواعد ساحلية في ليبيا سنة 1986 انتقاما مما يزعم أنها هجمات إرهابية دبرتها ليبيا ضد أهداف أمريكية، ثم التدخل في بنما سنة 1989 للإطاحة بالزعيم البنمي الجنرال مانويل نورييجا واعتقاله ومحاكمته، ثم قيادة تحالف دولي لطرد القوات العراقية من الكويت سنة 1991، واحتلال هايتي سنة 1995 بدعوى إعادة الديموقراطية للبلاد، ومهاجمة صربيا سنة 1995، ثم مهاجمة كل من أفغانستان والسودان سنة 1998 بدعوى ضلوعهما في تفجيرات سفارتي الولايات المتحدة في كل من كينيا وتانزانيا. ثم مهاجمة صربيا سنة 1999لارغامها على الموافقة على خطة السلام الأمريكية. وأخيرا مهاجمة واحتلال أفغانستان سنة 2001 والعراق سنة 2003.
إن التطورات التي عرفتها الميزانية الحربية للولايات المتحدة الأمريكية مؤخرا تؤكد بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد دخلت مغامرة حربية استعمارية لا حدود لها في الزمان ولا في المكان. فقد اقترحت الإدارة الأمريكية أن يضاف للميزانية الفدرالية لسنة 2003 مبلغ لم يسبق له مثيل منذ اكثر من 20 عاما. حيث تم تخصيص 41 مليار دولار لإنشاء وزارة الأمن الداخلي الجديدة، و380 مليار دولار أخرى للجيش، وقد أدى ذلك إلى إضافة 4,2% على الميزانية الحالية كما وافق الكونغرس خلال العدوان على العراق زيادة 80 مليار دولار للميزانية السابقة. ويتضح من خلال هذه الميزانية سلم أولويات الإدارة الأمريكية التي ترى أن الوسيلة الوحيدة لحل مشاكل أمريكا الاقتصادية وفرض هيمنتها السياسية وامتيازاتها على بقية منافسيها، ليست المنافسة الاقتصادية الحرة بل التفوق العسكري.
إن إجراءات بوش الابن لإنقاذ رأس المال الأمريكي وإشباع غريزة بسط هيمنته على العالم، لا يقابله أية محاولة لإنقاذ ملايين الأمريكيين الذين وقعوا فريسة للبطالة والفقر المتزايد. فقد أشارت صحيفة "نيويورك تايمز" بتاريخ 6 فبراير الأخير إلى أن انخفاض الطلب على العمال قد وصل إلى أدنى درجة عرفها منذ 20 عاما. كما تشير الصحيفة إلى أن الاقتصاد قد فقد اكثر من مليوني منصب عمل منذ بداية الركود الاقتصادي في مارس 2001. وتضيف بأن نسبة البطالة التي بلغت رسميا 6%، آخذة في الارتفاع لان الكثير من العمال فقدوا أماكن عملهم وهم غير مسجلين في مكاتب التشغيل. لكن الرد الذي يوفره بوش للازمة المتفاقمة هو المزيد من التخفيضات في البرامج الاجتماعية، والتي لها علاقة بالمسنين والأطفال والفقراء. والتخفيض مقابل ذلك من الضرائب المفروضة على الشركات و المداخيل والثروات الكبرى.
تستند الاستراتيجية السياسية الأمريكية المرافقة لمشروعها الحربي سواء على أفغانستان أو العراق على صياغة عدد من مبررات، كمحاربة الإرهاب، ومكافحة المخدرات والاتهام بإنتاج أسلحة الدمار الشامل أو السعي إلى "نشر مبادئ الديموقراطية". وقد بدأ يظهر بوضوح وهم هذه المبررات التي يتم تصنيعها بشكل مباشر أو غير مباشر من طرف الإدارة الأمريكية لخدمة أهدافها الاستراتيجية. فأسامة بن لادن ليس سوى صنيعة المخابرات الأمريكية والذي كان أداة فعالة في قيادة ما يسمى "بحرب المجاهدين" على الاتحاد السوفيتي السابق كما أن شبحه سيضل قائما ولن يختفي حتى تستمر الولايات المتحدة في تواجدها في المنطقة. أما أسلحة الدمار الشامل فالكل يعلم أن من ينتج هذه الأسلحة ولا يتورع في استعمالها فعلا هي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وصنيعتها إسرائيل. أما بالنسبة لمكافحة المخدرات والذي يقف وراء وضع مخطط كلومبيا فهو موجه بالأساس لتدمير قوى التحرر في منطقة الأندين ووسيلة لاحتواء البرازيل مستقبلا. أما بالنسبة لوهم نشر المبادئ الديموقراطية فالجميع يعلم دور الولايات المتحدة الأمريكية في تنصيب ومساندة أفضع الأنظمة الديكتاتورية عبر العالم فنظام صدام حسين لم يكن أكثر ديكتاتورية من أنظمة أخرى في المنطقة مثل تلك السائدة في تونس ومصر أو بمنطقة الخليج. بل تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على محاولة قلب الأنظمة المنتخبة ديموقراطيا كما هو الشأن بالنسبة لفنزويلا.
