(أيّها المسلمون لماذا لا يفعلها غيركم؟ لماذا ما عاد اليوم من يفعلها غيركم؟) سؤال يطرحه الأستاذ سعيد ناشيد بمرارة في مقاله "
لماذا أقول: أنا مسلم"، لماذا يقوم المسلم بتفجير نفسه وغيره في حفلة دمويّة بمباركة إله يراقب المشهد من فوق سبع سماوات وعلى شفتيه ابتسامة رضى، وربّما ابتسامة امتنان لهذا الشهيد الذي خلّص الإنسانيّة من حفنة من الكفّار فيدخله جنّة يتبوّأ فيها حيث يشاء مع الحور العين.
لماذا لا يفعلها غيرنا؟ أعتقد أنّ الجواب واضح: إنّه الجهل والفقر والظروف الاجتماعيّة المتردّية، فإن قيل: ها هي شعوب أخرى تعيش الظروف نفسها، بل ربّما أدنى منكم، ولا تفعل فعلكم، وهذا اعتراض وجيه ولكنّه يدين المحرّك فقط، فالمحرّك هو الجهل والفقر بينما وقود هذا المحرّك هو الدين. أجل أيّها السادة، لا يعمل المحرّك بلا وقود، ونحن والحمد لله نمتلك الوقود اللازم في الدين لتشغيل هذا المحرّك، فلم يبق إلاّ أن ننتهز الفرصة، فنختار "ضحايا" لهم محرّكات قويّة ونضخّ فيها الوقود المنتقى بعناية من تربة الدين، فليس كلّ وقود صالحا، ثمّ نرسل هذه الآلة البشريّة المغسولة الدماغ للتطبيق على أرض الواقع، نرسلها لتبرهن للعالم على جودة وقودنا وقوّة محرّكاتنا، لذلك لا يفعلها اليوم إلاّ نحن. نعم هذا الانتحاريّ يوزّع الموت بسخاء، ولكنّه ميّت منذ زمن بعيد، منذ أن شاءت المصادفة أو ربّما الإله أن يولد في ذلك المكان بالذات من الكرة الأرضيّة، يحيط به الفقر والتخلّف والجهل من كلّ ناحية، فيولد ميّتا يتنفّس، كائنا في حالة كوانتيك وجوديّة، فهو ميّت-حيّ، وكما قال الشاعر مع التصرّف في المعنى: (وهو ميْتٌ، في جسمه مدفـونُ)
هل أنا متشائم؟ إذن لنأخذ في هذا الظلام شمعة وولاّعة (وإن لم تجدوا فعود كبريت، لا يهمّ) ونسأل: ما الحلّ؟ سؤال متكوّن من ستّة حروف لا غير ومن ستّين ألف مشكلة لا غير، أيضا! أنهار من الحبر على الورق، وشلاّلات من اللعاب في الحلقات التلفزيّة التي تُبثّ بعد منتصف الليل، أي للمثقّفين فقط وربّما للذين يشعرون بالأرق للتعجيل بالنوم، تسأل دائما هذا السؤال: ما الحلّ؟
الحلّ في إقصاء الدين: ينقسم هذا الحلّ إلى نظريّتين: الأولى جذريّة راديكاليّة والثانية متسامحة.
1- الإقصاء الجذري الراديكالي: لقد تعمّدتُ أن أجعل جملتي "طوطولجيّة " للتأكيد، وهذا الإقصاء يتمثّل في أنّنا لم نجن من الدين إلاّ الحروب والفرقة بين بني البشر من ناحية، وتأسيس التفكير الأسطوري الراكن إلى التفسيرات البدائيّة للكون والإنسان من ناحية أخرى، ممّا يساهم في عرقلة عمليّة التقدّم والبحث العلمي، فتكون الأجوبة الغائيّة سيّدة الموقف في الفكر الديني وتطغى على ما سواها. وبإقصاء الدين فإنّنا نستأصل "أصل الشرّ" ونجعل الإنسان طريقا إلى الإنسان محطّمين بذلك رؤية الدين الدغمائيّة والتي تعتبر الإنسان طريق الإنسان إلى الله.
