مثلما سحر النبيّ "يوسف" "زليخة" وفتن نساء المدينة عن أنفسهن فقطّعن أيديهنّ كما يروي القصّ القرآني، فتن مسلسل "يوسف الصدّيق" جمهور التلفزيون من الكبار وحتّى الأطفال وحقّق نسب مشاهدة عالية في عدد كبير من البلدان العربية الإسلامية كما تشير إلى ذلك عدّة تقارير صحفية.
هكذا صاحبت متابعة جمهور التلفزيون للمسلسل حالة افتتان جماعية شبيهة بحالات افتتان سابقة بالمسلسلات المكسيكية ثمّ التركية ولكن مع فارق نوعي هذه المرة، يحمل كلّ عناصر الإثارة وهو أنّنا مع مسلسل "دينيّ" إيراني يروي تلفزيونيا ويجسّم لأوّل مرّة شخصية النبيّ يوسف، بعد أن كان الناس يتصوّرون أن ذلك غير مباح. بتجاوبه الكبير مع حلقات المسلسل التي بلغت الخمس والأربعين منح جمهور التلفزيون تفويضا كاملا وترخيصا غير معلن للمخرجين في العالم العربي/الإسلامي لانجاز مسلسلات تجسّم الأنبياء وبدت كلّ محاولات المنع والرّفض التي تستند لفتوى التحريم الأزهرية الشهيرة، (والتي سعى دعاة حرّية الإبداع إلى مقاومتها والتشهير بها) عاجزة تماما عن مواجهة تيار الافتتان العارم بمسلسل ملأ الدنيا وشغل الناس.
مسلسل "يوسف الصدّيق" منجز بنفس المستوى التقني والجمالي الذي تنجز به الأعمال الدرامية التاريخية في الغرب وهذا أمر يحسب حقا للإيرانيين الذين أنتجوا هذا العمل و يحقّ لهم من ثمّة أن يفخروا. تكلفة ضخمة من تجلّياتها البذخ الكبير في إعداد الديكورات حيث تمّ بناء مدينة كاملة بقصورها وطرقاتها ومعابدها وتماثيلها ومراسيها ومخازنها، وتمّ تجهيزها بأدوات ذلك العصر من أثاث وعربات وملابس ومراكب ولوازم حروب وخيول، كذلك تمّ بناء قرى الكنعانيين مع اهتمام بأدواتهم وملابسهم ودوابّهم وأسلوب عيشهم. النجاح الباهر في الماكياج الذي يقطع أي شكّ في تقدّم أعمار الشخصيّات بتجعد وجوههم واسترسال شعورهم وبياض أعين بعضهم، القيافة كان لها دور كبير في جعل المتفرّج يحيا المسلسل بكلّ جوارحه دون أي خلل ينفره أو يشوّش تركيزه، إذ تمت دراسة المجتمع المصري القديم والاشتغال بحرفيّة عالية على طريقة تكبير العين والاعتناء باللحية الفرعونية المقدّسة. كما كان لحسن اختيار أماكن التصوير دور هام في وضع المتفرّج في الإطار الضروري لمتابعة ملائمة مع وضع الديكورات المناسبة، فلم يشك المتفرّج أنّه إزاء أرض مصريّة بنيلها وصحرائها وأطيانها كلّ ذلك في إطار رؤية إخراجية "سينمائية" عالية من حيث زوايا التصوير وبناء المشاهد وجماليات التركيب لم نتعوّد عليها حقّا في المسلسلات الدّينية العربية.
