يعود الجدل اليوم في كثير من بلاد العالم الإسلامي، وبصفة أخص في بلدان المغرب العربي، إلى مسألة قديمة، تاريخ بداية ظهورها قرنان، وهي مسألة الدعوة الوهابية. ويأخذ الأمر منذ بضع سنوات خلت حساسية خاصة بفعل المضامين التي تبثها قنوات فضائية موحدة الرؤية والتمويل ونشريات، سمعية ومقروءة، توزع بكثافة عندما تجد إلى ذلك سبيلا، وما أكثر وأوسع السبل التي غدت تجدها. بالنسبة للكثيرين لم يعد هناك من ريب في ما أضحى يبذل من مجهودات لنشر بعض الدعوات الدينية في بلادنا، وهي مجهودات واضحة لكل من يريد أن يرى. وسواء كانت هذه الدعوات شيعية أو سنية، فإنها تبقى في طابعها العام مستفزة لمن يستطيع أن يرى من موقعه الراهن إمكانات الخطر القادم.
ليس في ظننا أننا بهذا المقال ننهي جدلا، أو نسهم فيه، من منطلق ديني أو مذهبي، فهذا الأمر خارج عن قدرتنا، ولا يحتل من أولياتنا أي محلّ. إنما نهدف إلى استقراء لمخاطر نراها رأي العين، ومهاوي نخشى على بلدنا وشبابنا أن ينحدرا في غياهبها، وما كان أغنانا عن ذلك لولا اشتداد تلك الدعوات وولوجها البيوت وانتصابها مواضيع نقاش في المقاهي وزوايا الشوارع.
على أن الناظر في التاريخ يعلم، دون إفراط ثقة، أنه وإن استعصت تونس طيلة تاريخها الديني على الأفكار المتطرفة، التي تنحى بالمعتقد منحى المبالغة، فإن الأمر لا يجب أن يحجب عنا أن شبابها ظل باستمرار عرضة لإغراء دعاة تلك التوجهات، وهو وإن استطاع الصمود ردحا من الزمن بفعل انتشار الفكر النقدي وسيادة قيم المدرسة الحديثة، فإنه اليوم يبقى أكثر من أي وقت مضى، عرضة لكل الأهواء ومحط تجاذب قوي لمختلف النحل. هناك شيء اسمه بيئة تونسية وخصوصية تونسية، جعلت هذه البلاد، على مدى تاريخها، وسطية في معتقدها، سواء تعلق الأمر بالإسلام، أو حتى قبله بالمسيحية. هذه البيئة حتمت خصوصياتها عوامل عدة ليس أقلها قيمة طبيعة موقع البلاد الذي جعلها في ملتقى التيارات حول المتوسط، بؤرة العالم ومنبع الديانات. لا يتعلق الأمر هنا بمفهوم الفسيفساء الحضارية المائع، وإنما بمفهوم صياغة ثقافة خاصة تستوعب المحيط ولا تتبناه بالضرورة، تهضمه ولا يهضمها، تنتقي منه ما يروق طبيعتها المعتدلة فتصوغه جزءا من ثقافتها وشخصيتها الحضارية المتميزة.
عندما ننظر إلى طبيعة استقبال علماء تونس في مطلع القرن التاسع عشر "للرسالة الوهابية"، تلك التي أرسلها سعود بن عبد العزيز بن سعود إلى باي تونس حمودة باشا الحسيني (1795-1814) في أواخر عهده، في إطار دعوته ملوك البلاد الإسلامية إلى تبني "المذهب" الوهابي (ويقال أن محررها كان محمد بن عبد الوهاب نفسه)، وذلك على شاكلة رسالة "أسلم تسلم" التي بعث بها الرسول إلى ملوك الأرض في بداية الدعوة الإسلامية، فإننا نجد تأصيلا لتلك الثقافة الدينية التونسية التي رمز إليها بعض رجال الشرع وعلماء الدين من خلال الرد المطول الذي خصصوه لتلك الرسالة، وهو رد يمكن أن تستلهم منه اليوم الكثير من المبادئ التي تكفي لإفحام كل المغالين، على المستوى الديني الفقهي نفسه.
لقد جاءت هذه الرسالة في بداية الدعوة الوهابية بالجزيرة العربية، وغداة إعلان القبائل الحليفة للسعوديين الحرب على العثمانيين والقبائل والمدن المتحالفة معهم، استنادا إلى مبدأ مقاومة البدع، وهو معنى من الإتساع بحيث يمكن أن يغطي أوسع المجالات وأكثرها تنوعا، إذ لا تعريف مضبوط يحدد البدعة في الزمان والمكان، وإنما تقديرات آنية بحسب المصلحة والأهداف.
