في هذا الحوار الشيّق، يتحدث الروائي الهندي الأصل والبريطاني الجنسيّة، بكلّ حريّة، عن الإسلام والشرق والغرب مثلما يقدم لنا توضيحات جريئة حول فكرة صدام الحضارات واختلاط الأعراق وسلطة الأدب. وتعود أهميّة نشره اليوم، إلى قيمة الرّجل أولا، ثمّ ثانيا، إلى ما صار يعيشه العالم الإسلامي عموما والعربي خصوصا من تمزقات وحروب لا تهدأ؛ حروب تكاد تأتي على الأخضر واليابس، حيث زُهقت وماتزال تُزهق ملايين الأرواح لا لشيء إلّا لسيادة الظلاميّة الدينيّة. إن الّرجل، يرغب في إخراجنا من العدميّة ونزعة التشاؤم المعاصرة عبر الفنّ الروائي، وفي خضم هذه المهمة العويصة، فنحن لا نملك إلّا أن نُنْصت إليه وهو الّذي اكتوى بنار الفتاوى الإرهابيّة، كَلَّفتْه العيش على نحو سري لأزيد من عقد من الزمن.
الحوار:
*تَمزُّقات:
لقد أدمنتُ مؤخرا، على إعادة قراءة كتاب التنوير. واتّضح لي أنّ الصراع الكبير، الّذي هو صراعُ القرن الثامن عشر، لم يكن صراعا ضدّ الدولة أكثر ممّا كان صراعا ضدّ الكنيسة. وقد ابتدأ، ذلك حقّا منذ عهد “رابليه”. والحال أنّنا اليوم نعيش في عصر حيث يزعمون الرقابة، لا على الأفكار فحسب، إنّما أيضا على الخيال الفنّي ذاته. فالأمر أفضع بكثير من عصر الأنوار، حيث كانت الكنيسة تكتفي بالتّصدي للتصورات الّتي تبدو تعابيرها هرطقيّة.أمّا اليوم فحتّى الروايات الّتي نَسرُدها، و كذا أسلوب السّرد، كلّها أمور، أضحت مُهدَّدة بالمنع. إن الفعل الإبداعي هو المُهدَّد أكثر من البعد الفلسفي لهذه الروايات. لقد كان البابا في ذلك العصر، لا يَهتمُّ بمعرفة ما إذا كان “ديدرو” كاتبا جيّدا أو رديئا: إنَّ ما كان يرفضه إنّما هو مضمون “المتدينة” (1).و لئن بقيت أفكار التنوير أكثر من أي وقت مضى صائبة، فثمّة فرق كبير بين عصرنا والقرن الثامن عشر: حيث كان، بوسع الكُتَّاب، في ذلك الوقت، أن يَتَصَوَّروا أن العديد من القرّاء كانوا يشاطرونهم أفكارهم، مثلما كانوا يقطنون بمعيتهم نفس العالم ويستوعبون رؤيتهم للكون. أمّا اليوم فنلاحظ بروز تصوّرات للكون أشدَّ تضاربا، تَتَصارع حول الفضاء عينه.
عندما كَتبتُ روايتي بعنوان“الأرض تحت قدميها” وكان ذلك قبل 11 سبتمبر بكثير(2) ، كانت تُراودني فكرة وجود منظورات كثيرة، يحاول كلّ واحد منها على حده السيطرة على نفس المكان والقضاء على غيره. وقد اتّضح أن هذه الاستعارة لها من الأحقيّة أكثر ممّا كنتُ أظنّ وقتئذ. إنّنا نعيش صراعا تتواجه فيه تصورات مختلفة للواقع، أكثر ممّا نعيش صراعا تتواجه فيه الثقافات والأديان. فلا أحد يَعترِفُ بالأشياء مثلما يصفها الآخر. إنّنا نعيش في عالم مُبَعثَر، عالم مُمزَّق. وإذا كان هذا الموضوع محط اهتمامي باستمرار، فذلك ليس إلّا لأنّه في عالم كعالمنا، لم يَعُدّ بِإمكاننا أن نَكْتُب سيرا على نهج القدماء. ذلك أن النّزعة الواقعيّة الأدبيّة هي تَعاقد يقتضي نوعا من الاتّفاق حول طبيعة الواقع؛ على اعتبار أنّه، إذا لم يكن ثمّة من اتّفاق، فإنّ واقعيّة هذا ستغدو بمثابة خرافة ذاك. إذن، أمام عالم كعالمنا،لا محيد لنا من البحث عن حلول مختلفة.