ولكن ما صلة هذه الحداثة التقنية بالحداثة الفكرية أعني ما يتّصل بالتصوّر الفكري لمشروع العمل وبرنامجه السردي والإيديولوجي وأساليب المقاربة الدرامية للقصّة وشخصياتها؟
تعتبر قصّة "يوسف" من أجمل القصص القرآني وهي في تقديرنا لا تختلف في بنائها الدّرامي وحبكتها القصصية وذراها التعبيرية كما هي مروية قرآنيا عن أبرز عناوين التراث القصصي الأسطوري الذي حملته أشهر التراجيديات. في هذا السياق وفي مقارنة بين الرّوايتين التوراتية والقرآنية لقصّة "يوسف" لاحظ "عبد الوهاب بوحديبة" في مؤلّفه "الجنسانية في الإسلام" أن الرّواية "التوراتية" فجّة ومباشرة في أسلوبها وهذا على عكس الرّواية القرآنية التي بدت له أشبه بفيلم يقول "أمّا في الرّواية القرآنية فقد دارت أحداث "فيلم" حقيقي عن الإغواء مع تحليل سيكولوجي أخّاذ، ممّا يضعنا أمام الأسرار الحقيقية في جدلية الحبّ والنبوّة"(…) . في هذا المؤلّف يقوم "بوحديبة" وتحديدا في الفصل الثالث الذي جاء تحت عنوان "المؤنّث الأبدي والإسلامي" بتفسير قصّة يوسف مركّزا على جوانبها الدّرامية، فيبين انطلاقا من تحليل نصّي "سيميولوجي" أن لكلّ شخصية عذرها ومبرّراتها، جمال يوسف الفاتن(وما ذنبه وقد ولد كذلك) الذي يأسر "زليخة" وهي المرأة، السيدة، الجميلة، الشهوانية التي تريد أن تعوّض بيوسف عن عجز زوجها الجنسي عن الإنجاب( ولها عذرها في ذلك أيضا). (….) وبعد أن حلّل الرمزية الخاصّة بالأبواب والسرّ والممنوعات يخلص في خاتمة الفصل إلى القول أنّه: "مهما يكن من أمر، فقد تجنّب القرآن جيّدا أن يدين محاولات زليخة ورفيقاتها ويحكم عليها بقساوة. فإلى جانب العلم الرّباني والحكمة هناك مجال لكيد النساء، ينبغي فقط الحذر منه وتجنّب الزنا بأي ثمن. ومع زليخة فإنّ المبادرة النسائية في موضوع الجنس هي التي تكتسب في النهاية صفة الأصالة وتكشف الطريقة التي تمّ تناولها من خلالها عن جانب كبير من الحياة الحلمية في المجتمع العربي الإسلامي".
إن قصّة "يوسف" بحقّ رواية مذهلة تنتمي إلى ذلك السهل الممتنع من الأدب الرّفيع القادر على فتنة الكبار والصغار فهي تقدّم نماذج بشرية بصورة تجعلنا نتفهّم تردّدها الإنساني بين العقل والجسد، بين الدّيني والدنيوي، بين الحبّ والوفاء، بين كلّ المتناقضات الإنسانية التي تفيض بها الآداب والفنون عموما. ولكن ماذا فعل المسلسل الإيراني بكل فصول هذه القصّة المكثّفة والمختزلة والقوية؟
على مستوى بناء شخصية "يوسف" المحورية في هذا العمل بالغ المسلسل في الإيحاء بالجوانب الأسطورية التي أحاطت بولادته ورؤاه وأحلامه ورؤاه وركّز طويلا على ما قاساه في طفولته من ويلات كانت امتحانا له في نبوّته، وقفز على الجوانب البشرية في شخصيته مغاليا في إبراز المحتوى الرّوحي الملائكي النموذجي فيها ومن أبرز الأمثلة على ذلك الأسلوب الإخراجي المعتمد في تصوير إحدى أهمّ مفاصل القصّة والمعروفة قرآنيا بآية "وهمّت به وهمّ بها" فقد صوّرت عملية الإغراء بطريقة متحفّظة كانت أكثر خجلا وتستّرا من المفسّرين القدامى الذين كانوا أجرأ في تفسيرها والتعليق عليها من ذلك ابن العباس فسّر عبارة "همّ بها" محدّدا وضع الجسم على الشكل التالي : "فكّ سرواله متخذا وضع الخائنين" وتؤكّد روايات أخرى يقول "بوحديبة" في المؤلّف المشار إليه أن يوسف اتخذ له موقعا بين فخذي "زليخة" وبدأ ينزع عنها ثيابها مشيرا في ذلك إلى تفسير الرّازي. كما جرت الإشارة إلى ذلك في مؤلّف "بوحديبة". على مستوى البناء العام للقصّة تمّت الاستعانة بما أضافه المفسّرون القدامى لقصّة يوسف ممّا يصنّف ضمن خيال التراث الشعبي فتمّ تحويل البعد التراجيدي في القصّة إلى "ميلودراما" شعبية ذات نهاية سعيدة فلم يعد يوسف لوالده بعد سنين فحسب بل تزوّج من زليخة التي عادت إلى شبابها بمعجزة إلهية. كلّ ذلك في سياق سردي بالغ في إبراز أخلاق يوسف العالية وحكمته وعدله وتعاطفه الكبير مع معاناة الناس البسطاء وقدرته على الجمع بين أمور الدّين وأمور السياسة وتدبير الاقتصاد بما يؤكّد الأطروحة السلفية التي لا ترى تناقضا بين إدارة الشأن الديني والشأن السياسي. لم يقف التوجيه الدّيني الإيديولوجي الإيراني عند هذا الحدّ فحسب بل اختتم المسلسل في حلقته الأخيرة (وما أدراك ما الحلقة الأخيرة بالنسبة لجمهور المسلسلات) بحوار تمّ فيه التأكيد بوضوح على أن شخصية تدعى "الموعود" ستأتي بعد خاتم الأنبياء "أحمد" لتملأ الدنيا عدلا وجمالا ولتنصّب دولة الحقّ والإيمان.
