المعاناة تولد الإبداع) عبارة شهيرة خلفتها معاناة بعض ممن كان يقال أنها أدركتهم حرفة الأدب فهل الأدب حرفة حقا في هذه الأيام ؟ وان كان الأدب حرفة فماذا يمكن أن تصنع بصاحبها في زمن لم تعد فيه هذه الحرفة طريقا للتقرب إلى مجالس الأمراء وأعطياهم حيث أصبح الإعلام بكافة وسائله هو الأقرب إلى قلوب وعقول الباحثين عن الإطراء وكيل المديح. كان الأدب لدى البعض صنعة يتكسبون منها وكان هناك من لا يفلح في هذه الصنعة ليقال أدركته حرفة الأدب (وحرافها!!). واليوم هناك من أدركتهم حرفة الأدب ولكنهم لم يدركوا الأدب أصلا. وإذا عدنا إلى الوراء لنرى كيف كانت المعاناة تولد الإبداع أو كيف يولد الإبداع المعاناة (الأمر سيان ) نقف برهة عند الدكتور/ عبد المجيد زراقط في دراسة له عن الشاعر عبد المحسن الصوري(340هـ)، حياته وخصائص شعره تحت عنوان (تلازم البؤس وحرفة الشعر) حيث يقول:" تفيد قراءة شعر الصوري انه عاش حياة بائسة، وانه عانى معاناة شديدة من مصائب الدهر، فهو يقول: إن «نوائب الدهر»إصابته، فجعلت أيامه تظهر في صورتين: سوداء وطويلة، وهل أمر من الأيام إن اجتمع لها السواد والطول!؟ وقد بلغ بهالفقر حدا جعله لا يعرف تمييز المال، فهو يقول انه يحتاج إلى من يعرفه النضار: الذهب من اللجين: الفضة، لان عهده بكل منهما بعيد جدا...وتعود هذه الحالة البائسة، كما يقول الشاعر الصوري، إلى «حرفة الشعر»، أي إلى تكسبه بالشعر، واحترافه تلك الصنعةالتي لا تؤتي سوى العوز والفقر، أو التنقل بين قصور أولي الأمر والمال، وبذل ماء الوجه لهم. وهذا الأمر لم يكن ابنغلبون يجيده، فعاش حياة من أدركتهم «حرفة الأدب»، من دون أن يجيدوا التعامل مع شروط «السوق» الأدبية بما تقتضيهمن إنتاج الشعر المناسب لها، ومن إتقان تسويق هذا الإنتاج، علاوة على إن عصر الشاعر كان، وكما يفيد شعره، يضعالمال في المرتبة الأولى من سلم القيم".
وللصوري أبيات يصور فيها معاناة المبدع الذي تضطره الحياة إلى التكسب بإبداعه حيث يقول:
أرى الليالي، إذا عاتبتها، جعلت
تمن أن جعلتني من أهل الأدب
وليس عند الليالي أن أقبح ما
صنعن بي أن جعلن الشعر مكتسبي
إن كان لابد من مدح فها أنا ذا
بحيث آمن في قولي من الكذب
ولكن إذا كان الواقع قد جعل المبدع في ذلك الزمان رهينة لمعاناته إن لم يجد طريقا إلى أهل السلطة والمال فهل يجوز تعميم الاستثناء الذي صنع تلك القاعدة أي هل كان كل المبدعين رهائن للمعاناة ؟ الجواب بالطبع لا فهناك الكثير من المبدعين الذين تجاوزوا تلك المقولة التي يحاول البعض اليوم جعلها رداءا يتدثرون به لإخفاء عجزهم عن الاندماج بالحياة وعدم الاستسلام لمظاهر الإبداع المزعومة التي التصقت ببعض المبدعين دون غيرهم وجعلت من المبدع فريسة لمعطيات غير حقيقية تحاول أن تجعل من كل مبدع مسيحا مزعوما يكابد الآلام والمعاناة في سبيل الآخرين الذين لا يشعرون بما قدمه لهم من تضحيات من أجل أن يرسم لهم أجمل صور الحياة التي لم يروها ولن يروها أبدا لولا احتراقاته اليومية.