*ظُلُمات:
إنّي لستُ مؤمنا؛ وإذا أُجْبِرْتُ على الاختيار مابين العقل والإيمان،سأختار العقل دوما. لكن العقل يطرح مشكلة، حتّى بالنسبة لمناصر الفكر العقلاني: إذ لا يمكننا أن نكتفي بالنظر إلى الإنسان ككائن عقلاني، وذلك سواء كنّا مؤمنين أو ملاحدة. ففضلا عن ذلك، فإّننا كائنات حالمة؛ ممّا يُعطينا بُعدا آخر. كيف بنا إذن، أن نستدمج هذه الفكرة الّتي تُقِرُّ بوجود شيء آخر عدا الواقع بلحمه ودمه، شيءٌ آخر، يَحِيد عن المعادلة الرياضية: =4 2+2، وذلك دونما اللّجوء إلى الخرافة أو الدين؟ ذلكم هو المشكل الغير القابل للحلّ، والّذي مافتئ يَنْطَرِح علينا في الأدب.
وفي ظلّ هذه الأيّام السوداء، من فرط النزعة الظلاميّة، لا بأس من القليل من النور ! لكني ككاتب، أَجدُني مهووسا جدّا بالظلمات. وبقدر ما تكون شخصياتي سوداء، بقدر ما أعشقها مثلما الشأن مثلا، بالنسبة للشرير“شاليمار المهرج” (3)“Shalimar le clown” هذا، كما أفضل أيضا، ذلك الجزء المُعتَّم الّذي مافتئ يكتنف شخصياتي “الإيجابية”. فهي بالأحرى، كلّها مزدوجة الميول. إنّ الأخطر في الأدب ولاسيما منه في الخيال، إنّما هو الغُلوّ في التفسير؛ حيث يَنقلِب حينئذ الخيال إلى نزعة ديداكتيكية. وذلكم هو أكبر جُرم يُرتَكَب في حقِّ الأدب، لأنّه يكاد يُجْهِز على كلّ حظوظ القارئ.
*الجسر:
إنّ الشرق والغرب، هما النصفان الاثنان المؤلّفان للعالم؛ أقصدُ المؤلفان لهويتي وروحي.فهل أنا جسرٌ مابين الكونين؟ لست أدري. ذلكم هو الإحساس الّذي ينتابني أحيانا، لكنّي أحيانا أخرى أشعر بسوء فهم يُطاردني من كلتا الطرفين. إذ لا يَستوعِب الغربيون باستمرار، ذلك الجزء منّي الغير الغربي، بينما يَرفُضني الشرقيون من جهتهم، بدعوى أنّي أكثر اغترابا. يمكن إذن أن تَترتَّب عن ذلك، آثار سلبية على نحو مزدوج. لكن بالرغم من كلّ شيء، فعندما كَتبتُ “أطفال منتصف اللّيل” و“العار”(4)، كان الهنود والباكستانيون يجهلون بعضهم البعض (على الأقلّ منهم،أولئك الّذين هم من جيلي، والّذين ولدوا بعد الانقسام). أمّا الحدود مابين البلدين، فقد كانت مُغلقة كليًّا، في ذلك العهد. لكنّي وبمحض الصدفة، كنتُ قد عشتُ في البلدين كليهما، وهكذا جاءت رواياتي، مُؤَسِّسة لفهمٍ متبادل. وإنّي لفخور جدّا، بالخصوص على إثر ما حَظِيَّتْ به، روايتي“شاليمار المهرج” من ترحاب في الكشمير. ولئن كُنا نَكتُب ونحن على علم بالأسباب، عن بلدٍ مجهول كليًّا بالنسبة للناس (بمن فيهم الهنود الّذين، في أفضل الأحوال، قضوا سابقا عطلة من خمسة عشر يوما بالكشمير)، فالهاجس الأكبر إنّما هو أن نَجْعلهم يُولونَه كلّ الاهتمام. ذلك، أنّهم حالما لا يكترثون بالبلد، وحالما لا يُبْدون أي تضامن مع الشعوب الأخرى، فلن يكون حينئذ، للمأساة الّتي تلحق بهذه الشعوب، أي أثر عليهم: لن تكون إلّا مجرد احتراقٍ يظهر على شاشة التلفاز، في مكان مّا من العالم. يتبدى لنا ذلك، جليّا إذا استحضرنا، ما جرى بالأمس القريب، في كلّ من رواندا واليوم بدارفور وغدا…إنّ النّاس لا يُحِسُّون بأدنى تعاطف مع ما يجري في العالم بأسره. لذلك فنحن من ناحيتنا نطالب بالتعاطف كليًّا مع ما يقع.