احتوت رسالة سعود بن عبد العزيز بن سعود التي وجهت إلى باي تونس وداي الجزائر وسلطان المغرب على جملة من المآخذ على عقائد المسلمين بهذه البلاد، ولم يكن باعث الرسالة ممن زاروها، بل ربما لم يزرها من أتباعه وأصحابه أحد، فجاءت رجما بالغيب وتعبيرا عن جهل بطبيعة تدين المسلمين بها، وصفحا عن ماضي العلم بأقطارهم، وقد كان فيها من العلماء، على مر العصور، ما لم يبلغ شأنه أحد من أهل الجزيرة. بل إنه مر على الجزيرة زمن كانت تدفع فيه بالخراج إلى الحفصيين بتونس، تلك الدولة التي امتد سلطانها أوسع امتداد وقد كانت هي ذاتها تواصلا للدعوة الموحدية التي رغم انتسابها إلى مقاومة البدع إلا أنها لم تقع في ما وقع فيه أولئك من تكفير للناس بالشبهة واستحلال لدمائهم وأملاكهم وأعراضهم.
جاء في "إتحاف الزمان.." قول ابن أبي الضياف في تقديمه لأمر الرسالة الوهابية والرد عليها، تعريفا بصاحب الدعوة قوله: "وترامت بهذا الرجل الأسفار إلى أن استقر بالدرعية من أرض نجد، فصادف بها آذانا واعية، وقلوبا من العلم خاوية، وألقى لكبيرهم سعود هذا المذهب، واستدل له بظواهر آيات وأحاديث اغتر بها عامتهم حتى استباحوا قتال المسلمين. ولم يزل هذا المذهب ينمو إلى أن أفضى الأمر لسعود بن عبد العزيز بن سعود، القائم الأول، فعظم الأمر في زمنه، ونصب حربا للمسلمين عموما، ولأهل الحجاز خصوصا، وصدوهم عن بيت الله الحرام، وعاث في أهل الحجاز، وأطلق يد القتل والنهب فيهم. واستحكم هذا المذهب في قلوب أتباعه، والتحموا به التحام النسب. واشتدت عصبيتهم وقويت، فطلبوا غايتها وهي الملك والسلطان" (الإتحاف، ص 82). ثم يضيف قبل إيراد رد علماء تونس على تلك الرسالة "ولم يفرق بين البدعة الموصلة إلى الكفر، المقتضي للقتال، واستباحة الدماء والأموال، وبين غيرها، وإنما قصد ملكا يريد الحصول عليه بعصبية دينية" (ص 85(
من هنا فإن ما ركز عليه ابن أبي الضياف، بحسّه الخلدوني النقدي، ومن منطلق العلم الشرعي في الآن نفسه، هو الخلط الواقع في أذهان أصحاب الدعوة بين البدع ذاتها، بحسب طبيعتها ومؤداها وعلاقتها بمبدأ التوحيد، ثم المغالطة التي تريد الإقناع بأن كل الحركة كانت من أجل الدعوة، في حين أن كل الدعوة كانت من أجل الحركة، أي اتجاه المجهود، حربا أو دعاية، إلى تمتين السلطة بالعصبية الدينية، وهي عصبية أدرك المسلمون أكثر من غيرهم خطورتها كلما ارتبطت بمشروع سلطة. وهكذا فقد جاءت الدعوة الوهابية نتاج تحالف بين قراءة حرفية وتجزيئية للدين الإسلامي، وبين طموح الدولة لدى قبائل بدوية، فكان الأمر كما عبرت عنه زوجة سعود نفسه عندما التقى للمرة الأولى بمحمد بن عبد الوهاب: " هذا الرجل ساقه الله إليك وهو غنيمة فاغتنم ما خصك الله به".
وكان ابن أبي الضياف قد ابتدأ أمر الحديث في هذا الموضوع بذكر الحرب التي اندلعت بين محمد علي باشا، حاكم مصر، وبين أنصار ابن عبد الوهاب، حيث وردت "البشائر" من الدولة العثمانية "بأخذ الحرمين الشريفين من يد الوهابي"، فكان ذلك مدعاة لسرور الأهالي وأطلقت المدافع بالحاضرة استبشارا بذلك في 13 جوان 1814(ص 81). كما لم تعوز ابن أبي الضياف عبارات الثناء على محمد علي باشا الذي انتصر على الوهابيين بعد أن أعجز أمرهم السلطان العثماني، حيث يصفه "برجل الدنيا وواحدها الطائر الصيت في جهات المعمور، من رد الله به إلى مصر شبابها" ( ص 97). والحقيقة أن ابن أبي الضياف لا ينتصر بذلك فقط لمبدأ السلطة الشرعية في محاربة الخارجين عليها وإنما يتعلق الأمر باعتبار الدعوة الوهابية نقيضا لدعوة التحديث التي رمز إليها حكم محمد علي باشا، وهي دعوة كانت لها تأثيرات بالغة في أوساط النخبة الإصلاحية التونسية التي استطاعت التمييز، بصفة مبكرة نسبيا، بين ظواهر الأشياء وبواطنها. كان موقف علماء تونس من الرسالة الوهابية متجانسا مع هذه النظرة، ولكن من منطلق شرعي أشد تأصيلا في الثقافة الدينية، وهي ثقافة فهم التونسيون منذ زمن بعيد أنها لا تبيح قتال المسلمين لاختلاف في الرأي، باعتبار أن أموالهم ودماءهم وأموالهم حرمات معصومة بمنطوق الشرع وروحه.
