يا ضحكةً وطيوبْ
يا غيمةً خضراءْ
كُنْ مِثلَ عينيَ
مُلْفِتاً بالدمعِ
أنظارَ الدِّلاءْ !
***
لستُ بحاجةٍ الى حمَّامٍ ساخنٍ فجسدي وقد استيقظ في منتصف الليل مرتعباً أخذ حمّاماً من العَرَق البلُّوري البارد على أحسن ما يكون ولستُ بحاجةٍ الى غسل ملابسي فهي كما أراها ملابسُ مَن طابتْ له السباحة بها فقطعَ الدانوب جيئةً وذهاباً عدة مراتٍ ثم جلس على الضفة ليجفِّفَ ملابسهُ وليستريح ,
ولكنَّ الدانوب بعيدٌ عني , هنا نهر الراين , فكيف أحسَّتْ أصابعي بالبعيد بينما القريب يدورُ فيها كالخواتم ولا تحسُّ به ؟
الراين الذي تَطلعُ من خطواتهِ الفصولُ , وأمواجُهُ التي تكفكف عني دموعَ الوحشة !
قدحُ ماءٍ , قدحُ ماء وسيجارةٌ في غرفة التدخين , لا بدّ .
السيجارة ؟ كم عدد السجائر التي دخَّنتُها في حياتي ؟
قال لي أحد الظرفاء يوماً : إنك مِن أشهر المساهمين في تلويث البيئة , إنك خطر على البيئة . فأجبتُهُ : قد يكون صحيحاً ولكنَّ دخاني مهما كَثُرَ لن يصل الى تأثير إطلاقةِ مدفعٍ واحدة , ثمَّ لماذا يجيء التحذير من مخاطر تلوث البيئة وغيرها دائماً بعد فوات الآوان ؟
تعال ودخِّنْ معي وسترى كم نحن عُزَّلٌ !
عندما ينام المرء وهو غير مطمئن على سؤالٍ مهمٍّ في حياتهِ او قضية شبه حاسمة تَرَكَها خلفَهُ مضطرَّاً او لم ينجزها تماماً ولكن فَعَلَ كلَّ ما باستطاعته من أجلها ويبقى أن يجيب عنها الغدُ
فهنا تتجلّى سادية اللاشعور في فضاءات الأحلام فهو كثيراً ما ينتقي للنائم جراحَ ماضيه السحيق وما اعتقدَ بأنه بات في عِداد الذكريات ( المتجاوَزة ) فاذا بالأحلام دموعٌ وضحايا وانفجارات !
هديةُ النصف الأوّل من الليل لي كانت متواليةً من الكوابيس , وحالتي الآن أفضل باستثناء ما عَلِقَ في ثيابي من دماءٍ وقطعةِ لحمٍ من جسدِ جنديٍّ احتفظتُ بها لأعرضها على الطبيب فيما بعد علَّهُ يُزيد من كمية الدواء .
هذا الصباح ليس كغيره من صباحات هذا المستشفى ,
نظرتُ من النافذة وبجانبي ربَّةُ الشفاء ,
قلتُ لها عند شروق الشمس : قد سبقتْني الشمس الى الشروق , نعم , أنا أُشرقُ أيضاً , انا مَن يحرق نفسه بتساؤلاتِ الكون الكئيبة .
قالتْ الربَّة : خُذْ فترةَ استراحةٍ , فترةَ بكاءٍ ,
او لو يمَّمتَ روحَكَ نحو الدفء , تناولْ فنجان قهوة ,
إنك كمَن يستميتُ من أجل فكرةٍ محدَّدةٍ ولكني ربما سأُعِينكَ .
فقلتُ : أيتها الرَّبَّة , وجودُك يبعثُ الأمل وإنْ بشكلٍ مُبهَمٍ
وإلاّ فمَن يعوم في نهرٍ تتلاصق ضفتاهُ !؟
ونظرتُ الى مَن حولي ,
المرضى هذا الصباحَ نظيفون كالقطط المنزلية , إنَّ صحتهم في تحسُّنٍ . أحسُّ بهذا من خلال تأنُّقهم غير المعهود .
إنهم إنما يفعلون ذلك لتهيئة النفْس مجدَّداً للدخول في بوتقة الحياة التي صهرتْهم هذه المرة بقسوة ! او هم هنا وكأنَّ المشفى مُقامٌ للتطَهُّر من آثام لم يقترفوها .
إنني أفهمهم بل أجد بهم سلوى أحياناً مع أنهم يَبدون ظلَّ وجودٍ , ضبابَ معانٍ , واحدٌ منهم كان مجنونَ الروح ومتفائلاً بوعيٍ وكانت لي جولةُ نقاشاتٍ رائعة معهُ ولكنهُ تعافى فخرجَ قبل أيامٍ وقبل خروجه قال لي مازحاً وما زالتْ عليه مَسحةٌ من ضعفٍ :
لا حاجة للتوديع فمثلي لن يتأخر في العودة !
