من المقرر في قواعد الشريعة المقررة في القرآن الكريم أن ميزان التفاضل والمنافسة بين الناس هو التقوى والعمل الصالح؛ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].
ومن المقرر أيضًا في
السنة النبوية أن العرب مُفضَّلون على غيرهم من الأجناس؛ فقد اختار الله سبحانه وتعالى النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم من العرب، وجعل القرآن عربيًّا، واتفق أهل السنة والجماعة على أفضلية العرب على غيرهم من الأعراق والأنساب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن بني هاشم أفضل قريش، وقريشًا أفضل العرب، والعرب أفضل بني آدم"
[1].
وليس بين التقريرين السابقين تعارضٌ: فتفضيل العرب هو تفضيل جنسٍ، وليس تفضيل أفرادٍ؛ فالعجمي الـمُتَّقي الصالح خيرٌ من العربي المقصِّر في حق الله تعالى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كل فردٍ أفضل من كل فردٍ؛ فإن في غير العرب خلقًا كثيرًا خيرًا من أكثر العرب، وفي غير قريش من المهاجرين والأنصار من هو خيرٌ من أكثر قريش، وفي غير بني هاشم مِن قريش وغير قريش مَن هو خير مِن أكثر بني هاشم"
[2].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم: عبرانيِّهم، وسريانيِّهم، رومِهم، وفُرسِهم، وغيرهم، وأن قريشًا أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم؛ فهو أفضل الخَلق نفسًا، وأفضلهم نسبًا، وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم لمجردِ كون النبي صلى الله عليه وسلم منهم - وإن كان هذا من الفضل - بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك ثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفضل نَفْسًا ونسَبًا، وإلا لزِم الدور"
[3].
والدليل على فضل جنس العرب على وجه العموم لا الخصوص؛ عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله اصطفى كِنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريشٍ بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم))
[4].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الناس تبعٌ لقريشٍ في هذا الشأن، مسلمُهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبعٌ لكافرهم، والناس معادنُ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا))
[5].
قال الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي المقدسي في كتاب (مسبوك الذهب في فضل العرب، وشرف العلم على شرف النسب): "وبالجملة فالذي عليه أهل السنة والجماعة: اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم...، وأن قريشًا أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم؛ فهو أفضل الخلق أجمعين، وأشرفهم نسبًا وحسبًا، وعلى ذلك درج السلف والخلف".
وبيَّن الشيخ مرعي الحنبلي رحمه الله بعد ذلك مقصود التفضيل، فقال: "إذا علمتَ هذا، فاعلم أن الذي يُرجَعُ إليه ويُعوَّلُ في الفضل عليه: هو الشرف الكسبي الذي منه العلم والتقوى، وهو الفضل الحقيقي، لا مجرد الشرف الذاتي الذي هو شرف النسب...، فمن الغرور الواضح، والحمق الفاضح: أن يفتخر أحدٌ من العرب على أحدٍ من العجم بمجرد نسبه أو حسَبه، ومن فعل ذلك فإنه مخطئ جاهل مغرور! فرُبَّ حبشيٍّ أفضل عند الله من ألوف من قريش؛ قال الله تعالى في مثل ذلك: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].
ونقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله: وقد رُوِيت في ذلك أحاديثُ، النُّكْرةُ ظاهرة عليها.
ومن أمثلة هذه الأحاديث الضعيفة أو التي لا أصل لها: ((أحبُّوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة عربي))
[6]، ((أنا عربي، والقرآن عربيٌّ، ولسان أهل الجنة عربي))
[7]، ((يا سلمان، لا تبغضني فتفارق دينك))، قلت: يا رسول الله، كيف أُبغضك وبك هداني الله؟ قال: ((تبغض العرب فتبغضني))
[8]، ((من غش العرب لم يدخل في شفاعتي، ولم تَنَلْه مودتي))
[9]، ((أحبوا العرب وبقاءهم؛ فإن بقاءهم نور في الإسلام، وإن فَناءهم فَناءٌ في الإسلام))
[10]، ((حب قريش إيمان، وبُغضهم كفر، وحبُّ العرب إيمان، وبُغضهم كفر، فمن أحب العرب فقد أحبني، ومن أبغض العرب فقد أبغضني))
[11]، ((لا يبغض العرب إلا منافقٌ))
[12]، ((إذا ذلَّت العرب ذلَّ الإسلام))
[13].
وقد كتب كثير من العلماء كتبًا خاصة في هذا الموضوع؛ كالإمام ابن قتيبة في كتابه: "فضل العرب والتنبيه على علومها"، والإمام العراقي في "محجة القرب في فضل العرب"، ونحوه للإمام الهيثمي، ومن المتأخرين العلامة مرعي بن يوسف الحنبليُّ المقدسي في رسالته: "مسبوك الذهب في فضل العرب، وشرف العلم على شرف النسب"، والشيخ بكر أبو زيد في "خصائص جزيرة العرب".
