أدونيس الذي نشر سنة 1988 ديوان «مفرد بصيغة الجمع» وهي السنة نفسها التي بدأت فيها قصته التي لم تنته مع نوبل، أصبح بالفعل «جمعا بصيغة المفرد»، وهو المفرد ظاهريا والمتعدد حد الازدحام في تجربته الشعرية والفكرية التي مازالت تحمل الجديد وهو في العقد الثامن من عمره، والجزائر التي ظلت بمنأى عن الأعاصير الطبيعية ضربها مؤخرا "إعصار أدونيس" الذي مر بها مرورا غير عادي، وكان مروره بمثابة "الباروماتر" لقياس "درجة" النقاش الفكري الحر، لكن النتيجة كانت مخيبة للآمال.
وأدونيس ليس مجرد شاعر، فمع مرور السنين أصبح بالفعل "مالئ الدنيا وشاغل الناس" تماما مثل سلفه أبو الطيب المتنبي، وأكثر الشعراء العرب علاقة مع جائزة نوبل للآداب التي ذهبت هذه المرة إلى الفرنسي لوكليزيو، ليس لأنه أول شاعر عربي يفوز بهذه الجائزة فهي لم تعرف طريقها إليه بعد، بل لأنه كاد يصبح «المرشح الدائم لها» وفي بداية كل أكتوبر من السنة يتصدر قائمين المبشرين بنوبل وفي كل مرة تأخذ طريقها إلى غيره، فالفتى القروي الفقير الذي لم يلتحق بالمدارس النظامية إلا في سن الرابعة عشرة، لم يكن يحلم حينها إلا أن يصبح شاعرا على الطريقة الكلاسيكية داخل ما يسميه محمد أركون «السياج الدوغمائي المغلق» بكل ما يحتويه من جمالية ومعتقد، وكم كانت فرحته عندما ألقى قصيدة وطنية حماسية أمام الرئيس السوري حينها شكري القوتلي الذي زار منطقتهم سنة 1944، لتلك القصيدة التي تقترب من المدح، والتي «بفضلها» انفتحت له أبواب الثقافة الحديثة عندما نال إعجاب المسؤول الأول في البلاد وتم إرساله إلى المدرسة العلمانية الفرنسية في مدينة طرطوس، فالشاعر المتمرد الثائر على كل «ثابت» والذي أصبح في «تحوّل» مستمر ربما يصاب بالخجل عندما يتذكر تلك القصيدة العصماء التي ألقاها الطفل القروي الذي كان يسمى في أربعينيات القرن العشرين أحمد سعيد اسبر، فتلك القصيدة نموذج صارخ لثقافة الثبات والتقليد التي ثار عليه طيلة حياته القادمة، لكنها ويا للمفارقة كانت المفتاح الذي فتح له أبواب الثقافة الجديدة «المتحولة»، والتي دخلها رمزيا سنة 1948.. السنة التي تسمى في تاريخ العرب «عام النكبة»، وفي تاريخ الشعر شهدت الميلاد الحقيقي لواحد من أهم شعراء العربية في التاريخ، ففي ذلك التاريخ مات الشاعر الكلاسيكي علي أحمد سعيد اسبر وولد أدونيس بكل ثورته، وهي المفارقة التي لازمت الشاعر طيلة حياته، وهو الذي ما كان له أن يكون كذلك لولا قصيدته «الوطنية الحماسية» التي ألقاها في حضرة الرئيس الذي أطيح به بعد ذلك شكري القوتلي، وفي «سنة النكبة» والعقم، ولد ذلك «الإله» الشعري الذي اتخذ من لقب «إله الخصب» في الثقافة الكنعانية- الفينيقية القديمة، والذي عبر الثقافات الأخرى إلى الإغريقية، ويسمى في الثقافة العربية القديمة «بعل»، فالإله الذي يصوّر شابا رائع الجمال، ولد في السنة نفسها التي أدرك فيها قومه أن أمتهم شاخت وأصابها العقم، وفي السنة التي أصدر فيها «مفرد بصيغة الجمع» تم ترشيحه لجائزة نوبل وأصبح بمرور الزمن الثابت الوحيد ضمن قائمة المرشحين وهو الذي يكره الثبات ولم يتمكن من تجاوز تلك العقبة وهو الذي يكره العقبات مهما كان نوعها حتى تحوّل إلى عقبة أمام الشعراء العرب الذين جاؤوا من بعده، مثلما كان المتنبي عقبة في تاريخ الشعرية العربية، والشاعر الذي سمّى نفسه «أدونيس» الإله الأسطوري رغم كل شيء اعترف في حوار مطوّل معه نشر في كتاب منذ سنين أنه لم يتخلص من رواسب الثقافة العربية بكل أمراضها، فقد أسماه أنصاره «المعلّم الثالث» (بعد المعلم الأول أرسطو والمعلم الثاني أبو نصر الفارابي)، ولم نسمع أنه احتج على ذلك اللقب، وقد كرّس نفسه محاربا للتلقينية والتعليمية التي عنت منها الثقافة العربية ومازالت تعاني منها، والطفل الذي كان يرتدي ملابس الكبار البالية في قرية قصابين الفقيرة في أربعينيات القرن العشرين لم يكن يحلم بأن يتحوّل إلى ذلك «المعلم الثالث» الذي انتصر على كل شيء إلا على شبح اسمه «نوبل»، ومن الغريب أن الشاعر المفكر الذي ناهض الثقافة الذكورية في الثقافة العربية أسمى نفسه «أدونيس» وهو الذي يحيل إلى الذكورية والخصوبة المناهضة للأنوثة التي تحيل إلى التحضر والتعدد، وتكلم من مفارقات هذا الشاعر الظاهرة الذي استحق بالفعل أن يكون «جمعا (حد التناقض) بصيغة مفرد (أسمه أدونيس)»، فقد كان إلها للخصب في الميثولوجيا القديمة وأصبح "إعصارا" مدمرا وقد مر قبل أيام على الجزائر وقد يضرب مناطق أخرى قريبا، ولا مؤشر لأن يصبح مجرد زوبعة أو رياح موسمية، فقوته في تزايد مستمر وهو على عتبة الثمانين.
الأحد أكتوبر 17, 2010 11:43 am من طرف هذا الكتاب