لكن هذه النظريّة الجذريّة تشيّئ الإنسان وتختصره، وتتغافل عن دور الوعي الذي أدّى إلى نشوء الدين في مختلف تمظهراته كالفنّ والأسطورة، تتغافل عن خوف الإنسان من المجهول الأكبر: الموت، وعن احتياج الإنسان لقوّة غيبيّة يلوذ بها ويعلّق عليها ضعفه في احتكاكه مع العالم الخارجي، بل وتتغافل، رغم أنّها فلسفة ماديّة، عن إحدى الدعائم الحديثة لها المتمثّلة في نظريّة التطوّر، فمنذ أن وُجد الإنسان واصطدم وعيه بالعالم أطلق صرخته الأزليّة وربّما الأبديّة: من أين جئت وإلى أين أذهب؟ وانبثق الدين من هذه الصرخة اللصيقة بالإنسان، وبعضّ النظر عن حقيقة أو وهم الدين، فبالنظر إلى التراكم الزمنيّ لمئات الآلاف من السنين للجنس البشريّ فلا بدّ أن يصبح الدين عنصرا في عمليّة النشوء والارتقاء ومن ثمّة يصير موجودا في الجين البشريّ، ويصبح الدماغ البشريّ مبرمجا على الاعتقاد. وهذا يدخل في صلب نظريّة التطوّر. فكيف نتغافل عن مؤثّر عصبيّ يُعدّ من المكوّنات البيولوجيّة للإنسان؟ إنّه حقيقة واقعة أمكن تجريبها مخبريّا ولا يكفي تبريرنا أنّها قائمة على وهم وخوف إنسانيّ بدائيّ حتّى نرفضها، لا يكفي لأنّها وبكلّ بساطة لم تعد كذلك بل صارت حقيقة واقعة وعلينا إصلاح الحاضر لا إصلاح الماضي الذي لم يعد موجودا.
صحيح أنّ في إعدام الدين فوائد على المستوى الأنتروبولوجيّ لكنّ له آثارا سلبيّة وجوديّة لا يمكن إنكارها وقد تؤدّي إلى تمزّق النسيج العاطفيّ النفسيّ للإنسان وسقوطة في هاوية بشعة. وإنّي أسمّي نظريّة إقصاء الدين الجذريّة، على الأقلّ حاليّا، بالرؤية "الشمشونيّة" : عليّ وعلى أعدائي.
2- إقصاء الدين بصفة متسامحة: وهي العلمانيّة، إذ تدرك هذه الرؤية أهميّة الدين في حياة الإنسان، كما أنّها تحترم خياراته العقائديّة وحريّته الشخصيّة، والجميع، بمختلف أديانهم وأعراقهم، سواسيّة تحت مظلّة القانون، ولكنّها تدرك في الوقت نفسه الوجه الآخر من عملة الدين، الوجه الدغمائي الحامل للحقيقة المطلقة وكلّ ما سواه هو كافر سيذهب إلى جهنّم، هذا الوجه الذي يحرّض على قتل الآخر أو استعباده ملكا لليمين أو في أحسن الأحوال الإبقاء عليه مع أخذ الجزية منه وهو صاغر ذليل، حينها ترفع العلمانيّة الورقة الحمراء في وجه هذا الوجه وترفض تسييس الدين وترفض جعل الخطاب الإلهيّ مطيّة لذوي الطموحات السياسيّة، وبطبيعة الحال ترفض أيضا تدخّل الدين في تسيير المجتمع، فتفصل المقدّس عن "المدنّس الدنيوي"، وتعيد الإيمان إلى مكانه الطبيعيّ وهو العلاقة الخاصة والمباشرة والحصريّة بين الفرد والله بوصفها حريّة شخصيّة تنتهي عندما تبدأ حريّة الآخرين.
