اليسار الماركسي اللينيني ومقاومة الامبريالية في الظرف الراهن
اليسار الماركسي اللينيني ومقاومة الامبريالية في الظرف الراهن
نص مداخلة الرفيق حمه الهمامي الناطق الرسمي باسم حزب العمال في الندوة التي نظمها حزب "النهج الديمقراطي" المغربي يومي 30 و31 مارس 2007.
1- في مطلع التسعينات عندما انهار الاتحاد السوفياتي وسائر بلدان الكتلة الشرقية، وفي غمرة احتفاء القوى الرأسمالية والامبريالية الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية بهذا الحدث الهائل، تمّ الإعلان أن "نظاما عالميا جديدا" سيحلّ محل "النظام القديم " ، نظام القطبين المتصارعين على الهيمنة على العالم وأن الأزمات الاقتصادية والصراعات الطبقية وسباق التسلّح وكذلك الثورات والحروب لن يكون لها مكان في "النظام العالمي الجديد" الذي سيكون "واحة سلام وحريّة وديمقراطية وانسجام" يسود داخلها "النمو والازدهار والتوزيع العادل للثروات ". وسرعان ما ظهرت في هذه الأجواء بعض النظريات معلنة "نهاية التاريخ " ومعها "الانتصار النهائي" للنظام الرأسمالي الليبرالي الذي سيكون "آخر نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي تعرفه البشرية في تاريخها" لأنه "الأنسب لها" و" الأقدر على إشباع حاجات الأفراد الماديّة والمعنويّة" بين ما اعتبرت الاشتراكية "قوسا" أغلق أو "انحرافا" في مسار التاريخ قوّم.
لكن خمس عشرة سنة من عمر هذا النظام العالمي الجديد كانت كفيلة لإبراز زيف تلك الادعاءات فقد تبيّن للعمال والشعوب في كافة أنحاء العالم بما في ذلك في البلدان الرأسمالية المتقدمة أو الكبرى أن "النظام العالمي الجديد" بمحتواه المتمثل في "النيوليبرالية المعولمة" لا يعني شيئا غير اشتداد قبضة الاحتكارات الكبرى متعددة الجنسيات والطغم المالية ومن ثمّة حفنة من البلدان الرأسمالية والمؤسسات الدولية الخاضعة لها (البنك العالمي، صندوق النقد الدولي، المنظمة العالمية للتجارة...) على مصائر العالم. وقد زادها انهيار الاتحاد السوفياتي صلفا وغطرسة وأطلق مخالبها في كل الاتجاهات، وهو ما تولد عنه تكثيف غير مسبوق لوتائر الاعتداء على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للعمال والكادحين ونهب البلدان التابعة وإخضاعها وإثارة للحروب والنزاعات العرقية والطائفيّة وتطور قوى اليمين المتطرّف المعادي للحريات والديمقراطية والعنصري وعودة إلى الحروب الاستعمارية على الشاكلة القديمة وتدمير الثقافات المحليّة والطبيعة والمحيط وتهديد مصير الأجيال القادمة من الإنسانية .
2- كان من نتائج النظام العالمي الجديد أن تعمّقت الهوّة على الصعيد الدولي بين قطبي الثروة والفقر ناهيك أن الـ20% من الناس الأكثر غنى في العالم استأثروا بـ86% من الناتج العالمي الخام عام 1998 بينما لم يتجاوز نصيب الـ20% الأكثر فقرا الـ1%. وفي نفس السياق انتقل الفارق في المداخيل على المستوى العالمي من 1 إلى 30 سنة 1960 إلى 1 إلى 60 سنة 1990 ثمّ إلى 1 إلى 74 سنة 1997. ومن المؤكد أن كل هذه النسب قد تفاقمت خلال العشرية الأخيرة باعتبار أنه لم يطرأ أي جديد لمواجهة الاختلالات الحاصلة والحدّ منها. ولا يمكن أن تكتمل الصورة إلاّ إذا أضفنا بعض الأرقام الأخرى. من ذلك مثلا أن نصيب بلدان "الجنوب" (أي البلدان التابعة) من الثروة العالمية نزل في ما بين 1980 و1989 من 29% إلى 24.4% رغم أن عدد سكان تلك البلدان زاد ملياري نسمة خلال هذه الفترة، كما أن 54 % من سكان العالم يعيشون بأقل من دولارين في اليوم الواحد و22% منهم بدولار واحد وهو الحد الأدنى المطلق للفقر، هذا دون ذكر معدلات الأميّة والبطالة المفزعة. أخيرا وليس آخرا لا بد من الإشارة إلى أن الإنتاج السنوي للمجموعة البشرية أصبح منذ سنوات عديدة يغطّي 110% من حاجات سكان المعمورة أي ما يكفي وزيادة لسدّ حاجات الإنسانية جمعاء. وهو ما يعني أن الفقر والجوع في العالم ليس سببه نقص الإنتاج ولكن سيطرة حفنة من الأثرياء على ثمرة مجهودات المليارات من البشر لأن هذه الحفنة تتحكم في وسائل الإنتاج الرئيسية وبالتالي في توزيع تلك الثمرة.
3- إن اشتداد احتكار الثروة في "النظام العالمي الجديد" مرتبط أشدّ الارتباط باشتداد سيطرة الاحتكارات الرأسمالية على الاقتصاد العالمي. ففي منتصف التسعينات من القرن العشرين مثلا، أي بضع سنوات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت 4 آلاف من الاحتكارات ذات الأنشطة العالمية و250 ألف فرعا من فروعها، علما وأن 1% فقط من الاحتكارات يسيطر على 30% من الإنتاج العالمي، كما أن 5 احتكارات فقط لها أنشطة صناعيّة تستأثر بما بين 50% و70% من السوق العالمية في مجال نشاطها (محروقات، صناعة الصلب، إلكترونيك، طيران، وسائل اتصال...). ومن المعلوم أن عمليات "الاندماج " (fusions) والشراء (acquisitions) فاقمت ظاهرة الاحتكار وهو ما أدى إلى أن حفنة من مجموعات رأس المال أصبحت تجلس على قمّة الاقتصاد في البلدان الرأسمالية المتقدّمة وبالتالي في العالم.