لقد صاغت الولايات المتحدة الأمريكية مفهوما جديدا لتنفيذ استراتيجيتها الحربية يتمثل في "الحرب الوقائية" بحيث يبرر هذا المفهوم عمليا تجاوزها لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي بدعوى توفر مظاهر مهددة للأمن القومي الأمريكي. وقد رأينا كيف تجاهل بوش الابن في عدوانه على العراق مختلف اعتراضات مجلس الأمن والحركات الاجتماعية المتظاهرة عبر العالم والرافضة لمنطق الحرب على العراق. وتجب الإشارة إلى أن القانون الدولي لا يسمح باللجوء إلى الحرب إلا في حالة الدفاع عن النفس، وفي ضل شروط وقيود محددة. لكن الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة منذ عقد الثمانينات لم تكن تتطابق مع القانون الدولي وبالتالي لم تكن حروبا شرعية لذا سيبقى المسؤولون عن هذه الحروب في نظر القانون الدولي والمواثيق الدولية مجرمي حرب.
ثانيا: طبيعة الطبقة المهيمنة القائدة للهجوم الأمريكي
يشكل اليمين المتطرف في الولايات المتحدة الأمريكية طبقة متميزة تتكون من تحالف عنصري أمريكي صهيوني. وتتواجد هذه الطبقة داخل الحزبين الجمهوري والديموقراطي كما توجد على رأس مختلف الشركات متعددة الاستيطان الأمريكية متحكمة بذلك في عصب الاقتصاد العالمي. وتخطط هذه الطبقة كما فعل هتلر قبيل الحرب العالمية الثانية لغزو "المجال الحيوي" الضروري لتأويج أرباحها، بينما لا تسمح لبقية شعوب الأخرى بالوجود إلا في الحدود التي لا تشكل فيه تهديدا لمصالحها.
إن الهدف الأساسي لهذه الطبقة يقوم على مراكمة الأرباح والثروات عبر الاستقطاب الرأسمالي العالمي. فشعوب العالم في منظور هذه العصابة ليسوا سوى هنود حمر لا حق لهم في الوجود إلا في الحدود التي تعرقل فيه توسع رأس المال والشركات متعدد الاستيطان. وتتوعد عصابة واشنطن شعوب العالم بأن كل مقاومة من طرفها سيتم القضاء عليها بمختلف الوسائل والتي تصل إلى حد الاغتيال.
فالمشروع السياسي الذي تتبناه هذه الطبقة في مواجهة العالم (العولمة ومن ثم الأمركة) يقوم على إخضاع مختلف الشعوب إلى عمليات جراحية تقويمية تجعلها قابلة للنهب والابتزاز، حيث تسهل سياسات التقويم الهيكلي والخوصصة المفروضة بواسطة المؤسسات المالية الدولية، عملية إخضاع اقتصاديات العالم لتحكم هذه الطبقة. ونظرا لأن هذا المشروع المتوحش القائم على همجية نظام السوق يعتبر مجردا من أية قيم إنسانية أو حضارية، فإن بقائه واستمراره سيضل مهددا بانتفاضة الشعوب، لذلك فإن بقاء النظام وإستمراريته لن يتأتى إلا بواسطة الأمن والعسكرة.
إن هيمنة اليمين المتطرف في الولايات المتحدة الأمريكية يقوم على إلغاء الآخر أو تكييفه مع مصالح رأس المال: إبادة الهنود الحمر، استغلال العبيد، إحلال اليد العاملة المهاجرة محل اليد العاملة المحلية، محاصرة العمل النقابي ومعاداة الشيوعية. فالحياة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية مقارنة مع أوروبا تبقى فقيرة من حيث تنوع المشاريع السياسية والاجتماعية، حيث يهيمن الفكر الرأسمالي المتوحش على عمل الأحزاب السياسية فتصبح العملية الانتخابية مشروعا رأسماليا محضا يتوخى اليمين المتطرف من ورائه تحقيق المزيد من تراكم الأرباح.