تلك هي الصورة السائدة لمعاناة المبدع العربي عموما والتي تم استلهامها من قصص بعض المبدعين الغربيين الذي عانوا حياة الفقر والتسكع و(البوهيمية) أحيانا. فهل تلك الصورة هي المثال الذي نبحث عنه ؟ الواقع أن أكبر المشاكل التي يعاني منها بعض المبدعين اليمنيين أنهم يسعون وراء تلك المعاناة ضنا منهم أنها الطريق الحقيقي نحو الإبداع والشهرة وهو الأمر الذي كرس من معاناة المبدع اليمني وعله فريسة لوضع رضخ له وآخر كبله به المجتمع كنتيجة لصورته التي حاول البعض جعلها عنوانا: أي أن الأديب هو ذلك الذي يعيش حالة المعاناة التي هي جزء من طقوسه اليومية ذلك الذي لا يقبل بالواقع ويحاول التخلص من السائد حتى في الحصول على لقمة العيش ظنا منه أنهم يصنع لنفسه ملامح للتميز والواقع الذي يحاول أن يراه من زوايا لايراها غيره. والحقيقة أن محاولة بعض الأدباء الابتعاد عن الواقع المعاش بسلبياته وإيجابياته هي إحدى أبرز المشاكل التي تواجه المبدع اليمني الذي يفضل أن لايكون واقعيا في إطار سعيه لتتبع النموذج الغربي الشاذ الذي لم يعد هدفا ولا نموذجا حتى عند المبدع الغربي الذي أصبح عنصرا فاعلا في الحياة السياسية والاجتماعية في الغرب من خلال واقعيته وأداءه المهني الذي جعل من الأدب مهنة محترمة تدر عليه الموال والقراء والشهرة في آن واحد مع أنه –أي المبدع الغربي – لم يعد ذلك البوهيمي الذي ارتبط اسمه بالفاقة والتسكع فهو يطبع أعماله على أجهزة الكمبيوتر المحمول ويرسلها للنشر عبر البريد الالكتروني الذي يتلقى عن طريقه رسائل القراء.
المبدع في الغرب الذي بات يختار الأماكن الأكثر جمالا ليكتب أروع الأعمال التي مازالت محط أنظار القراء في العالم ارتضى لنفسه أن لايكون في موضع الضحية لذلك تبوأ مكانته المرموقة فيما لازال المبدع اليمني الذي يبحث عن أضيق الأزقة للكتابة فيها بحثا عن الإلهام المزعوم فريسة لواقع صنعه أولم يصنعه ولكنه ارتضاه على أقل تقدير.
وقد انعكست المعاناة الإبداعية المصطنعة على النص الإبداعي اليمني والعربي عموما نتيجة عدم الواقعية واستلهام المعاناة الزائفة من الخارج وليس من الواقع المحيط بالمبدع مما اثر على شكل ومضمون النص حيث تقول الدكتورة ثريا العريض في ذلك الشأن:" إن الاندفاعة نحو إشهار الانتماء الحداثي، أضافت مسافة سنوات بطيئة إلى مسيرة الإبداع المحلي وربما لو ركزت منذ البدء على تعميق ملامح ذاتية خاصة ومتميزة للإبداع المحلي بدلا من التركيز على إثبات الانتماء الحداثي في توق ساذج لمواكبة الإبداع العالمي، لترسخت بين المجموع المتلقي بتواصل وجداني أعمق وأكثر ايجابية وتقبلا، وربما أثرت الحركة الإبداعية العربية وأضافت إليها مستجدا حقيقيا متفردا وذا قيمة نوعية ولكنها، وهي تبحث عن التطور المشروع برؤية محدودة مربوطة بالمسيرة الثقافية في أوروبا، جاءت مواكبة سطحية تستعير القشور وتتجاوز معاناة المبدع العربي الخاصة في تباريح مجتمعه الخاص لتلبسه لغة مترجمة مستعارة بحذافيرها مضمونا وشكلا من إنتاج المبدعين خارج المؤثرات المحلية المباشرة".