إنّ اشتداد قبضة الاحتكارات على الاقتصاد العالمي ليس فيه أي منفعة لا لهذا الاقتصاد بشكل عام ولا حتّى لاقتصاديات البلدان الصناعية المتطورة التي تعاني من الركود ومن الأزمات. إن الاحتكارات محكومة بالبحث عن الرّبح الأقصى وهي لا تحقق ذلك باستثمارات جديدة منتجة، بل تفضّل كسب الأرباح بكل الوسائل حتّى عن طريق تدمير القوى المنتجة كما بيّنت ذلك الأزمات التي ضربت خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة كلاًّ من روسيا والمكسيك والأرجنتين وعدد من بلدان جنوب آسيا، أو عن طريق المضاربات المالية، ناهيك أن كل دولار يوظّف في الإنتاج أصبح يقابله ما بين 20 و50 دولارا توظف في تلك المضاربات، أو عن طريق تكثيف وتائر استغلال العمال والشعوب وتوسيع حركة نقلا لثروات من "الطبقات السفلى" إلى "الطبقات " العليا" في نفس البلد ومن البلدان التابعة إلى البلدان المتطورة وأخيرا عن طريق ابتلاع المؤسسات الصناعية والفلاحيّة والتجارية والمالية صغيرة كانت أو كبيرة ومزيد مركزة الاحتكار.
وبعبارة أخرى فإنّ اشتداد سيطرة الاحتكارات لم تفد الاقتصاد العالمي وهو ما يجعل الوضع بعيدا كل البعد عن الأماني التي أطلقها قادة البلدان الامبريالية إثر سقوط الاتحاد السوفياتي وتوابعه.
4- على صعيد آخر لا ينبغي الاعتقاد أن سيطرة الاحتكارات على الاقتصاد العالمي تتمّ في جوّ من "الوئام" و "الانسجام" و"التفاهم"، فخلافا للتصريحات والإعلانات المضلّلة، فإن انهيار الكتلة الشرقية، كان من نتائجه المباشرة دخول الاحتكارات الرأسمالية والبلدان الامبريالية في صراع قويّ من أجل إعادة اقتسام الأسواق ومناطق النفوذ في العالم. وقد جرى هذا الصراع وما زال يجري في اتجاهين اثنين، فهو من جهة صراع بين الشركات والمجموعات الاحتكاريّة الرأسمالية لإزاحة بعضها البعض من تلك الأسواق والمناطق، وهو من جهة أخرى صراع بين البلدان الامبريالية من أجل الحصول على مركز القوّة المهيمنة في العالم .
ولا يعني هذا الصراع بين الاحتكارات الرأسمالية والبلدان الامبريالية بلدان شرق أوروبا سابقا فحسب بل إن الأمر يهمّ مجالا أوسع بكثير من هذه البلدان. لقد امتد الصراع إلى كافة المناطق "الجالبة للاهتمام "أي التي تكتسي أهميّة اقتصاديّة أو إستراتيجية راهنا ومستقبلا (الشرق الأوسط، آسيا الوسطى، بلاد البلقان، جنوب شرق أوروبا، إفريقيا الوسطى والشماليّة...).
ومن الملاحظ أن كل قوّة من القوى الامبريالية المعنيّة لا تعمل على حماية أسواقها ومناطق نفوذها التقليديّة فحسب بل تعمل أيضا على دخول "بيوت" القوى الأخرى و"حدائقها الخلفيّة" (دخول الولايات المتحدة الأمريكية إلى البلدان الأوروبية ومناطق نفوذها في إفريقيا، دخول ألمانيا بشيء من الكثافة إلى بلدان أمريكا اللاتينية وتدعميم استثماراتها في الولايات المتّحدة، دخول الصين بقوّة في الفترة الأخيرة حلبة الصراع من أجل الأسواق ومناطق النفوذ في إفريقيا وبعض البلدان الشرق أوسطيّة، الخ.)
ورغم جميع قرارات "العولمة" والمزاعم التي يُروّج لها "النظام العالمي الجديد" مثل "التجارة الحرّة" و"التنافس السلمي" و "التنمية في إطار الاندماج والتقاسم" فإن الدول والحكومات تحشر أنفها في الصراع القائم وتستخدم وسائل غير اقتصادية وغير شرعيّة لدعم شركاتها الاحتكارية (تدبير انقلابات عسكريّة، ضغط على حكومات للحصول على عقود وامتيازات ...). كما أن هذه الدول والحكومات لا تتوانى عن اتخاذ إجراءات حمائية، وهي منشغلة أكثر فأكثر بمصالح بلدانها وكيفية الحفاظ عليها في وجه البلدان الأخرى أي أنها، رغم كثرة الحديث عن "إلغاء الحدود" في وجه الرساميل والسلع، ظلّت تعمل من أجل مصالحها وأهدافها القوميّة وهو ما أدى إلى انشِقاقات في صلبها وخلق أرضيّة مناسبة لظهور بوادر استقطاب في صفوفها.
5- إن "النظام العالمي الجديد"، رغم أنه تشكل باعتباره النظام الموحّد لرأس المال، الذي فرضته طبقات رأس المال والبلدان الامبريالية على الطبقات الكادحة والشعوب، فإن الامبريالية الأمريكية المعتدّة بدورها الهام في سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية إثر صراع امبريالي ضار من أجل مناطق النفوذ دام عدة عقود وبقوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية تعتبر النظام الجديد بمثابة نظام "الامبراطورية الأمريكية" التي يطرح على القوى الأخرى أن تذعن لها. لذلك فإنها الولايات المتحدة ما انفكت تسعى إلى الانفراد بالهيمنة وبسلطة القرار في شؤون العالم، واتخذت من أجل ذلك، وخصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 التي وفرت لها ذريعة لتنفيذ مخططاتها الهيمنية بأكثر صلفا وعدوانية، الخطوات التي تكفل لها "حرية التحرك" مثل الإعلان عن الحق في " الحرب الوقائية" والحق في "السبق إلى استخدام القوة النووية"، ولم تول أي اعتبار لمعارضة الأمم المتحدة وأغلبية دول العالم للحرب على العراق.