فلم يمنع الإسلام المرءَ من أن يقول عن نفسه بأنه عربيٌّ أو فارسيٌّ أو روميٌّ، أو يمنيٌّ أو شاميٌّ، أو قرشي أو خزرجي، ولكن الذي منع منه الإسلام وعمل على إلغائه: هو تلك العصبيات الجاهلية لتلك القوميات والجنسيات، ولتلك الأوطان والقبائل، وغيرها من المسميات والانتماءات التي تغيب الولاء والبراء في الله.
هذه المكانة للعرب في الإسلام لا يجوز أن ننكرها أو نجحدها، ولكن لا يجوز أن تكون كذلك مَدعاةً أو مبررًا للدعوة إلى العروبة، أو "القومية العربية"، التي تقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة والحياة، وعلى تكريس مبدأ عقد الموالاة والمعاداة، وكذلك تقسيم الحقوق والواجبات على أساس الانتماء القومي للجنس العربي بغضِّ النظر عن العقيدة والدين والعمل ومبدأ: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].
كثير من الدعاة والكُتَّاب المعاصرين - عن قصد أو غير قصد - لا يفرِّقون بين العرب والعربي والعربية وبين العروبة، ولا بين الوطن والموطن وبين الوطنية، ولا بين الناس، والإنسان، وكرامة الإنسان وحقوقه وبين الإنسانية كشعار ومبدأ يُغيِّبُ عقيدة الولاء والبراء في الله؛ فيخلطون بينهما عند الحديث عنهما وكأنهما شيء واحد في الدلالة والمعنى، فيخلطون بذلك حقًّا مع باطل، فيَضلُّون ويُضلُّون!
تراهم يستدلون بالأدلة الدالة على شرعية مصطلح ومعنى العرب والعربي والعربية على شرعية مصطلح ومعنى العروبة الدالِّ على معاني التعصُّب القومي المقيت والمذموم!
وتراهم يستدلون بالأدلة الدالة على شرعية مصطلح ومعنى الوطن والموطن وحب الديار وموطن المنشأ على شرعية مصطلح ومعنى الوطنية، الدال على العبودية للوطن من جهة عقد الموالاة والمعاداة، وكذلك الحقوق والواجبات على أساس الانتماء لحدود الوطن، وتغييب وإلغاء كل ولاء وبراء يتعارض مع الولاء الوطني، كما هو مشاهد في كثير من الأمصار!
إن الدعوة إلى القومية أو الوطنية أو العروبة لَهي ترويج للفكر الغربي الغريب عن الإسلام؛ فعن أم المؤمنين أم عبدالله عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ))، وفي رواية لمسلم: ((مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ))
[14]، ولقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن تعصب المرء لقومه، فقال: ((دعوها فإنها منتِنة))
[15]، وفي "الصحيح" مرفوعًا: ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتةً جاهليةً، ومن قاتل تحت رايةٍ عِمِّيَّةٍ يغضب لعصبةٍ، أو يدعو إلى عصبةٍ، أو ينصر عصبةً فقُتل، فقِتلةٌ جاهليةٌ، ومن خرج على أمتي بسيفه يضرب بَرَّها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهدٍ عهده، فليس مني ولستُ منه))
[16].
وجاء في الحديث: ((... ومن دعا دعوى الجاهلية فهو جُثَاء جهنم))، قال رجل: يا رسول الله، وإن صام وصلَّى؟ قال: ((وإن صام وصلَّى، ولكن تسمَّوْا باسم الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين))
[17].
فما على الأمة إلا أن تُوحِّد الصف، وأن تَنبِذَ الفُرقة والخلاف، وأن تحقق معنى الأُخوَّة، وأن تنفض الأمة هذه النعرات، وأن تُسقِط الأمة هذه الرايات، وأن تُعليَ راية الإسلام، وأن تحقق قول الله جل وعلا: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، هذه الأُخوَّة هي التي ألَّفت بين سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وأبي ذر الغفاري، وحمزة القرشي، ومعاذ الأنصاري، وبلال الحبشي، إنها أخوة الدين، إنها أخوة العقيدة؛ فمَن كان في أقصى الشرق والغرب على الإسلام فهو أخي، وأخي ابن أمي وأبي لا أعرفه إن كان على غير الإسلام.
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سِواهُ إذا افتَخَرُوا بقَيْسٍ أو تَميمِ |
فالرابطة التي تربط الأمة هي رابطة الأخوة في الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوثقُ عُرَى الإيمان: الحب في الله، والبُغض في الله))
[18]، ولو عرفنا معنى هذه الأخوة لعلمنا لإخواننا في القدس وفي الشرق وفي الغرب حقوقًا علينا يجب علينا ألا نَتنصَّلَ منها، وإلا فإن الأمة كلها آثمة إن تخلت عن هذه الحقوق وضيَّعت هذه الواجبات؛ قال الله جل وعلا: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى))
[19].
فلا كرامة للأمة إلا إذا وحدت صفَّها، ونزعت هذه الفرقة من قلوبها، وحققت معنى الأُخوَّة الإيمانية؛ فإن رابطة العقيدة هي أعظم رباط، وهي أوثق صلة، بدونها لا يمكن أبدًا أن يحترم العالم كله هذه الأمة التي تبعثرت كتبعثر الغنمِ في الليلة الشاتية الممطرة.