تخبرنا التراجيديا الانفعالية الحادة، التي ميزت عموم التلقي الشعبي العربي لعملية إعدام صدام حسين، كم هو الاحتياج أصيل في المزاج العام لبطل!!. وهو انفعال وهياج قائم في هذا الحدث، ويستبطن هذه الرغبة، بغض النظر عن ذلك التشفي البغيض، والمهيج للمشاعر، الذي رافق هذا الإعدام كسبب مباشر له.
إن هذه الرغبة العارمة بالاحتفاء ببطل، و شهيد، كانت صامته ومدفونة منذ أخر العهد بالثورات العربية ضد الاستعمار، وتلك المشاهد الحماسية لإعدام الثوار بالساحات، والتي تستعيدها الذاكرة الجماعية بإصرار وافتتان. ويبدو أن هذا البطل الشهيد، رمز الوطن والقضية والكرامة المفترضة، لم يعد يُكتفا باستعادته، وملئ الفراغ الذي خلفه، عبر الدراما التلفزيونية العربية، التي بدأت تستنزفه، وتكرره، وتقتل نموذجه الاستثنائي بالنسبة للجماهير. واستعادته هي ليست حاجة طارئه، بل حقيقية يتغذى عليها المخيال العربي شديد العطش لهكذا نموذج. فجزء أساسي من احتمال "العربي"، وقدرته على التعايش المضني فعلاً مع هذا الخذلان العام، على كافة المستويات والمجالات، الذي يستولي على حياته، يكمن في استبطان يقيني لديه، يرهن انتصاره على كل ذلك بعودة البطل المخلص!!. فالحل لتجاوز هذا الخذلان بالنسبة له، لا يمكن أن يصبح أبداً في تنشيط ممارسه نقدية تجاه جذور "الحال"، أو في سعي فردي، وجماعي لابتكار الخيارات، وتنفيذ أفكار متنوعة تنقذه مما هو عليه، بل هو كامن في هذا المخلص القومي أو الديني المبشر به في الميثولوجيا الدينية والشعبية شديدة الرسوخ في المخيال العام. إنه ذلك الفرد الخارق، النبي في القوم، والذي فيه تتكثف مصائر المجموع وأحلامه، ودونه يصبح البيت بلا عمود، والقطيع بلا راعي، كما تحب البلاغة السائدة أن تصف الحال في غيابه، أو انتظاره!!.
نفذ الإعدام في صدام حسين شنقاً، ورغم انه لم ينفذ في ساحة عامه، فقد تكفل التلفاز بتحويل ساحة كل منزل في أرجاء المعمورة لساحة عامه مليئة بالانفعال الحماسي، وهو كان متحدياً حتى اللحظة الأخيرة، تحدي من لم يعد لديه ما يخسره، ولم يتبقى لديه سوى تسجيل هذا الموقف الأخير. وكان في ذلك تقاطعاً فريداً من حيث المشهد مع واقعة إعدام عمر المختار، النموذج الأشهر عربياً للبطل الشهيد الذي تم إعدامه شنقاً. وهو الذي تمت استعادة مشهدية إعدامه "البطولية" في السينما العربية بشكل لافت، مما زرعها عميقاً في وعي الناس، وجعلها مصيراً مشتهى لأي بطل. وهو تقاطع غذى بشكل سري من رمزية إعدام صدام، وعزز من هذه الاحتفائيه الحزينة به، خصوصاً وان "العرب" لم يتلقوا منذ فترة طويلة موتاً حماسياً، وحزيناً، وشديد الرمزية بهذا القدر الذي حدث صبيحة أول أيام عيد الأضحى. لقد تم تحويل صدام حسين إلى شهيد، وتم إنقاذه بهذا الإعدام من دائرة التنازع حول سيرته، لينقل إلى دائرة الإجماع بموته.
الإجماع الذي خلصه من سجل خطاياه المأساوية، ليحتفي به الان كبطل وشجاع. البطل الشجاع الذي حتى ولو طوح بسيفه في الاتجاه الخطأ، وقتل أبرياء، يبقى البطل. والذي تحميه شجاعته من المُسألة، والإدانة. ويتم تثبيت نبل القضية المفترضة الذي يُمثلها بإثبات كونه شجاعاً حتى لحظته الأخيرة، وهي لحظه "تجب" ما قبلها، وحتى ضحايا أخطاءه يغفرون له، فالمسألة لم تعد شخصية بعد ذلك، فهذه الشجاعة تصبح جزء من رأسمال المجموع، ورمزية وجوده، والتي يُضحى لصالحها بكل غالي وعزيز!!.
ألا يبدو (مشعان الجبوري) صاحب قناة الزوراء، وصحيفة الاتجاه الأخر، والمعارض العتيد لنظام صدام حسين، الذي قتل أخاه، وأخريين من أفراد عائلته، نموذجاً لذلك، شخصاً يهب ثأره لثار الجماعة، فقط لان خصمه أصبح بطلها. لقد تماهى كضحية في جلاده، لان جلاده شجاع، ولكونه رمز للتحدي ضد الجلادين الجدد، ولأنه تحول بكل ذلك إلى بطل وشهيد، قدم قرباناً عن الأمة، وفي دمه الذي أريق يُهدر عزها.
اعترض شخصياً على الإعدام كأداة عقابية لأسباب مختلفة، ولكن لست في موقع نقاش أسباب ذلك الان، وامتداداً لهذا اعترض على إعدام صادم حسين، وبرأيّ أن هذا الإعدام، اعدم أيضاً الرمزية الشديدة التي كان يمكن أن ينتجها مثلاً "حبس" أول زعيم عربي، لسلوكه الديكتاتوري وأخطاءه السياسية، وبدل أن تكون هذه المحاكمة مدخلاً لمحاكمة حقبة ما بعد الاستقلال العربي، بأخطائها المدمرة لمستقبل هذه المنطقة وحاضرها، فهي بقرار الإعدام الغبي، حولت هذه الحقبة لمنطقة مُغلقة، وأنتجت حماية رمزية شديدة الفعالية لمجموعة من رموزها "النضاليين" بكل ديكتاتوريتهم، وأصبح من الكفاية لإنقاذ أي واحد منهم من المُسألة استعادة اعتراضاته البلاغية ضد أمريكا، حتى ول استتبع ذلك إفراغ بلده من كل مقومات الحياة، وتخريبها تماماً. فهي الشيطان الأكبر، وأخطائهم على جسامتها كانت "مقاومة" يجب احترامها، وحتى تقديسها، مهما كانت فاتورتها مكلفه!!.
إن المرجعية الضمنية لهذا العطش لبطل وشهيد، تكمن في ثقافة وموروث يُعلي من قيم الموت أكثر من الحياة، ويؤكد على رمزية القضايا المقترنة ببذل الروح، أكثر من تلك التي ترتبط بالحفاظ عليها، وهي ثقافة يصمت فيها الفرد، ويغيب مصيره الشخصي،و لا تُعلى قيمته سوى حين يتمثل " العام " فيه، وينطق باسمه في لحظات الأزمة، حيث يصبح شرف المجموع مُعلقاً إلى نبرته الصوتية، ومقدار ارتفاعها في الذود عنه لا أكثر. وهي ثقافة متبطله وكسولة، تكتفي بالاستعادة الدرامية لمصير شهدائها، ورمزية تضحيتهم عنها، وتتغذى من تكرار التفجع عليهم، والاستيلاء على حياة الناس بتقديسهم!!