أنظري ,
مِن بين ما احترتُ به هو إيجادُ صفةٍ لإنسان العصر , خاصةً الغربيِّ منه فأقول عنه لقد استغرَقَتْهُ منجزاتُ حضارتهِ فهو مندهشٌ بها وبقيتُ غير مقتنعٍ بهذا التوصيف حتى عثرتُ على عبارةٍ شبه شافيةٍ لأحد مُفكِّريهم فهو يقول ما عُدنا نعرف الدهشة كالسابق , إنسانُ اليوم ليس مندهشاً وإنما مصعوق .
وتَلْتَفِتُ الى الشرقِ الذي حالفَهُ النكدُ فتجد جُلَّ طموح الزعيم فيه هو إقناع الناس بعماء الغرب فيما هو - أيْ الزعيم – في حقيقتهِ مستعدٌّ لإستقدام كلِّ عَرّافات الدنيا وسَحَرَتِها من أجل الحصولَ على ( قبسٍ ) ضئيلٍ من هذا العماء ليثبتَ للناس عظمتَهُ وضرورتَهُ التأريخية !
وكما ترين ... ولكني آمل بإنقاذ قلبٍ من براثن كَمّاشتين او هو قلبٌ يتصدَّع كَجَوزةٍ أطبقتْ عليها كَسَّارةٌ !
قالتْ الربة : الأمل , نعم , عدا ذلك لِمَ الكتابة أصلاً ؟
قلتُ : صحيح , مع أني لستُ كزميلي السابق بتفاؤلهِ والذي تعافى فخرج فهو يدرك المأزق - السخرية ولكنه لا يبالي أمّا انا فيبدو أنَّ سِرَّاً ما جعلني مُبالياً وتتعمَّق هذه القضية بعضَ الأحيان خصوصاً اذا توجَّبَ عليَّ أن أعيش وفْقَ دساتير الناس أيْ أنْ أبتلع ضفدعةً كلَّ صباحٍ ! بتعبير إميل زولا , بل حتى هذه الضفدعة قد يكون ابتلاعُها هَيِّناً فالمتنبي يقول :
اذا ما الناسُ جرَّبَهُمْ لبيبٌ
فإني قد أكلتُهُمُ وذاقا
قالت الربة : ها انت تعود ثمانية عشر عاماً الى الوراء :
عُلبةُ كبريتٍ أنا ,
والناسُ عيدانُ ثِقابٍ
مَن يحتكَّ منهُم بي
لا بُدَّ أنْ يحتَرق !
***
كلُّ الناس يعيشونَ يومِيَّاً
ليموتوا غَداً
إلاّ انا .....
أموتُ يوميّاً
لأَعيشَ غَدا !
-----------
قلتُ : هاتان جملتان من نصٍّ كتبتُهُ لأستفزَّ نفسي بهِ وكنتُ أردِّدهُ كلَّما وهنتْ عزيمتي
وقد خطرتْ في بالي كتابتُهُ أيَّامَ كان الأحياء أقلَّ عدداً وقد يكتبُ ميتٌ عن أحياء !
إبتسمتْ الربَّةُ وهي تحمل حقيبتَها الضوئية قائلةً : أعتقد أنَّ للموت وجوهاً متعدِّدة .
ما عليك إلاّ أنْ توسِّعَ الأركان والمسرى لحريتك فلا تصبح هذه الحرية محضَ ضيف يزورك أحياناً فتبتهج به .
سألتُ : وكيف ؟
أجابتْ : سواء أكان نصفُ القَدَح فارغاً ام ممتلئاً , ففي الحالتين هناك في القدح ( شيءٌ ) وأتركُ لك اختيارَ طريقةِ النظر الصحيحة اليه .
قلتُ : مازال لديَّ الكثير الذي يجب أنْ أقولَهُ لك أيتها الربة .
كان جمعٌ من أطيارٍ يظهر من وراء الأفق رويداً رويداً كالأعلام الصغيرة فتداعتْ في الذاكرة بحيراتُ هامبورغ والأحاسيس الطافحة السابقة وانا أتمشّى على الضفاف , بحيراتٌ نَشوى وبجعٌ جَذِلٌ وعلى الجوانب تتقاطرُ أصداءُ رعودٍ ,
رعودٍ تعصرُها أَكُفُّ الغابات .
هناك أحسستُ برغبةٍ عنيفة في أنْ أَهِبَ كياني كُلَّهُ للحياة كأنْ أُصبح حبةَ رملٍ او نحلةً او ثمرةً او صداحاً او حتى نعيقَ غراب !
الخميس أكتوبر 14, 2010 4:34 pm من طرف سميح القاسم