فالمجتمع الأمريكي لم يعش الثورة الثقافية التي عاشتها البلاد الأوروبية والتي تميزت بصياغة ثقافة سياسية متميزة رسختها الأحزاب العمالية الاجتماعية والشيوعية. لذلك فهو لا يتوفر على أدوات إيديولوجية تتيح له مقاومة الديكتاتورية وبناء قوة موازنة لرأس المال. بل ضلت الطبقة الرأسمالية المهيمنة منذ تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية تعيد إنتاج نفس نمط الفكر السائد القائم على نزعة عنصرية صهيونية يحاول أن يطبع بها المجتمع المتعدد الأعراق لتمييزه عن بقية الشعوب الأخرى.
ويؤسس اليمين المتطرف الحاكم في الولايات المتحدة الأمريكية مشروعه الإمبريالي على الاستغلال الاقتصادي واللامساواة السياسية، وعلى هذا الأساس تقوم خلفية اللجوء إلى العنف المطلق في تدبير التناقضات داخل المجتمع الأمريكي، مثل العنف المسلط على الهنود الحمر والعبيد والأقليات العرقية واستمرار عقوبة الإعدام، ومطاردة الشيوعيين. بل أن نفس العقلية يتم تصريفها حاليا على المستوى الدولي من خلال معاداة الأقليات العرقية والدينية والسياسية ووصف الشعوب الأخرى المستهدفة بالمارقة أو بمحور الشر. ولا يبتعد هذا المشروع كثيرا عن المشروع الذي قامت عليه النازية في أوروبا خلال القرن العشرين.
إن تنفيذ المشروع الإمبريالي الأمريكي يؤدي إلى انهيارات متواصلة في البلدان التي تتعرض للغزو (صربيا - أفغانستان- العراق) كما يؤدي إلى تأسيس حكومات عميلة شبيهة بحكومة كرزاي في أفغانستان تخضع بالمطلق لإرادة الأمريكيين.
ثالثا: حدود النظام الاقتصادي القائم في الولايات المتحدة الأمريكية
يعاني النظام الاقتصادي الأمريكي من الكثير من المشاكل انطلاقا من الحجم المديونية الهائل ومرورا بالعجز التجاري المزمن الذي انتقل من 100 مليار دولار سنة 1998 إلى 450 مليار دولار سنة 2000 ووصولا إلى العجز الذي يطبع مختلف القطاعات الإنتاجية. فمنتجات الولايات المتحدة لا تقوى على منافسة الشركات الأوروبية واليابانية ودول النمور الآسيوية حتى في القطاعات التي تبدو متفوقة فيها كمجال الآليات ذات التكنولوجيات الفائقة. فالولايات المتحدة لا تقوى على المنافسة إلا بلجوئها إلى الوسائل غير الاقتصادية التي يتم في إطارها خرق مبادئ الليبرالية المتوحشة المفروضة على المتنافسين.
إن المجال الوحيد الذي تتمتع فيه الولايات المتحدة بمزايا مقارنة حقيقية وتتفوق فيه على بقية البلدان هو المجال العسكري، خصوصا وأن مجال التسلح لا يخضع لقواعد السوق ويستفيد من دعم الدولة. وبطبيعة الحال فإن هذا الامتياز ينعكس نسبيا بشكل إيجابي على بعض قطاعات الصناعات المدنية كالإعلاميات والانترنيت، لكنه يشكل أيضا مصدرا للعديد من الانحرافات. فالاقتصاد الأمريكي يعيش بشكل طفيلي على حساب باقي دول المنظومة الرأسمالية. فالاستهلاك الصناعي للولايات المتحدة الأمريكية يخضع بنسبة 10 % للمنتجات والخدمات المستوردة من الخارج.