إن رسالة علماء تونس وثيقة ينبغي أن تعود للتداول، ذلك أن مضمونها أوسع من الرد الآني الذي استوجبها بل هو يتجاوزه ليقدم قراءة فيها الكثير من الاتزان والوسطية المتلائمتين مع فهم للإسلام بعيد عن التوتر غير المبرر، اللهم إلا بمقتضيات السياسة وسراديب المصالح الخاصة التي تريد أن تبدو عامة. إن ما يثير الانتباه في هذه الردود، وبخاصة في رد الشيخ قاسم المحجوب مفتي المذهب المالكي، استناده إلى مبادئ شديدة الوضوح والبساطة، وإعراضه عن الجدل الخاوي من المضمون، بحيث بدا لنا أن هذه الرسالة كان ينبغي أن تكون مصدر فخر لمن تلقاها، لو استطاع الولوج إلى معناها، ذلك أنها رسالة في فهم شديد الوضوح للشريعة لا يمنعه عمق الأصول التي يستند إليها عن الوضوح والإيجاز والاقتصار على المفيد من القول دون كثير تعقيد. كما أن هذه الرسالة، خارج السياق الديني تماما، انتصار لا شك فيه لفلسفة الحقوق والفصل بين ما هو مطلق وما هو نسبي، وتقديم للإجماع على ما هو دونه من غايات، أي تفضيل البسيط المجمع عليه على المعقد الذي يكون مصدر فتنة. من منطلق التنسيب التاريخي ليس من الجائز أن نقارن بين "قراءتين" للإسلام احتوت الرسالة الوهابية على أولاهما، وضمنت الثانية في رد الشيخ المفتي قاسم المحجوب، ذلك أن الفارق بين الرجلين، علما ونظرا واتساع أفق، هو من الوضوح والجلاء بما يجعل أية مقارنة خاوية على عروشها واعتداء على سلامة الحس والمنطق.
وإذا ما أوجزنا رد الشيخ المحجوب لأمكننا ضبط أفكاره ومنطلقاته في نقاط قليلة ولكنها مهيكلة في بناء متين لم تعوز صاحبه القدرة على التبسيط رغم غزير علم بالشرع:
- تقديم "القراءة الوهابية" لمسألة مكافحة "البدع" ونقضها بالاستناد إلى "كتاب الله المحكم، وإلى السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم".
-إبراز التناقض بين الدعوة المذكورة بوصفها كما تقدم نفسها تواصلا للإسلام الصحيح، وبين إغراقها في الاعتداء على حرمات المسلمين واستحلال دمائهم: "أما ما أقدمت عليه من قتال أهل الإسلام، وإخافة أهل البلد الحرام، والتسلط على المعتصمين بكلمتي الشهادة، وأدمتم ‘ضرام الحرب بين المسلمين وإيقاده، فقد اشتريتم في ذلك حطام الدنيا والآخرة، ووقعتم بذلك في الكبائر المتكاثرة، وفرقتم كلمة المسلمين، وخلعتم من أعناقكم ربقة الطاعة والدين".
- قدح الوهابيين في الصحابة يسقط التواصل في الدعوة: "وإذا قدحت في هذا الجمع من الصحابة الذين منهم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهما، فمن أين وصل لك هذا الدين".