كما أن الولايات المتحدة لم تكتف باحتلال أفغانستان والعراق، بل إنها فتحت قواعد عسكرية في كافة مناطق العالم الاستراتيجية (132 قاعدة) بهدف مراقبة المناطق الغنية بالمواد الأولية والطاقة (الشرق الأوسط، آسيا الوسطى، المحيط الهادي...) ووضعها تحت إشرافها كي تتحكم لاحقا في الأسعار والتجارة. وبدا واضحا أن الامبريالية الأمريكية تتحرك وفق خطة تتمثل في مضاعفة الضغوط على البلدان التابعة من جهة وعزل البلدان المنافسة عن المناطق الهامة جدا في العالم من جهة ثانية وامتلاك السبق في الهجوم عند الاقتضاء من جهة ثالثة. وهو ما يؤكد الطابع الديماغوجي والشكلي لواشنطن في "التفاهم" و"التشاور" مع البلدان الامبريالية الأخرى وهو ما يفسر كونها لم تكتف في السنوات الأخيرة بإعادة نشر قواتها في كافة أنحاء العالم بل رفعت من ميزانيتها العسكرية كي تبلغ حوالي 450 مليار دولار وهي ميزانية تفوق ما تخصصه كافة الدول الكبرى الأخرى لميزانيتها العسكرية. كما أنها مركزت مؤسساتها التكنولوجية لتكون أكثر جدوى وفاعلية.
6- إن سلوك الولايات المتحدة الأمريكية هذا غذى التنافضات بينها وبين القوى الكبرى الأخرى. وتجلى ذلك على مستوى الاتحاد الأوروبي الذي يمثل القوة الاقتصادية الكبرى في وجهها. فألمانيا وفرنسا اللتان تمسكان بزمام الأمور في هذا الاتحاد تعملان على تحقيق مشروع "الجيش المستقل للاتحاد الأوروبي" كما أنهما أعلنتا عن إقامة برنامج فضائي بالتحالف مع الصين، وكانتا، كما هو معلوم، عارضتا حرب العراق، وهما لا يتوانيان، كلما اختلفتا مع إدارة بوش في الاقتراب من روسيا . وليس خافيا أن ألمانيا وفرنسا تحدوهما نية الهيمنة على الاتحاد الأوروبي وإقامة قواعد عسكرية في الأماكن الاستراتيجية في العالم، رغم ما يشق هذا الاتحاد من تناقضات، إذ لا ينبغي نسيان أن للولايات المتحدة مواطئ قدم في الاتحاد الأوروبي تمثلها بالخصوص أنجلترا وبعض بلدان أوروبا الشرقية الملتحقة حديثا بالاتحاد الأوروبي. ومن جهة أخرى فإن اليابان التي تمثل القوة الاقتصادية الكبرى الأخرى، لا يخفى تحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية في الساحة الدولية، ولكن اهتمامها بما يجري بعيدا عن حدودها (الشرق الأوسط خصوصا) ما انفك يتنامى. كما أنها أصبحت لا تخفي رغبتها في تطوير قدراتها العسكرية، وفي التخلص من القيود التي فرضت عليها إثر الحرب العالمية الثانية وهو ما يفسر سعيها إلى مراجعة بعض بنود دستورها . وإلى ذلك فإن روسيا ما انفكت تعمل على أكثر من واجهة، من جهة، إصلاح أوضاعها الاقتصادية، ومن جهة أخرى تعصير قوتها العسكرية. أما الصين فهي تصارع من أجل التخلص من النهب الذي تتعرض لها من الشركات والدول الرأسمالية الصناعية وتعمل جاهدة، كقوة رأسمالية صاعدة، على التسلل إلى مناطق النفوذ في العالم وتطوير قدراتا العسكرية ناهيك أنها رفعت هذه السنة من ميزانيتها العسكرية بنسبة هامة أقلقت منافسيها في المنطقة وأثارت انتقادات واشنطن.
إن ما نريد تأكيده عبر استعراض أوضاع مختلف القوى الامبريالية الكبرى وخصوصا استمرارها في سباق التسلح وتعصير الجيوش وإعادة نشرها في مختلف المناطق، هو أن العالم ليس في وضع أفضل مما كان عليه في مطلع التسعينات. فالقوى الامبريالية الحاضرة في الساحة الدولية، لئن هي لم تبلغ مرحلة متقدمة من الصراع في ما بينها، فإنها على الأقل، وهو أمر ليس في مصلحة أي طرف منها اليوم، تباعدت كثيرا مقارنة مع الوضع الذي كان قائما عند إعلان قيام "النظام العالمي الجديد"، ولا نخالها إلا ستتباعد أكثر مع تطور علاقات القوى التي تدفع في اتجاهه طبقات رأس المال دفاعا عن مصالحها الخاصة .
7- إن تاريخ البلدان الامبريالية وواقعها الحالي يثبتان أنها لا تقنع بـ"الوفاق"، بل على العكس من ذلك تنزع نحو تشكيل أقطاب متنافسة. ولا يمكن الاغترار اليوم بالاصطفاف الظاهر وراء الولايات المتحدة، فكل طرف مصطف اليوم وراءها يعمل بكل الوسائل على "تحسين وضعه " وكسب الأدوات التي تخول له الخروج على الصف في يوم من الأيام. وإذا ما استمر الوضع على ما هو عليه اليوم من تنافس ونزاعات فإن مآل "النظام العالمي الجديد" لن يكون إلا التفكك، كما أن المؤسسات الدولية التي نراها قائمة اليوم، والتي تضم داخلها أكبر القوى الامبريالية (البنك العالمي، صندوق النقد الدولي، المنظمة العالمية للتجارة، الاتحاد الأوروبي، الحلف الأطلسي ...) ستنهار في لحظة من اللحظات أمام استقطابات جديدة تكون نتيجة لسلسلة من النزاعات والصراعات والحروب المحلية. إن المصالح المتعارضة للدول الرأسمالية الكبيرة ستدفع بها حتما، رغم تواصل العولمة، نحو تشكيل أقطاب متعارضة من شأنها أن تسرّع بوتيرة التنافس والصراعات التي تقابل بعضها ببعض. وإذا كانت هذه الأقطاب لم تتشكل اليوم فذلك ليس بالأمر الغريب، فالدول الصناعية الكبرى لم تعزز قواها بما فيه الكفاية، والنزاعات بين المجموعات الاحتكارية لم تبلغ بعد درجة عدوانية. ولكن تسارع وتيرة التطور اللامتكافئ الذي يحكم سير تلك الدول، من شأنه أن يعجل حتما بمسار تشكّل كتل متعادية من بينها. وبالطبع فإنه من السابق لأوانه بل من الخطأ الادعاء بأن الاستقطابات السياسية العسكرية الجارية اليوم هي استقطابات الغد . ولئن كان أيضا من الصعب إن لم نقل من المستحيل توقع كيفية تطور تلك الاستقطابات، فإن الأكيد أن الأمور تتطور باتجاع القضاء على نظام القطب الواحد وتشكيل كتل امبريالية متعارضة وهذا ما يعني أن القوى الرأسمالية الكبرى تخوض صراعا من أجل إعادة اقتسام العالم وأن تهديد حرب شاملة يتنامى، فتاريخ البلدان الامبريالية كان دائما تاريخ الصراع من أجل الأسواق ومناطق النفوذ كما كان تاريخ الحروب المدمرة لمحاولة حسم ذلك الصراع في مرحلة محددة من مراحل تطوره.