لكنّ العلمانيّة في الوطن العربي تجد نفسها في مأزقين، مأزق تأسيسيّ وآخر استشرافيّ. أمّا المأزق التأسيسيّ فهو عدم وجود أساس نصيّ دينيّ تبني عليه بناءها الجديد (حيث قلنا منذ البداية أنّها لا ترفض الدين)، فالعلمانيّة في الغرب لها جذور نصيّة دينيّة ساعدتها على النماء والانتشار مثل: (أعط لقيصر ما لقيصر وأعط لله ما لله) فهي علمانيّة مولودة ولادة شرعيّة في صيرورة تاريخيّة طبيعيّة، لذلك نجحتْ، أمّا العلمانيّة في الوطن الإسلاميّ فهي تكاد تكون "لقيطة" ولا نجد اسمها مكتوبا في دفتر التراث الدينيّ، وهذه إشكاليّة كبرى لا ينبغي تجاهلها.
أمّا المأزق الاستشرافيّ فهو حتّى وإن نجحتْ العلمانيّة في فرض نفسها بطريقة عصاميّة واستطاعتْ تقليم مخالب الدين فإنّها لا تأمن أن تنبت هذه المخالب مرّة أخرى ما دام النصّ موجودا وما دامت التربة الدينيّة التراثيّة مهيّأة لزرع البذور القديمة، فتجد العلمانيّة نفسها تشبه التي نقضتْ غزلها من بعد قوّة أنكاثا.
الحلّ في تطوير الدين: ها هنا تطلّ علينا الهرمنيوطيقيّة برأسها من شرفة الكلمات، كانت ابتسامتها جذّابة، وتوحي بأمل كبير في إمكانيّة معرفة توقيت مرور قطار الحضارة، ولأوّل مرّة، حتّى نكون موجودين في الموعد المحدّد ونستقلّه، فقرّرنا زيارة الهرمنيوطيقيّة في بيتها لتجاذب اطراف الحديث معها ومع ابنة خالتها الفنومنولوجيا، وأثناء جلوسنا في الصالون لمحنا لوحات كثيرة على الجدران، فاقتربنا لنتأمّل ونشبع أنظارنا من الفنّ التأويليّ الجميل، وكانت كلّ لوحة تحمل اسما، فواحدة تحمل اسم "السنّة" والأخرى "الشيعة" والثالثة "المعتزلة" والرابعة "الخوارج" إلى آخره، وحين سألنا صاحبة البيت عن هذه اللوحات قالت: إنّها صور أبنائي، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
إنّ تطوير الدين اعتمادا على التأويلات المعاصرة التي لا تقطع مع الماضي وفي الوقت نفسه تتماهى مع العقل المعاصر وتفتح نافذة على الحاضر والمستقبل هو أمر محمود بيد أنّه يشكو من مأزق تاريخيّ ومستقبليّ أيضا، فكلّ الفرق الإسلاميّة المتعارضة هي في الأساس متعارضة في التأويل، إمّا لأسباب سياسيّة أو عقائديّة، ولا تكفي أسبابنا الحديثة والتي تدفعنا بحسن نيّة إلى فعل التأويل والتطوير، قلت لا تكفي كي تمنحنا شرعيّة مختلفة عن غيرنا، فإن كنّا أصحاب ثروة بشريّة تتكاثر عبر الزمن وتساعدها ظروف معيّنة، فستصبح تأويلاتنا مذهبا أو فرقة مثلنا مثل غيرنا من الفرق الإسلاميّة الأخرى وننال شرف الدخول في قائمة الحديث القائل "ستفترق أمّتي إلى 72 فرقة إلى آخره…" وإن كنّا أصحاب خيال واسع بنكهة إيزوتيريّة فإنّنا سنصبح دينا جديدا مثل الأحمديّة التي تؤمن بالقرآن وترى أنّ عيسى حلّ في جسد الغلام ميرزا، أو الرائيليّة التي تؤمن بالقرآن وترى أنّنا خُلقنا من طرف مخلوقات فضائيّة، وآخرهم القرآنيّون الذين هم مصلحون أيضا، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ربّما سينقضّ عليّ أحد العاطفيّين صارخا: أنت تريد إقفال باب الاجتهاد أكثر ممّا هو مقفل، فأنت سلفيّ في عباءة حداثيّ، فسأقول له: يا ابن أمّي لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ولكنّي خشيت أن تقول أنّي فرّقت في الإسلام أكثر ممّا هو مفرّق!