- اعتبار تقييم بعض السلوكات الدينية بوصفها من الدين ومن بدع المسلمين أمرا يعود إلى قراءة لا ينبغي أن تفرض نفسها طالما كانت موضع اختلاف، وضرورة البحث عما يوحد بين المسلمين لا عما ينقض عرى وحدتهم ويحيل تعايشهم حروبا وفتنا: " فإذا انفتحت لك هذه الأبواب، نظرت بنظر آخر ليس فيه ارتياب، وهو أن المنكر الذي اقتضى نظرك تغييره، ليس متفقا عليه عند أهل البصيرة، وأنه من مدارك الاجتهاد، وقد سقط عنك القيام فيه والانتقاد. ثم بعد الوصول إلى هذا المقام، أعد النظر في إيقاد نار الحرب بين أهل الإسلام، واستباحة المسجد الحرام، وإخافة أهل الحرمين الشريفين، والاستهوان لإصابة لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فسيتضح لك أنك غيرت المنكر في زعمك، وبحسب اعتقادك وفهمك، وأتيت بجمل كثيرة من المناكر، وطائفة عديدة من من الكبائر، آذيت بها نفسك والمسلمين، وابتغيت بها غير سبيل المؤمنين".
- إبراز ضعف السند الشرعي والفقهي "للقراءة" الوهابية لمسألة البدعة والابتداع واعتباره ناتجا عن قلة علم، بل عن جهل بأصول القراءة الأولية لمصادر التشريع: "وأما تلميحكم للأحاديث التي تتلقفونها، ولا تحسنونها ولا تعرفونها، فهمتم بسبب ذلك في أودية الضلالة، ولم تشيموا بها إلا بروق الجهالة، وسلكتم شعابها من غير خبير، ونحوتم أبوابها بلا تدبر ولا تدبير".
- تكذيب صريح لمبدأ الفرقة الناجية التي اعتقدت الوهابية أنها هي بل واللمز إلى أن تلك الفرقة، إن صحت، فإنها تكون من بلاد المغرب وليس من المشرق، بمنطوق الحديث النبوي نفسه.
- رفض تهديدات الوهابية الموجهة إلى مسلمي تونس في حالة عدم الإنصياع لدعوتها وإبراز الإستعداد لمقاومة أي عدوان، من منطلق الثقة في سلامة القراءة، والحق في الدفاع عن النفس والحرمات، مع التأكيد على انتماء الممارسات الدينية في تونس لدائرة الشرع الصحيح: "أما أهل هذه الأصقاع، والذين بأيديهم مقاليد هذه البقاع، فهم أجدر أن يكونوا من إخواننا، وتمتد أيديهم إلى خوانها، لصحة عقائدهم السنية، واتباعهم سبيل الشريعة المحمدية، ونبذهم الابتداع في الدين، وانقيادهم لإجماع وسبيل المؤمنين".
يرمز رد علماء تونس على الرسالة الوهابية إلى بيئة كاملة نخشى أن زوال بعض مضامينها يترك اليوم جزءا واسعا من شبابنا عرضة لرياح البداوة الدينية ويعصف بمميزات ثقافة دينية وسطية لم يعرف التوتر إليها سبيلا طيلة قرون عديدة من الممارسة. نعني بتلك العناصر الزائلة "الزيتونة"، المؤسسة الدينية الأولى في البلاد التي كان بإمكانها مقارعة مثل تلك الدعاوي من داخل النسق الديني ذاته. ولا ينفع هنا شيئا القول بأن انتقال المجتمع إلى الحداثة هو الحل الأمثل لتلك الثقافة، ذلك أنه في انتظار أن يحل بيننا ركب الحداثة ويستقر عندنا دون رجعة، سيكون كل شيء يرمز إلى ذلك الفهم للإسلام قد اندثر تماما، ليس لصالح الحداثة المفترضة، ولكن لصالح البداوة. هل مازال بإمكان المؤسسة الدينية الحالية في تونس (سلطة الإفتاء)، برغم شدة ارتباطها بالمؤسسات الرسمية القائمة وبرغم اعتبارها سياسية أكثر منها دينية أن تضطلع بدور مواجهة مثل هذه الحملات التي يشتد عودها يوما بعد يوم؟ إنها إنما تتحرك في فضاء مفتوح، لا يعيق زحفها عائق، سوى نوع من الامتعاض الفطري من سلوكات المبالغة والحرفية الدينية، وهو امتعاض لا يكفي مطلقا لمنعها من التعشيش والتفريخ، في شكل بعض الطقوس الآن، وفي شكل أكثر خطرا وتهديدا للاستقرار العام لاحقا. كم هي بعيدة عن أذهاننا تلك الفكرة التي تعتبر استخدام القوة الرسمية حلا لمقاومة الفكرة، مهما كانت تلك الفكرة هامشية وخاوية. ذلك أننا نعتقد أنه لا يمكن مقارعة الفكر إلا بالفكر، وأن لا نجاح لمقاومة التطرف إلا بتغليب الفكر المعتدل ونشر الفكر النقدي الذي لا يبدي بالضرورة عداء أو تجاهلا للمعتقد في أصله، فالترياق ينبغي أن يأتي من داخل النسق، ولا ينفع البتر في مثل هذه الحالات شيئا.