من الواضح إذن أنّنا أمام مسلسل موجّه دينيا ومذهبيا وسياسيا وهو أمر أكّده قائد الثورة ومرشدها الأعلى آية اللّه "علي الخامنئي" كما جاء في تقرير لوكالة "مهر" للأنباء حيث أوضح خلال استقباله مخرج وكوادر وممثلي المسلسل أن العمل حظي باستقبال جماهيري واسع في إيران ودول أخرى لأن قصته تناولت العفة والعصمة خلافا لسائر الأفلام والمسلسلات العالمية التي تنجز حاليا والتي تعتمد على جوانب جذابة أخرى بعضها لا أخلاقي . وأكّد "الخامنئي" أنّ صناعة السينما اليوم تمثل عملا فنّيا في الظاهر إلا أنها سياسية المحتوى، لافتا إلى أن غالبية الشركات والمؤسسات السينمائية في هوليود تعكس الإرادة السياسية لجهاز منسق يقف خلف الكواليس في إدارة السياسة الأمريكية .وأوضح أن التقدم الذي أحرزته وسائل الاتصال والفنون وصناعة السينما تحول إلى أدوات مؤثرة لتبيين الأفكار والأهداف السياسية، مؤكدا أن "نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية لديه خطابات وأفكار جديدة يريد طرحها، وينبغي إن تطرح عبر أساليب فنية مؤثرة".
لقد كان لفيلم "الرّسالة" الذي استجاب للفتوى الأزهرية بتحريم تجسيم الأنبياء والصحابة المبشّرين بالجنّة ومسلسلات دينية عديدة مثل "عمر بن عبد العزيز" والتي أنتجت في الشقّ السنّي من العالم الإسلامي الأثر الكبير في دعم التيار السلفي للحركات الأصولية، إذ قامت بتقديم سيرة النبي والصحابة وعدد هامّ من الشخصيات الدّينية برؤية "سبحانية" أغفلت العناصر السياسية والمصلحية والإيديولوجية في صراعاتها وتناست طبيعتها الإنسانية لصالح إظهار ما تتميّز به من صلابة عقائدية إيمانية مغرقة في المثاليات.
لا شكّ لدينا في أن العالم الإسلامي في شقّه"السنّي" قد خسر الكثير بسبب فتوى التحريم التي منعت المخرجين والفنّانين العرب عموما من تقديم سير الأنبياء والرسل والصحابة بصورة ترفع عنهم حجاب التأليه، وتعيد لهم حقيقتهم البشرية التي طالما أكّد عليها القرآن وتسحب البساط من تحت التيار السلفي المتطرّف الذي يعتبر تقديس الرسل والصحابة وحجبهم عن الأنظار إعلاء من شأن الإسلام الأول النقي والطاهر والذي تشكّل العودة إليه الحلّ الأول والأخير لكلّ مشاكل الأمّة بحسب رؤيتهم. بهذه الخسارة بقي المجال شاسعا لإيران الشيعية لتقدّم جزءا هامّا من التراث الدّيني الإسلامي برؤية إيديولوجية مذهبية. فهل تكون المسلسلات الإيرانية جزءا من السلاح الإيديولوجي لبلد لم ينس وعده بتصدير ثورته للعالم؟