8- إن ما ميز الخمس عشرة سنة الأخيرة، إلى جانب معاودة القوى الرأسمالية الكبرى الصراع حول الأسواق ومناطق النفوذ هو
هجوم رأس المال على الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة . فقد عرفت الطبقة البورجوازية والحكومات التي تصرف شؤونها في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان كيف تستعمل الظروف الناجمة عن سقوط المعسكر الشرقي، وخصوصا تراجع الحركة العمالية وحركة الشعوب التحررية . ولا بد لنا من أن نلاحظ أن الثقل الأساسي لذلك الهجوم المنسق عالميا يتم فرضه على البلدان التابعة وعمالها وشعوبها. فقد كان ميزان القوى مائلا بالكامل وبصورة غير مسبوقة لصالح الاحتكارات والبلدان الرأسمالية المتطورة، لذلك فإن ما كان مطلوبا من البلدان التابعة هو أن تقبل بأن تصبح مجرد مستعمرات اقتصادية ومالية فيقع نهب كامل ثرواتها. وهذا ليس من المبالغة في شيء، فهذه البلدان تتعرض لعملية استعباد مطلق. فجميعها تقريبا فقد خلال الخمس عشرة أو العشرين سنة الأخيرة على الأقل، معظم مؤسساته الاقتصادية العمومية، التي كانت ترمز إلى وجوده الوطني. ولا تتوانى البلدان الرأسمالية الكبرى بزعامة الولايات المتحدة عن استعمال شتى الطرق لإخضاع البلدان التابعة للنهب وكسر مقاومتها. فبالإضافة إلى الضغوط المالية والاقتصادية المباشرة أو عبر المؤسسات المالية النهابة، تستعمل تلك البلدان الحصار الاقتصادي والعقوبات والانقلابات بل إنها لا تتورع عن شن حروب مدمرة لفرض سيطرتها على مصائر الشعوب كما حصل في يوغسلافيا وأفغانستان والعراق. وهي لا تتوانى أيضا عن إثارة الفتن الداخلية وتغذيتها كما هو الحال في السودان والصومال. وهي تتحرش ببلدان أخرى استعدادا للاعتداء عليها كما هو الحال بالنسبة إلى إيران وسوريا. وليس خافيا أن النفط وراء معظم الاعتداءات والتهديدات.
9- من ناحية أخرى يعيش عمال البلدان التابعة أوضاعا لا تختلف كثيرا عن أوضاع بلدانهم. فالحقوق الاجتماعية وتكاليف قوة العمل والأجور هناك هي أدنى بكثير من نظيرتها في البلدان المتطورة، ومع ذلك فقد فرضت البورجوازية العالمية على تلك البلدان، وخصوصا البلدان التي حققت فيها الشغيلة بعض المكاسب سواء كانت مكاسب أممية للطبقة العاملة أو مكاسب نضال شعوب تلك البلدان، أن تطوّع تشريعاتها كي تنسجم في ذلك مع البلدان الأكثر تخلفا.
على أن الهجوم لم يستهدف شعوب البلدان التابعة وعمالها فحسب، بل استهدف أيضا عمال البلدان المتطورة، على نحو واسع. فمنذ ما يزيد عن العشر سنوات والبورجوازية تفرض على العمال تصفية الحق في الشغل، وتفرض مرونة توقيت العمل ونظام التأجير وتصفية أنظمة الضمان الاجتماعي بما يجعلها قابلة لكي تفتح أمام الأسواق وتفرض التطويل المطلق لساعات العمل والتخفيض الأقصى لمنح البطالة وتأخر سن التقاعد وتقنين أشكال الشغل الهشة (التشغيل بعقود...) وأخيرا تخفيض تكاليف قوة العمل.
إن هذا الهجوم يمثل تصفية معممة للمكاسب الطبقية أو الوطنية في نضال العمال ضد رأس المال منذ حوالي قرن ونصف ونضال الشعوب ضد الامبريالية منذ حوالي قرن، بما يعني العودة بالعمال إلى الظروف الوحشية التي عاشوها في ظل رأسمالية القرن التاسع عشر وبالشعوب إلى ظروف الاستعمار المباشر . وإذا لم يقع التصدي لهذا الواقع لإعاقة رأس المال والامبريالية فإنها يُخشى أن يتزايد هذا الهجوم بصورة غير محدودة.
10- حين تـَعمّمَ هجوم رأس المال في مطلع تسعينات القرن الماضي، كانت الطبقة العاملة في كل بلد أو على الصعيد العالمي، تعيش أدنى مستوياتها المعنوية والتنظيمية. أما شعوب البلدان التابعة وبصرف النظر عن بعض الاستثناءات، كانت واقعة تحت جاذبية مغالطات "العولمة" و"النظام العالمي الجديد"، التي زرعت فيها أوهاما. ولكن كادحي جميع البلدان، بدءا بالطبقة العاملة، لم يبقوا طويلا دون رد فعل خصوصا وأن الآمال التي حركتها "العولمة" كانت تتبخر كي تترك مكانها تدريجيا للخيبة.
ويمثل عام 1995 منعرجا في نضال الطبقة العاملة العالمية والشعوب . فقد أحيت هبة عمال فرنسا في تلك السنة الثقة الطبقية في نفوس العمال، كما أنها شكلت إلى جانب تمرد "شياباس" في المكسيك بديلا أمميا لمشاعر الإحباط المتفشية في أوساط المثقفين، ومنذ ذلك الوقت تطورت مظاهر المقاومة في كافة البلدان الأوروبية والولايات المتحدة واليابان، لتشكل عوامل أولى لصد هجمات رأس المال والحد منها.