الحل بوجه نظري يجب أن يكون مبنيا على عدة عناصر للخروج بالمبدع اليمني من الواقع الحالي الذي يتسم بالسوء وذلك من خلال التالي:
· أن يتعامل المبدع اليمني بواقعية مع الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحيط به كفرد من أفراد المجتمع وليس كحالة استثنائية وأن لا يرضخ لتلك الظروف على القاعدة الاستسلامية(المعاناة تولد الإبداع).
· أن لا يتعامل المبدع مع الإبداع كحرفة مالم تكن كذلك بالنسبة له وهو الأمر السائد في بلادنا وفي الوطن العربي عموما.وهنا يمكن الإشارة إلى تجربة روائي عربي كبير هو خيري شلبي الذي عمل في الكثير من المهن قبل احترافه الأدب في وقت متأخر عندما توفرت المناخات الناسبة لذلك حيث يقول:" في بداية حياتي عملت في العديد من المهن التي لا علاقة لها بالأدب والإبداع ولم يكن هدفي من وراء ذلك القيام بتجارب تفيدني في أعمالي الروائية ولكن كانت بهدف البحث عن لقمة العيش فقد عملت في جمع القطن ومنذ أن كنت طفلا صغيرا تعلمت مهنة الخياطة والحدادة ثم النجارة واستغلت لمدة ثلاثة مواسم مع عمال التراحيل وخلال تلك الفترة زرت معظم محافظات مصر".
· التعامل مع الإبداع كمهنة راقية في الحالات التي يكون فيها الإبداع مهنة للبعض من الكتاب أي أن تكون قائمة على أسس مهنية كما هو الحال بالنسبة للمبدعين في المجالات العلمية والفنية الأخرى.
· تعزيز دور النقابات الإبداعية كاتحاد الأدباء ليكون مؤسسة تعمل على حماية حقوق المبدعين عند وضع الاستراتيجيات المتعلقة بهم في القوانين واللوائح وأن لا يتحول الاتحاد إلى منظمة خيرية تتعامل مع منتسبيها كما تتعامل بعض المنظمات مع أصحاب الاحتياجات الخاصة.وهو الأمر الذي نعاني منه حاليا ففيما انشغل الاتحاد بتلبية مطالب شخصية لعدد من الأدباء تناسى قضية هامه مثارة على الواقع السياسي والمتمثلة بقانون الصحافة والمطبوعات الذي ألغى عقوبة حبس الصحافي في قضايا النشر وأغفل الحديث عن وضع الأدباء والناشرين.
· أخيرا لابد أن يستلهم المبدع أهميته ودوره البارز في المجتمع ولا يقع فريسة للصورة السلبية التي رسمها له البعض والمنطلقة من أسس قائمة على الدونية وجلد الذات.
· لابد أن لا يرتبط الحديث عن معاناة المبدع اليمني بحالات خاصة بل أن يكون ذلك الطرح في سبيل صنع قضايا استراتيجية وليست آنية تخدم واقع المبدع الكلي والمستقبلي.
· حصر معاناة المبدع في معاناته الإبداعية التي لايعاني منها كل المجتمع المحيط به كما هو الحال في المعاناة الاقتصادية والاجتماعية والتي يحلو لبعض الأدباء أخذها وسيلة للشكوى الدائمة متناسين معاناتهم الحقيقية التي يتحدث عنها ماركيز في روايته (خريف البطريرك) التي يقول بأنها أصعب أعماله، وانه كثيراً ما كان يكتب خمسة سطور فقط في اليوم الواحد، وفي أحيان كثيرة كان يمزق تلك السطور في اليوم التالي، ومن هنا ندرك حجم المعاناة، معاناة المبدع في أجمل (ورطة) إبداعية في حياته الغنية بالفرح الحزين كما يعلق الكاتب عبد الستار ناصر.
الإثنين يوليو 01, 2013 7:52 am من طرف سميح القاسم