ولم تكن "المعجزة الأمريكية" في عهد كلنتون تقوم على أسس ليبرالية كما يتم الادعاء بذلك. فالازدهار التي اتسمت به هذه الحقبة كان مصطنعا يقوم على تحويلات رؤوس الأموال من أوروبا واليابان والبلاد النفطية على الخصوص. فأمام سلبية الادخار الوطني الأمريكي يعتبر هذا النظام أكبر مستهلك لعمل الآخرين، فالعالم ينتج والولايات المتحدة تستهلك إما بشكل طوعي عبر تحويل الأموال من الخارج عبر جذب الريوع النفطية الهائلة أو عبر استعمال القوة من خلال خرق أحادي متكرر لمبادئ الليبرالية وتصديـــر الأسلحــة والذي يشكل 60 % من السوق العالمي، إلى البلدان التابعة مثل دول الخليج التي لا تستعمل أبدا هذه الأسلحة.
فالعجز الأمريكي يتم تغطيته بواسطة تراكم رؤوس الأموال المتأتية من أوروبا واليابان ومن دول الجنوب (الدول النفطية الغنية والطبقات الكومبرادورية لجميع بلدان العالم الثالث، بما فيها الدول الفقيرة) إضافة إلى التدفق المترتب عن خدمة الدين المفروض في مجموعه على بلدان العالم الثالث. فاستمرار تدفق رؤوس الأموال الذي يغذي الاقتصاد الأمريكي الرأسمالي الطفيلي لا علاقة له بما يسمى بقوانين السوق والمنافسة الحرة كما يتم الادعاء بذلك.
إن الوضع الاقتصادي الأمريكي الهش يمكنه أن ينهار بمجرد سحب الدول الأوروبية واليابان والبلدان الأخرى لأموالها الموظفة بها، وبالتالي استخدام تلك الأموال في تنمية اقتصادية واجتماعية لتلك البلدان تجعلها قادرة على مواجهة الغطرسة الأمريكية.
رابعا: الاحتلال الأمريكي والديون البغيضة للعراق
بلغت كلفة الحرب الأمريكية على العراق 80 مليار دولار وهو مبلغ ضخم، حيث كان بالإمكان أن يشكل هذا المبلغ الغلاف المالي الضروري لضمان تزويد مختلف مناطق العالم بالمياه الصالحة للشرب وتعميم التعليم الأساسي ومستشفيات العلاج الأساسية بما فيها العناية الصحية لجميع النساء إضافة إلى ضمان تغذية ملائمة لمختلف سكان المعمور. وللإشارة فإن مجموعة الدول السبعة الأكثر تصنعا لم تخصص سنة 2001 سوى أقل من مليار دولار لمكافحة أمراض السيدا والمالاريا والسل.
فقد تم تخصيص 80 مليار دولار لتغطية كلفة الحرب وضمان الاحتلال إلى غاية 31 دجنبر 2003، وبطبيعة الحال لم يتم الأخذ بعين الاعتبار الكلفة المالية الناجمة عن تدمير العراق بشريا وماديا وما تم نهبه من ثروات مالية وأثرية. فكيف يبرر الأمريكيون للعالم هذه التكاليف؟ ومن سيتحملها في نهاية المطاف؟
يؤكد الأمريكيون بأنهم جاءوا إلى العراق من أجل إحلال الديموقراطية وتخليص الشعب العراقي من الديكتاتورية إضافة إلى تخليص الإنسانية من أسلحة الدمار الشامل. فما مدى وجاهة هذا التبرير؟
لقد سارع وزراء مالية الدول السبع الأكثر تصنعا في اجتماعهم يومي 10 و 11 أبريل 2003 في واشنطن إلى تحديد حجم المديونية الخارجية للعراق في 120 مليار دولار. ومعلوم أن هذا المبلغ يتجاوز بكثير المديونية الخارجية لتركيا والتي يتجاوز عدد سكانها بثلاث مرات عدد سكان العراق. وإذا ما أضفنا التعويضات التي يسددها العراق بسبب حربه على الكويت سنة 1990 فستصل مديونية إلى 380 مليار دولار.
فعراق ما بعد صدام حسين أصبح إذن يمتاز بكونه أكثر دول العالم الثالث مديونية، حيث يتجاوز ببعيد البرازيل الذي بلغت مديونيته 230 مليار دولار. إن التوافق التحكيمي الذي حصل بين مجموعة السبعة في ما يخص تحديد قيمة المديونية الخارجية للعراق يستهدف أساسا وضع اليد على ثرواته النفطية تحت ذريعة ضمان سداد مديونيته الخارجية. فتحديد هذا السقف العالي للمديونية الخارجية سيرغم السلطات العراقية الجديدة على الخضوع لمطالب الدائنين خلال عشرات السنين المقبلة حتى وإن تحدد عمر الاحتلال المباشر في الزمن. وحتى وإن تسلمت الأمم المتحدة مهمة تدبير إعادة بناء العراق، فإن سياسة هذه الدولة ستبقى في الواقع رهينة إملاءات الدائنين وإرادة الشركات النفطية الأمريكية متعددة الاستيطان.