أما في ما يخص البلدان التابعة فإن حركة العمال ظهرت بصورة مبكرة مقارنة بنظيرتها بالبلدان المتطورة، بالنظر إلى ظروف الحياة الصعبة . فمنذ 1989 شهدت العديد من البلدان التابعة (البرازيل، الهند، أندونيسيا، تركيا، ألإكوادور، البنين، بوركينا فاسو...) نضالات عمالية وشعبية واسعة. وقد أخذت بعض تلك النضالات طابعا سياسيا واضحا أدى إلى إسقاط حكومات ودكتاتوريات في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا
ولم تقتصر نضالات شعوب البلدان التابعة على الإضرابات والمظاهرات والاعتصامات الضخمة، بل تعدتها إلى أشكال المقاومة المسلحة. فقد انطلقت في خريف سنة 2000 الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وثار سكان فنزويلا عام 2002 ضد الانقلاب الذي دبرته الولايات المتحدة ضد الرئيس المنتخب "شافيز" ورفع الشعب العراقي السلاح في وجه الاحتلال الأمريكي الأنجليزي، واستعادت المقاومة الأفغانية ضد الاحتلال الأطلسي نشاطها، وانتصرت المقاومة اللبنانية على الوحش الصهيوني في صائفة 2006 وواصل التامول في النيبال والأكراد في تركيا المقاومة ضد مضطهديهم. وبصورة عامة فإن كافة النضالات الجارية في البلدان التابعة ضد التدخلات والاضطهادات التي يعمد إليها الامبرياليون تمثل دون أدنى شك نضالات في غاية من الأهمية . كما أن النضال ضد النزعة العسكرية والتدخل المسلح والاحتلال الذي يجمع ملايين العمال في البلدان الرأسمالية المتطورة هو نضال هام يسجله التاريخ لما يتميز به من خصائص سياسية وأممية.
وخلاصة القول يمكن رصد الاتجاهات الكبرى التالية لنضالات العمال والشعوب المضطهدة في الوقت الراهن:
أولا : حركات مقاومة مسلحة تخوضها شعوب أو اقليات في البلدان الرازحة تحت الاحتلال المباشر للبلدان الامبريالية أو الكيان الصهيوني أو تحت هيمنة أنظمة رجعية تكرس هيمنة أكثريات قومية أو دينية أو ثقافية.
ثانيا : حركات شعبية واسعة مناهضة للامبريالية وعملائها عبرت عن نفسها من خلال العمليات الانتخابية (أمريكا اللاتينية خاصة) التي أوصلت إلى السلطة حكومات وطنية تسعى إلى حماية مصالح بلدانها وشعوبها.
ثالثا : حركات جماهيرية وإضرابية واسعة في البلدان المتطورة والبلدان التابعة على حد السواء من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحريات الديمقراطية، وقد نجحت هذه الحركات أحيانا في إسقاط حكومات، وتبلورت في علاقة بها منتديات اجتماعية قارية وعالمية ونشطت منظمات حقوق الإنسان والجمعيات والهيئات النسائية والثقافية.
رابعا : مظاهرات جماهيرية مناهضة للعسكريتارية والحرب خصوصا في البلدان المتطورة. وقد أحيت هذه التحركات الحركة من أجل السلم وغيرها من المنظمات والحركات المناهضة للحرب.
11- إن من أهم المميزات التي طبعت سلوك الاحتكارات والبلدان الامبريالية خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة اقتران دخولها في صراع من أجل إعادة اقتسام الأسواق ومناطق النفوذ وهجومها الاقتصادي والاجتماعي على الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة بتفاقم طابعها الرجعي في المجال السياسي. وهذا أمر مفهوم، فالاحتكارات والبلدان الامبريالية كان من الضروري لها، من أجل أن تنجح في تحقيق أهدافها، أن تدوس مبادئ "الحرية" و"الديمقراطية" و"السلم". كما كان من الضروري لها أن تشدد الاضطهاد وتحوله إلى "خبز يومي" للأفراد والجماعات والطبقات الكادحة والشعوب المضطهدة، وإلا استحال عليها إخضاعهم لمخططاتها وغاياتها الرجعية. وقد استغلت الامبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة أحداث سبتمبر 2001 لتعميم هذا الاضطهاد وتعميقه على مستوى المعمورة.
وتجلى اشتداد الطابع الرجعي للامبريالية على الصعيد السياسي في مظهرين أساسيين، الأول يتمثل في المكانة التي أصبح يحتلها العنف في تحقيق أهداف الاحتكارات والبلدان الامبريالية وهو جلي من خلال تفاقم النزعة العسكريتارية وتواتر الحروب العدوانية ناهيك أن الولايات المتحدة خاضت خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة أكثر من 10 حروب في مختلف أنحاء العالم لعل أفظعها وأوحشها الحرب الجارية حاليا على الشعب العراقي. وهو جلي أيضا في خضوع العلاقات الدولية أكثر فأكثر لمنطق التهديد والعنف وإرهاب الدولة وسيادة قانون الغاب وعدم الالتزام بأبسط القوانين والقيم الأخلاقية وفي تغذية النزاعات العرقية والطائفية والقومية والتحريض على جرائم الإبادة الجماعية أو المشاركة المباشرة فيها.
أما المظهر الثاني فيتمثل في الدوس على الحرية وعلى الديمقراطية الذي ما انفك يتفاقم. فمظاهر غطرسة الاحتكارات والبلدان الامبريالية ليست مقتصرة على الخارج وإنما هي تكرس داخل البلدان الامبريالية ذاتها من خلال الهجوم المستمر على الحقوق المدنية والسياسية للأفراد والجماعات والأقليات واستصدار قوانين قمعية جديدة تحت غطاء مقاومة الإرهاب واشتدادد الطابع البوليسي للدولة بل وتحوّل الدولة البوليسية إلى نموذج، وتحويل البرلمانات الليبرالية إلى أوكار تعشش فيها التيارات الفاشية والعنصرية وتنتعش. وبشكل عام فقد ظل الفارق بين الحكومات الاشتراكية الديمقراطية واليمينية الليبرالية واليمينية المتطرفة يتقلص باستمرار . وهو نفس ما يمكن قوله بالنسبة إلى الفارق بين أنظمة الاستبداد في البلدان التابعة وبين الأنظمة الليبرالية في البلدان المتطورة وهو ما أسعد أنظمة الاستبداد وأثبتها في مراكزها. إن لينين كان على صواب حين أكد أن الامبريالية هي الرجعية على طول الخط في المجال السياسي.