حسنا، ألا يقول المأثور: لو تعلّقت همّة المرء بما وراء العرش لناله؟ أليس الذين ينادون بإصلاح الإسلام ينطلقون من غيرتهم على شعوبهم ورغبتهم في تحقيق إنجازات تنويريّة تساهم في التقدّم؟ أليست غايتهم سامية؟ ولكن بين الغاية والقدرة عليها بون شاسع، فأمامنا أخطبوط إعلاميّ وهابيّ عظيم ابتلع ويبتلع العقول، قنوات فضائيّة تفتي حتّى في كيفيّة الدخول إلى الحمّام وكتب فاخرة توزّع مجّانا، وأموال هائلة، وشيوخ مجنّدون متخرّجون من كليّة المسرح والتمثيل، هل لنا القدرة على هذا؟ لا يتوقّف الأمر على مقالات أو كتب تنشر، أغلبها لا تقرأ أصلا، لا يتوقّف الأمر على مجموعة إصلاحيّين لا يملكون إلاّ أقلامهم ورغباتهم الصادقة، بل هم لا يستطيعون دخول هذه "المعركة" إلاّ بمساندة الدولة التي تهيّئ أسباب النجاح من إعلام ومال ورجال، ويبدو أنّ مصر بدأتْ تنتبه، أو زعمتْ أنّها تنتبه، إلى هذا المدّ الوهّابيّ المتطرّف كالخطاب الذي ألقاه حسني مبارك في جانفي الماضي في عيد الشرطة يحذّر فيه من اتّساع دائرة الفكر السلفي، ونلاحظ أخيرا إنشاء قناة فضائيّة تابعة للأزهر يكون دورها نشر الإسلام المعتدل المتسامح وتشكّل جبهة مضادة للفكر السلفي التكفيري الرافض للآخر، بيد أنّه تظلّ للسياسة العربيّة ضروراتها وأحكامها وحساباتها التي تقدّم في أغلب الأحيان مصالحها الخاصة على المصلحة العامة.
الحلّ في اللاحلّ: أحيانا قد يوجد الحلّ في اللاحلّ، فليس بالضرورة أن نجد حلاّ الآن وحالا بل قد يوجد في القراءة الاستشرافيّة، ولا أعني أن نكتفي بالتمنّي وتسليم أمرنا إلى الله، بل علينا أن نعرف منذ الآن هل سيكون هناك حلّ أم لا مستقبلا، أي نتوقّع ونستشرف المراحل القادمة، فبالنظر إلى ثورة الاتّصالات الحاليّة وخاصّة الأنترنت فنرى الشباب يملؤون المنتديات التي تتبادل الآراء ويحتكّون بالآخر المختلف عنهم فكريّا وثقّافيّا، والشات، والماسنجر، وانتشار المواقع العلميّة والإلحاديّة واللادينيّة والعقلانيّة والدينيّة والمتطرّفة والمعارضة وغيرها، وكلّ هذه المواقع أبوابها مفتوحة للجميع وسهل الوصول إليها، رغم أنّ بعضها ممنوع في بعض الدول، كموقع الأوان مثلا في السعوديّة، لكن للشباب أساليبهم التقنية في تذليل هذه الصعوبات، إنّها فسيفساء فكريّة تساهم في إرساء مفهوم الاختلاف والقبول بالآخر حتّى ولو كان افتراضيّا لكن سيكون له بالتأكيد تداعيات على أرض الواقع، وقد يملأ هؤلاء الشباب المنفتحون على العالم وظائف مرموقة في بلدانهم مستقبلا، من رؤساء دول إلى ما هو أدنى، وستكون سياساتهم مغايرة للوضع الحاليّ حيث أنّه قد توفّر لهم ما لم يتوفّر لأسلافهم وتطوّروا ثقّافيّا وفكريّا.