هذه هي إذن حقيقة الاحتلال الأمريكي للعراق وديموقراطيته المزعومة، فكيف يمكن مواجهتها؟. إن شعب العراق قادر على إبداع وتحديد أشكال المقاومة. يبقى أن هناك بعض العناصر القانونية الحاسمة التي يمكن التركيز عليها في هذا المجال. فعلى العراقيين وعلى الحركة العالمية المناهضة للحرب العمل على الضغط على مجموعة السبعة التي ستجتمع في افيان شهر يونيو المقبل من اجل الإلغاء التام لمديونية العراق. وتقوم مشروعية هذا الإلغاء على أساس ضرورته لاستعادة سيادة العراق بعد العدوان الظالم الذي تعرض له خارج الشرعية الدولية. ففي إطار القانون الدولي هناك ما يسمى بمبدأ الديون البغيضة dette odieuse والتي تنطبق تماما على حالة العراق. فحسب هذا المبدأ "فإن الحكم الاستبدادي (نظام صدام حسين في هذه الحالة) إذا ما قام بإبرام ديون ليس من أجل سداد حاجيات ومصالح البلاد، وإنما من أجل تقوية نظامه الاستبدادي، ومن أجل قمع المواطنين الذين يعارضونه، فإن هذه المديونية تعتبر بغيضة بالنسبة لمواطني البلاد بأكملها. فهذه المديونية ليست إجبارية بالنسبة للأمة: إنها مديونية النظام، فهي ديون شخصية للسلطة التي عقدتها؛ فهي كنتيجة لذلك، تسقط مع سقوط هذه السلطة"(أنظر ألكسندر ساك، "آثار تحولات الدولة على مديونيتها العمومية والالتزامات المالية الأخرى"، Recueil Sirey, 1927 ).
وقد طبقت الولايات المتحدة الأمريكية هذا المبدأ مرتين على الأقل في تاريخها. ففي سنة 1898 وبعد الهجوم الناجح على البحرية الحربية الإسبانية على حدود الشواطئ الكوبية بهدف "تحرير" كوبا من الهيمنة الإسبانية، حصلت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية من مدريد على تنازلها عن ديون كوبا. وفي سنة 1923، حكمت المحكمة العليا الأمريكية بعدم قبول مطالب دائني كوستا ريكا بعد قلب نظام الدكتاتور تينوكو، معتبرة بأن المتابعة لا تلزم سوى الدكتاتور المخلوع وليس النظام الجديد. وفي سنة 2003 يجب أن لا تنجح مجموعة الثمانية الكبار المنقسمة إلى أربعة دول كانت تدعم العدوان (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإيطاليا واليابان) وأربعة دول أخرى معارضة له (ألمانيا وفرنسا وكندا وروسيا) في أن تتوافق على عدم تطبيق مبدأ "الديون البغيضة" على العراق.
فعلى القوى المناضلة أن تتجند من أجل المطالبة بإلغاء المديونية الخارجية للعراق على أساس كونها ديون بغيضة أبرمت من طرف نظام ديكتاتوري مخلوع، بالإضافة إلى المطالبة بخروج القوات المحتلة من العراق وممارسة العراقيين بأنفسهم لسيادتهم الكاملة.
خامسا: استراتيجية المواجهة
لقد سبق العدوان على العراق ظهور حركة عالمية قوية مناهضة للحرب. ورغم أن هذه الحركة لم تتمكن من إيقاف العدوان إلا أنها، وعلى خلاف ما يدعيه الكثيرون من أنها كانت بدون جدوى، حققت الكثير من المنجزات الملموسة. فقد استطاعت هذه الجماهير المحتجة في كل مكان عبر العالم من أن تجعل من العدوان الحاصل لا يستهدف العراق وحده بل يستهدف كل المتمردين على الولايات المتحدة الأمريكية والذين صرخوا بعبارة لا للحرب على العراق. من هنا انقسم العالم إلى أقلية من الرأسماليين الاستعماريين المغامرين المتواجدين في المراكز الرأسمالية الكبرى بدول الشمال، وأغلبية شعبية ساحقة رافضة للإمبراطورية المالية التي يتم تشيدها على حسابهم وهم يتواجدون عبر مختلف بقاع العالم.