إن تعمق الطابع الرجعي للرأسمالية والامبريالية يتضح في مجال آخر أيضا وهو
المجال الإيديولوجي . فالنظريات التفوقية والعنصرية التي تحتقر عرق الآخر وثقافته ودينه أصبحت هي السائدة رغم كل المساحيق التي مازالت الاحتكارات والبلدان الامبريالية تزين بها النظام البورجوازي. وتمثل نظرية "صدام الحضارات" التي تؤكد تفوق الحضارة المسيحية على بقية الحضارات وتحدد الإسلام والمسلمين عدوا مباشرا نموذجا لتلك النظريات. كما أن
الظلامية أصبحت هي الأخرى من أهم المميزات الإيديولوجية للرأسمالية والامبريالية اليوم، فقادة أكبر دولة امبريالية في التاريخ على الإطلاق، وهي الولايات المتحدة الأمريكية يخوض رئيسها وقادتها حربا على الشعوب المضطهدة باسم "رسالة ربانية" مزعومة وهم يقسّمون العالم إلى "عالم الخير" و"عالم الشر".
وأخيرا وليس آخرا فإن هذا الطابع الرجعي يتجلى في معاداة الاحتكارات والبلدان الامبريالية للثقافة، وعملهما الدائم على التدمير المعنوي للعمال والشعوب، على تحويل الجماهير التي تتحرك في إطار أمة أو شعب أو طبقة إلى جمهور فاقد لأي مرجعية قيمية عن طريق كوسموبوليتية متفسخة تهدف إلى تحويل الإنسان إلى "مجرد حيوان مستهلك".
12- إن كل ما ذكرناه من احتدام الصراع بين الاحتكارات والبلدان الامبريالية وهجوم على العمال والشعوب المضطهدة وتفاقم الفجوة بين قطبي الثروة والفقر في البلد الواحد وعلى الصعيد العالمي وتكاثر مؤشرات التأزم وعجز الاحتكارات على حل مشكلات النظام الرأسمالي وتطوير القوى المنتجة وتفاقم سباق التسلح والنزعة العسكرية وتواتر الاعتداءات والحروب واشتداد قمع الحريات ودوس الديمقراطية وفي الآن ذاته نهضة الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة من جديد للدفاع عن حقوقها والتعبير عن طموحاتها بأشكال مختلفة تتراوح بين المقاومة المسلحة والهبّات الجماهيرية، مرورا بالمعارك الانتخابية، كل هذا يدحض كل ما رُوّج ويروّج عن "النظام العالمي الجديد" وعن "العولمة الرأسمالية" فلا الازدهار تحقق ولا الصراعات الطبقية انتهت ولا الحروب وضعت أوزارها ولا المساواة بين الشعوب والأمم تمّت ولا الديمقراطية تعمّمت، ولا السلم ساد العالم، بل العكس هو الذي حصل على كل الأصعدة.
إن مجرى الأحداث يبين أن "النظام العالمي الجديد " منظور إليه من زاوية منطلقاته وأهدافه والوسائل والأساليب المتبعة لتحقيق هذه الأهداف،
إنما هو صيغة جديدة من صيغ هيمنة الامبريالية في مرحلة تعفنها القصوى المصحوبة بتراجع الحركة العمالية وحركة الشعوب التحررية مما يجعلها، أي الامبريالية، أكثر بربرية وأكثر وحشية وعدوانية . ومن البديهي أن هذا لا يوفر للإنسانية مناخا للتقدم والرقيّ والتعاون والسلم، بل إنه يوتـّر مختلف التناقضات الأساسية لعصرنا بدءا بالتناقض بين رأس المال والعمل الذي يمثل التناقض الجوهري للعصر ووصولا إلى التناقض بين الاحتكارات والبلدان الامبريالية من جهة والشعوب المضطهدة من جهة ثانية والتناقض بين المجموعات الاحتكارية والبلدان الامبريالية ذاتها، والتي تبين مرة أخرى أنها، على عكس كل المزاعم البورجوازية والانتهازية، ما تزال هي التي تحكم سير الرأسمالية والامبريالية التي تبقى عاجزة عن السيطرة عليها أو الخروج منها، كما أنه يفتح الطريق أمام المزيد من الهزات والاضطرابات والمخاطر على الإنسانية.
إن هذا يدل على أنه لا مجال لمرحلة جديدة أو مرحلة ثالثة بعد الامبريالية
كما يدعي إيديولوجيو رأس المال، فالامبريالية هي الكلمة الأخيرة للرأسمالية. كما يدل على أن الامبريالية لا تعني نهاية التاريخ والتقدم ولكن نهاية رأس المال والرأسمالية اللذين لم يعد لهما ما يقدمان للإنسانية غير المزيد من المعاناة والمآسي، نهاية الحضارة البورجوازية التي تفسخت وأصبحت تعوق التقدم البشري وتستدعي تعويضها بحضارة جديدة لا نراها إلا اشتراكية، تحل تناقضات الرأسمالية والامبريالية المستعصية وتفتح آفاق أرحب للإنسانية. وأخيرا وليس آخرا فإن ما ذكرنا يدل على عجز البورجوازية عن تخطي إطار الأوطان والقوميات الذي خلقته وعدم ملاءمة طبيعتها مع العولمة إذ لا معنى للعولمة عندها سوى سيطرة احتكار أو أقلية قليلة من الاحتكارات أو بلد أو عدد قليل من البلدان الامبريالية على مصائر العالم، وهو ما يؤكد مرة أخرى أن تجاوز الأوطان وتحقيق عولمة إنسانية لا يتمان إلا على أنقاض الرأسمالية والامبريالية.
ولكن كل هذا لن يتحقق بصورة عفوية كما يبين ذلك التاريخ. فمهما اشتدت أزمات الرأسمالية والامبريالية، فإنها ستكون قادرة على تخطيها حتى بأشنع الوسائل، إن لم تجد في طريقها من يصدها ويهزمها ويبعثها إلى مزبلة التاريخ. وهنا يطرح السؤال الأهمّ: هل أن الطبقة العاملة وشعوب البلدان التابعة ستنجح هذه المرة في مهمتها مستغلة إمكانياتها وطاقاتها والتجارب التي راكمتها أم أنها سيظل محكوما عليها بالفشل رغم كل تضحياتها؟
إن الجواب على هذا السؤال يدفعنا إلى النظر في دور اليسار الماركسي اللينيني اليوم في مقاومة الامبريالية وتعبيد الطريق نحو الانتصار عليها، باعتبار ذلك الجزء الثاني من هذه المداخلة.