من الممكن أنّنا نعيش الآن مرحلة تحوّليّة ربّما لن نشهد نتائجها على المدى القريب، بيد أنّه ستكون لها نتائج بالتأكيد مع تداخل الثقّافات والأديان والمعارف في العالم الذي صار قرية صغيرة. وأعتقد أنّ سلطة الأنترنت اليوم تجذب إليها الشباب أكثر من سلطة الفضائيّات لتصبح (ربّما) تلك القنوات الدينيّة المتطرّفة، على كثرتها، مكسوّة بالغبار لا يشاهدها إلاّ بعض الأوفياء من جيلنا. وأعتقد أنّ للمثقّفين التنويريّين مجال حركة كبير في هذا الفضاء الافتراضيّ يجب الاستفادة منه مع ضرورة النزول من البرج العاجي والاقتراب من القارئ، وأقصد بقولي النزول من البرج العاجيّ هو الابتعاد –إلاّ للضرورة- عن التنظيرات المغرقة في الأكاديميّة التي لا يفهمها إلاّ قلّة، فما الفائدة من أن نكتب لبعضنا بعضا بلغة مستعصية على فهم القارئ العاديّ؟ فلمن نكتب في الأخير؟ وأذكر أنّي قرأت تعليقا لأحد القرّاء هنا في موقع الأوان يطالب فيه، فيما معناه، باستعمال مصطلحات سهلة حتّى يستطيع التواصل وفهم فكرة الكاتب، وحسب رأيي فلهذا القارئ الكريم مليون حقّ، فإذا لم نكتب إلاّ لفئة معيّنة مختصّة ونقصي عامّة الناس فعن أيّ تنوير نتحدّث؟ بينما يجد القارئ عند شيوخ التطرّف لغة سهلة يفهمها ويتواصل معها فنكون قد ساعدنا في نشر الجهل من حيث أردنا القضاء عليه. بل لا أستبعد أنّه من أحد أسباب نجاح الفكر الظلاميّ هو وعيه بضرورة تبسيط الفكرة وتقريبها للعامة، وربّما لسان حالهم يقول فيما بينهم: لا تخشوا من هؤلاء العلمانيّين فهم شرذمة يتحدّثون بلغة لا يفهمها غيرهم، والحمد الله، ولن يكون لها تأثير على الناس.
طبعا، وبلا أدنى شكّ، أنا لا أدعو إلى ابتذال الخطاب وتقديم وجبات استهلاكيّة سريعة، وإنّما أرجو أو أتمنّى أن نفكّر في غيرنا أثناء الكتابة ومحاولة إيصال الفكرة إليه بأقلّ الخسائر الأكاديميّة.