لا يتكون التحالف الدولي الذي ساند واشنطن في عدوانها على العراق إلا من 46 دولة من بين 191 دولة عضو في الأمم المتحدة، وهي بذلك لا تشكل سوى 19 % من مجموع سكان العالم. لكن أغلبية سكان هذه الدول كانوا مناهضين للعدوان.
ما هي الآن النتائج التي استطاعت الحركات المناهضة للحرب تحقيقها:
1 –كان بإمكان جورج بوش في غياب هذه الحركة أن لا يسعى للحصول على ترخيص من الأمم المتحدة لتنفيذ عدوانه على العراق، الشيء الذي لم يكن ليسمح بعودة مفتشي الأسلحة الدوليين إلى العراق.
2 – لقد تركت هذه النتيجة الأولى الوقت الكافي لحركات السلام الدولية للاستمرار في تنظيم نفسها وتحقيق المزيد من التعبئة.
3 – أنهت حركة مناهضة العدوان على العراق أمل جورج بوش في الحصول على شرعية دولية من خلال الضغط على الدول داخل مجلس الأمن لتمرير قرار شن العدوان.
4 – تمكنت حركة مناهضة الحرب التي خرجت يوم 15 فبراير 2003 من منع تحقيق الأغلبية اللازمة المساندة لنوايا واشنطن العدوانية.
5 –دفعت ضغوطات الشارع في كل من ألمانيا وفرنسا كل من شرودر وجاك شيراك إلى عدم التنازل للولايات المتحدة الأمريكية داخل مجلس الأمن. نفس الشيء يمكن قوله بالنسبة لكل من المكسيك والباكستان والشيلي الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن.
6 – دفع موقف الرأي العام البريطاني المناهض للحرب كاتب الدولة في الشؤون الخارجية جاك سترو إلى التصريح بأن لا سبب يدعو إلى الاشتراك في عمل عسكري ضد سوريا أو إيران.
7 – بلغت المعارضة الجماهيرية في إسبانيا المناهضة لموقف خوسي ماريا أزنار المساند لجورج بوش نسبة 91 % من السكان الشيء الذي يرخي ضلالا قاتمة على مستقبله السياسي خلال انتخابات السنة المقبلة.
إن الحركة العالمية المناهضة للحرب من شأنها القيام مستقبلا بالكثير من النضالات لإفشال المخططات الاستعمارية للولايات المتحدة الأمريكية. ونظرا لأن الحروب المستمرة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية هي عبارة عن ترجمة حرفية لمصالح اليمين المتطرف والمصالح الرأسمالية العالمية فإن مساحات النضال في المستقبل يجب أن تستهدف عددا من مقومات المنظومة الرأسمالية العالمية .
فالنضال الذي يجب أن يؤدي إلى إفشال المشروع الإمبريالي الأمريكي متعدد الأشكال بطبيعة الحال. فهو يتطلب نضالا ديبلوماسيا عبر الدفاع عن القانون الدولي والمواثيق الدولية، ونضال عسكري عبر إعادة تسليح كافة دول العالم لمواجهة مشاريع العدوان المبرمجة لواشنطن – وعدم نسيان أبدا بأن الولايات المتحدة قد استعملت الأسلحة النووية عندما كان لها احتكار هذا السلاح وأنها امتنعت عن ذلك الاستعمال عندما لم تعد تحتكره. ثم نضال سياسي عبر العودة إلى الفعل الجماهيري الشعبي لكونه الوحيد القادر على تأسيس قوة موازنة في مواجهة التحكم المطلق للرأسمال على الصعيد العالمي.
كما أن النجاح في هذا الصراع سيبقى رهينا بالقدرة على تحرير الأفكار من الأوهام الليبرالية والعولمة والخوصصة ونظام السوق ... التي يستند عليها الغزو الإمبريالي الرأسمالي لتفكيك الدول والسيطرة على مقدراتها الاقتصادية. فعلى المستوى الواقعي لن يكون هناك أبدا اقتصادا ليبرالي معولم، ومع ذلك يحاول اليمين المتطرف إقناعنا بهذا الوهم، ويستمر في محاولته تلك بجميع الوسائل، مستعينا في ذلك بخطاب البنك الدولي الذي يعمل كبوق دعاية لإملاءات عصابة واشنطن التي تستهدف الهيمنة المطلقة على العالم.