مهام اليسار الماركسي اللينيني في مقاومة الامبريالية
كان للحركة الشيوعية في مرحلة ازدهارها دور تاريخي عظيم في مواجهة الرأسمالية والامبريالية على المستويين النظري والعملي. فالفضل يرجع إلى كارل ماركس في تحليل النظام الرأسمالي وإبراز خصائصه وتحديد تناقضاته . كما يرجع إليه الفضل في تحديد موقع الطبقة العاملة في هذا النظام والدور التاريخي الموكول إليها في القضاء عليه وبناء نظام جديد، اشتراكي وشيوعي ينهي استغلال الإنسان للإنسان. أما فلاديمير إيليتش لينين، فالفضل يعود إليه، في تحليل الامبريالية وتحديد طبيعتها وخصائصها ومكانتها في تاريخ الرأسمالية وانعكاس ذلك على نضال الطبقة العاملة والشعوب والأمم المضطـَهَدة .
وقد قامت الحركات الشيوعية التي انبنت على مبادئ ماركس ولينين بدور بارز، خصوصا في القرن العشرين في مقاومة الامبريالية. وتعزز هذا الدور بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا القيصرية التي أصبحت سندا قويا لحركة مقاومة للاستعمار، بل إنها جعلت من هذه الحركة جزءا لا يتجزأ من الثورة العالمية وعكس لينين ذلك في الشعار العام الذي أصبحت ترفعه الحركة الشيوعية العالمية: "يا عمال العالم، ويا شعوب وأمم العالم المضطهدة اتحدوا" وهو شعار يبرز التحالف الاستراتيجي بين حركة الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية وحركة التحرر الوطني في المستعمرات وشبه المستعمرات .
ففي البلدان الرأسمالية المتطورة أصبحت مقاومة الامبريالية نقطة رئيسية في برامج الأحزاب الشيوعية سواء من حيث ضرورة مقاومة هذه الأحزاب للسياسة الاستعمارية لحكومات بلدانها أو من حيث ضرورة مساندة ودعم حركات التحرر في المستعمرات وشبه المستعمرات بدءا بتلك التي تتبع بلدانها. أما في المستعمرات وشبه المستعمرات فقد تزعمت الأحزاب الماركسية اللينينية في العديد من الأحيان حركة التحرر الوطني ونظمت المقاومة وحققت نجاحات وانتصارات هامة. وبرز دور تلك الأحزاب أيضا خلال الحرب العالمية الثانية في مقاومة الفاشية والنازية البنتين الشرعيتين للرأسمالية في مرحلتها الامبريالية. وتمكنت الأحزاب الشيوعية والعمالية في عديد من البلدان من قيادة حركة المقاومة وتحقيق انتصار ساحق وإقامة أنظمة ديمقراطية شعبية على أنقاض الأنظمة الرجعية والفاشية والعميلة التي كانت تحكمها . كما لعبت الأحزاب الشيوعية والعمالية في العديد من البلدان الأخرى بما فيها بلدان رأسمالية متقدمة دورا حاسما في تحرير بلدانها من النير النازي . ولكن دور الأحزاب الماركسية اللينينية بدأ يضعف بسبب الانشقاقات الحاصلة في الحركة الشيوعية العالمية إثر التحول الرأسمالي البيروقراطي العميق الحاصل في الاتحاد السوفياتي، منذ مطلع الستينات ودخوله في صراع مع الامبريالية الأمريكية من أجل الهيمنة والسيطرة على العالم واتخاذ تدخلاته في
العديد من المناطق والبلدان طابعا امبرياليا اشتراكيا، وهو ما شوّه صورة الاشتراكية التي ظل قادة الاتحاد السوفياتي يتخفون وراءها لمغالطة شعوبهم وشعوب العالم قاطبة.
ومع ذلك ظلت الحركات الماركسية اللينينية والشيوعية في طليعة القوى المناهضة للامبريالية في مختلف أنحاء العالم، وكان الشيوعيون في فيتنام أبرز مثال على ذلك في مقاومتهم وهزمهم لأعتى قوة امبريالية عرفها التاريخ. وكان اليسار الماركسي اللينيني في البلدان الرأسمالية المتطورة على رأس حركة التضامن مع فيتنام ومع ضحايا الامبريالية في كافة مناطق العالم، وساهموا بذلك في إضعافها، والحد من غطرستها.
ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي خسر كما قلنا الصراع مع الكتلة الامبريالية الغربية، من أجل الهيمنة على العالم، حصل التراجع الكبير وبلغ دور الحركة الشيوعية في مقاومة الامبريالية أدنى مستوياته تاركا فراغا كبيرا ملأته قوى طبقية أخرى، بورجوازية وبورجوازية صغيرة، متشكلة في تيارات دينية، إسلاموية، خصوصا مناهضة بهذه الدرجة أو تلك للامبريالية، إن لم تكن مرتبطة بها ومنخرطة في مخططاتها العالمية أو في أحزاب وحركات وحكومات نابعة من الفئات الوسطى كما هو الحال في أمريكا اللاتينية، وقلما توجد حركات علىرأسها قوى تعلن انتماءها للماركسية إذا استثنيناكولومبيا والنيبال والفيلبين...
ويعود هذاالتقهقر إلى أسباب عدة منها، أن انهيار الاتحاد السوفياتي قـُدّم على أنه "تكريس لفشل الاشتراكية والشيوعية" وأُخفي أنه فشل للبرجوازية البيروقراطية وللامبريالية الاشتراكية السوفياتية ومنها أيضا أن العديد من الأحزاب والحركات الماركسية كانت مرتبطة بالاتحاد السوفياتي، وانساقت في مراجعاته للماركسية اللينينية وعششت في صفوفها الانتهازية وتحولت إلى قوى يمينية، مهادنة لرأس المال والرجعية، فلما انهار الاتحاد السوفياتي، انهارت معه وتفككت وتقلص تأثيرها وسارع قادتها أو على الأقل جزء منهم إلى التخلي نهائيا عن الماركسية والانخراط في الموجة الليبرالية.