في تفكيك "ما الحلّ": أعتقد أنّ من الإشكاليّات التي يشكو منها هذا السؤال هو ضبابيّة المقدّمة، وأقصد بالمقدّمة التالي: إنّ سؤال "ما الحلّ" يقتضي بالضرورة وجود مشكلة نبحث لها عن حلّ، ووجود مشكلة يقتضي بالضرورة وجود وعي بها، أي أناس يعون بأنّه توجد هناك مشكلة. وعادة فإنّ هؤلاء الناس الواعين بالمشكلة يستعملون صيغة "نحن"، فمثلا منذ أن بدأت مقالي هذا وأنا أستعمل صيغة الجمع مثل: "لماذا لا يفعلها غيرنا" أو "نحن نشكو من التخلّف" أو "نحن نحمل همّا تنويريّا" إلى آخره، فمن هؤلاء الـ "نحن"؟ أعتقد أنّ الإجابة على هذا السؤال قد تمسح بعض الضبابيّة عن سؤال "ما الحلّ" فهل المقصود بـ "نحن" العرب؟ ونتحدّث من منطلق قوميّة عربيّة؟ أم المقصود بها المسلمون ونتحدّث من منطلق إسلاميّ؟ أم المقصود بها الدول الناطقة بالعربيّة مع الوعي باختلاف أعراقها ودياناتها في النسيج الشعبيّ؟ أو كلّ هذا مجتمعا؟
إنّ (وأبدأ بـ "إنّ" الوثوقيّة) أيّ إجابة سنختارها لسؤال "من نحن" ستوجّه، ومنذ البداية وبالضرورة، الإجابة على سؤال "ما الحلّ"، لذلك فإنّ القفز مباشرة إلى سؤال ضبابيّ وغير مؤسّس مثل "ما الحلّ" دون الإجابة على "من نحن" قد يؤدّي إلى التخبّط والثغرات في الحلول.
أعتقد أنّنا نعرف جميعا أنّ الدول العربيّة، سوى بلدان الخليج، هي بلدان ناطقة بالعربيّة لكن شعوبها متشكّلة من أعراق مختلفة بنسب متفاوتة من بلد إلى آخر، فالشمال الإفريقيّ وخاصّة المغرب والجزائر مكوّن من بربر وعرب، ومصر متكوّنة من أقباط وعرب، وغير ذلك من الأمثلة، وهذا التلاقح الثقّافيّ أدّى إلى نشوء خصوصيّة ثقّافيّة لكلّ بلد حتّى وإن كان التقليد العربي مسيطرا عليها فإنّها تظلّ خصوصيّة تختلف باختلاف المكان، فالنسيج الاجتماعي والثقّافي في تونس يختلف مثلا عن النسيج الاجتماعي المصري وكلّ بلد له نكهته الخاصّة، وأعتقد أنّه من الغلوّ أن نستعمل صيغة "نحن" بالتعميم على واقع ينحو نحو الاختلاف والتميّز إلى صيغة "أنا" فنجمع "الأناوات الوطنيّة"، رغم اختلافها، في "نحن" سطحيّة أو متأثّرة بالقوميّة العربيّة الميّتة.
إنّ تثبيت مفهوم المواطنة هو أمر جوهريّ وضروريّ للانطلاق منه لبحث كلّ إشكاليّة على حدة دون تعميم شكليّ ودون التعوّذ من الشيطان الساكن في التفاصيل، ومحاولة بناء كلّ مجتمع مدنيّ بخصوصيّاته، وقد تعترض عليّ الديناصوريّة القوميّة بأنّي أدعو إلى ملوك الطوائف وهذه رؤية فاشيّة في الحقيقة لا تزال تعيش في عصر الامبراطوريّات بينما الواقع اليوم يفرض آليّات جديدة للتعامل معه قد تفضي في يوم ما، مع الحفاظ على الخصوصيّة، إلى قوميّة إقتصاديّة على غرار الاتّحاد الأوروبي مثلا، لكن المرحلة الأولى هي مرحلة بناء العقل النقدي وهي أصعب مرحلة. ولا بدّ، حسب رأيي، أن ينطلق هذا العقل النقدي في بحثه عن الحلّ من صيغة "أنا الوطنيّة" لا من صيغة "نحن الإقليميّة". وللدين دور في عرقلة مفهوم المواطنة لأنّه يدعو إلى الولاء التام له، فالإسلام قبل الوطن، والدين قبل الناس، وهنا نعود إلى المربّع الأوّل هل نقصي الدين جذريّا أو نسبيّا أم نطوّره أم نتجاهله، وكلّ اختيار من هذه الاحتمالات، كما تقدّم، له محاسنه ومساوئه.
ربّما من حقّي بعد كلّ هذا أن أقول أنّي متشائم!