وقد حصل نفس الشيء مع الصين التي اتجهت مع "تانغ سياو بينغ " بخطى سريعة نحو الرأسمالية وقطعت جذريا مع الاشتراكية وهو ما أربك الحركات والقوى المرتبطة التي ساندتها في صراعها مع التحريفية السوفياتية.
وعلى العموم فإن الإحباط الذي ساد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أوساط الشغيلة والمثقفين التقدميين كان من العوامل التي أضعفت أيضا الحركة الماركسية. ومما غذى هذا الوضع هو الهجمة الإيديولوجية التي شنتها البورجوازية على الاشتراكية والشيوعية. والتي لم تتوقف عند حد تقديم انهيار الاتحاد السوفياتي على أنه علامة "الفشل التاريخي للاشتراكية" بل تعدته إلى محاولة نفي الأفكار الأساسية التي قامت عليها الحركة الماركسية مثل فكرة الثورة وسلطة الطبقة العاملة والحزب العمالي.
ووصلت الأمور في نهاية المطاف إلى حد نفي وجود الطبقة العاملة ذاته بذريعة الثورة العلمية والتقنية ومن ثمة نفي موقعها المحوري في المجتمع الرأسمالي ودورها التاريخي في القضاء على الرأسمالية والامبريالية وتشييد حضارة اشتراكية جديدة . وكان لذلك سيء الأثر في كل أنحاء العالم في نفوس العمال وكذلك في نفوس المثقفين التقدميين، فتفشى الإحباط واليأس وعمّ اعتقاد خاطئ بأن النضال لا جدوى منه، بل مضيعة للوقت والجهد.
ولكن ذلك لا يعني نهاية الحركة الماركسية ولا نهاية مشاركتها في مقاومة الرأسمالية والامبريالية. فقد استمرت الفصائل الماركسية الثورية في النضال حتى وإن كان وزنها ضعيفا وتأثيرها في مجرى الأحداث العالمية محدودا. وبدا هذا الدور يتنامى من جديد بعد مرور لحظة الارتباك الكبرى، واتضاح حقيقة النظام العالمي الجديد التي تولت الحياة كشفها . فنحن نشهد اليوم وجود تجمعات ماركسية كثيرة في العالم: "ندوة الأحزاب والمنظمات الماركسية اللينينية، تجمّع بروكسيل الذي ينظمه سنويا حزب العمل البلجيكي بمناسبة عيد الشغل العالمي، تجمّع لشبونة وأثينا، وأخيرا لقاء الأحزاب والمنظمات والشخصيات الماركسية العربية، علاوة على ندوة الأحزاب والقوى اليسارية الماركسية في أمريكا اللاتينية الذي ينظمه سنويا الحزب الشيوعي الماركسي اللينيني الأكوادوري تحت عنوان "قضايا الثورة في أمريكا اللاتينية". وعادت من جديد الاشتراكية تغذي الآمال بل وتصبح، كما هو الحال في أمريكا اللاتينية، وبقطع النظر عن طبيعة هذه الاشتراكية، الشعار الذي ترفعه القوى الوطنية والتقدمية عنوانا لها في حملاتها الانتخابية في مواجهة القوى البورجوازية العميلة للامبريالية الأمريكية . كما عاد ماركس ليكون محور دراسات وأعمال فكرية جديدة ويقع الإقرار براهنية فكره حتى من قبل مثقفين بورجوازيين إلى درجة أن العديد من هؤلاء (أمثال جاك أتالي وغيره) يؤكدون بأن راهنية نظرية ماركس اليوم في أصل العولمة أكثر من راهنيتها في الوقت الذي ظهرت فيه.
لقد آن الأوان لليسار الماركسي اللينيني بأن ينهض من جديد ويستعيد مكانته في ساحات الصراع المحلية والدولية لملء الفراغ الذي تركه خلال العقدين الأخيرين. فمن شأن هذا اليسار، وطالما أننا نتحدث عن مقاومة الامبريالية، أن يكسب هذه المقاومة عمقا فكريا ونظريا هي في أشد الحاجة إليه، ولا يرجى من حركات دينية أو بورجوازية متوسطة أو صغيرة أن توفره، ويسلحها ببرنامج سياسي قادر فعلا على تحقيق التحرر من الهيمنة الامبريالية، الأمر الذي لا تقدر عليه حركات أخرى بنفس التماسك والحزم والثبات، ويفتح لها أفقا من شأنه أن يجنبها الرجوع إلى الوراء ويدفع بالطبقة العالمة والكادحين عموما إلى الانخراط فيها، وهو ما من شأنه أن يضمن لها النجاح لأن الحامل الحقيقي للتحرر التام كان ولا يزال الطبقة العاملة .
ولن يقدر اليسار الماركسي اللينيني على القيام بواجبه إلا إذا تخلص فكريا من كل ألوان الانتهازية، يمينية كانت أو يسراوية، واستوعب المنهج الماركسي المادي الجدلي والمادي التاريخي، الذي نراه رغم كل ما قيل فيه، موضوع إثبات من قبل التطور العلمي والاجتماعي، وقيّم بموضوعية تجارب الطبقة العاملة بما فيها التجربة السوفياتية ووقف عند إيجابياتها وسلبياتها، وتسلح بنظرة ثاقبة لواقع اليوم مدركا أن الماركسية لا تكون ذات فائدة ولن تحافظ على حيويتها إلا بقدر استيعابها للوقائع الجديدة وإجابتها عن الأسئلة الحارقة التي يطرحها نضال العمال والشعوب المضطهدة، فهي كما قال أنجلز "مرشد للعمل" لا تقبل التحنيط والتكلس.
ونودّ التذكير هنا بأن
جوهر تحليل ماركس للرأسمالية وتحليل لينين للامبريالية، مازال يكتسي راهنية كبيرة . فالعصر هو عصر الامبريالية، والتناقض الذي يحكمه ويؤطر تطوره هو التناقض بين رأس المال والعمل، والإجابة عن الرأسمالية والامبريالية ما تزال تتمثل في الثورة الاجتماعية، والثورة لا تعني مشاركة في حكومة أو حتى تكوين حكومة دون المساس بمصالح البورجوازية والرجعية وإنما تعني القضاء على الرأسمالية ووصول الطبقة العاملة والكادحين إلى السلطة، وإعادة تنظيم المجتمع على أسس نوعية جديدة. لقد بينت تجربة الأحزاب الإصلاحية التي تخلت عن الثورة بدعوى إمكانية "إصلاح الرأسمالية" م