*تهجين:
إن “ميلان”(Milan (5 هو اسم أصغر أبنائي، ويفيد بالهندية “هجين”. فهل يكون التهجين والاختلاط هو مستقبل الإنسانية؟ ذلك ما أعتقدُه. ولا يستدعي الأمر هنا أن نعرف ما إذا كانت المسألة مُحبَّذة أم لا: لأنّ ذلك هو ما سيقع كيف ما كان الحال. والقضية هنا هي أشبه ما تكون بقضية العولمة: حيث أنّها مَهْما كانت خيرا أو شرًّا، فهي سلفا واقعةٌ لا يمكن تغييرها. كذلك الشأن بالنسبة للتهجين، فهو من قبيل:اللابد منه. وذلك ما يُدرِكه جَيِّدا، كلُّ مَن يعيش في إحدى العواصم الكبرى، سواء كانت هذه العاصمة هي لندن أو باريس، نيويورك أو بومباي. فالعولمة حقيقة لا تُناقش. ويكفي للمرء أن يَنْظُر مِن حَواَلَيْه. فهي بحسبي، بُعد من الأبعاد، الّذي ليس يُثري الفرد وحده فحسب، بل يُثري أيضا المجتمع والثقافة واللّغة؛ هذا دونما الحديث عن التّجديد الجيني، بالرغم من رفضه من لدن الكثير من النّاس وخوفهم منه. لكن الكاتب النزيه، هو من ينبغي عليه، أن يعمل على الإنصات أيضا إلى نبض تلك الأصوات الّتي تناقض تصوراته. ذلك أنّ ثمّة أكيد، جزء مُعتَّم في هذا الخليط: ويصعب علينا أن نعيش إلى جانب النّاس الّذين نرفض أو نخشى ثقافتهم وقيمهم واعتقاداتهم. لكن الواقع هو كذلك.
إنَّ على الكُتَّاب الّذين ينحدرون مِثْلي من هذا الخليط، أن يَعملوا على دراسته بمنظور نقدي، مع تفادي كلّ نزعة عاطفيّة. إنّي أريد أن أصف العالم كما هو، وهو ما يعني أن أَعرِف ما يجري في عقول النّاس. لعلّ ما يُقْلِق في رواية “شاليمار المهرج” مثلا، هو أن تجد ثقافة شرقيّة تَلْتَهم ثقافة أخرى شرقيّة. وعليه فلا يمكننا أن نختزل الواقع باعتباره مجرّد صدام ثنائي للحضارات. أكيد أنّنا نعيش صداما بين بعض العصابات المنتسبة لبعض الحضارات: حيث يُواجِه نموذج مُعيَّن، مِن الحساسيّة الغربيّة نموذجا آخر من الحساسيّة الإسلاميّة. لكن هذا لا يعني أن حضارتين اثنتين في مواجهة كليّة إحداها للأخرى. ذلك أنّ كلّ حضارة، تكون بحدّ ذاتها مسكونة بالتّعدد و الانقسام. والمعلوم أنّ الآراء في البلدان الغربية، هي أكثر انقساما بالنظر إلى كلّ ما يتبناه كلّ واحد؛ فليس ثمّة أي إجماع. أمّا العالم الإسلامي، فهو لا يقلّ عنه انقساما؛ ويكفي أن نستحضر هنا تلك الصراعات ما بين السنة والشيعة في العراق. إنّ المسلمين هم أول ضحايا الإنتحارات. بناء عليه يتبدى أن مفهوم “صدام الحضارات” مفهوم خاطئ، لأنّه يقوم على نزعة وحدويّة، مُزَيَّفة، كما يقوم على “وعي زائف”على حدّ تعبير ماركس؛ إنّه مفهوم يستند إلى منظور مغلوط يجعلنا ننتهي إلى خُلاصات مغلوطة. إنّ المشكلة الأولى (إنّي أتكلم هنا باعتباري كاتبا)هي مشكلة الوصف: فعندما نُسمي طاولة ،كرسيًّا، نكون ضحيّة التباس. إذ يلزمنا قبل أي شيء آخر، أن نعرف ما معنى الطاولة قبل أن نتمكن من الحديث عن أبعادها، ومميزاتها الجماليّة؛ لنحدد بالتّالي إنْ كانت تعجبنا أو لا. يلزم البدء بأسماء الأشياء. ونحن اليوم نعيش في مرحلة يصعب فيها تسميّة الأشياء وتحديد ما تكونه. لنأخذ على سبيل الذكر،كلمة “الحريّة”. فعندما يستعملها “جورج بوش” يتبدى لي أنّها لا تحمل نفس الدلالة عندما أنطق بها أنا. إن معناها يختلف بحسب من يستخدمها، وهي عند “جون ستيوارت ميل” أبعد ما تكون عنه عند آيات الله الخميني. لذلك فالرهان الحقيقي إنّما هو رهان معنى الألفاظ.
*الإهانة:
إنّ الغرب لا ينبغي عليه أن ينسجم مع الحساسيات الإسلاميّة. وإذا أردنا حقّا أن ندافع عن قيمنا المُحترَمة، وجب علينا أن نضطلع بها كليًّا. فلا يمكننا، والحالة هاته، أن نزعم أنّنا لا نقصد بها ما يُقصَد بها، وإلّا غدا الأمر أشبه ما يكون بكارثة قِوامها الترهات. لماذا التّخلي عمّا هو مقبول؛ تماما مثلما هو معمول به في الغرب منذ قرنين: الهجاء وعدم احترام الأديان وحريّة الرأي حتّى ولو كان عنيفا، والسخريّة؟
إنّ المعضلة تكمن في كوننا نعيش في خضم ثقافة الإهانة والشتيمة: فأنْ تُشْتَم أمرٌ صار يُشكِّل الجزءَ الأهمّ في الهوية المجتمعيّة. إنّنا لا نستطيع أن نَتَحدَّد كجماعة، طالما نحن لا نعرف هذا الّذي بسببه نَتعرَّض للإهانة. أمّا هذه الظاهرة، فهي لا تخص الإسلام وحده، بل ترتبط بكلّ تلك الجماعات ذات المصالح المشتركة في الغرب، بما في ذلك الجماعات النسويّة، والمدافعين عن حقوق المثليين وكذا أنصار التحرر العرقي. إن مرض الإهانة هذا، شَرَعَ يستشري، بشكل كبير في الثقافة العالميّة. و أنا جدّ متأسف من ذلك. ويفترض مقاومة هذا المرض بكلّ الوسائل.
*التّعصب:
إنّ للمتطرفين المسلمين واليهود والمسيحيين، نقطا مشتركة، لكنّهم يختلفون عمليًّا. لكن هذا النوع من التعميم الّذي يغلب عليه طابع التّسوية، ليس يُجْدي، مادام أنّ التطرف الأكثر سيادة وتهديدا، إنّما هو التّطرف الإسلامي. أمّا المسألة الّتي حاولتُ أن أوضِّحها، من بين مسائل أخرى، في روايتي“شاليمار المهرج”، فهي مسألة كون المسلمين هم أولى ضحايا التّطرف. ذلك أنّ الأفغان هم أكثر من عانوا من الطالبان؛ والإيرانيون هم أكثر من عانوا من نظام آيات الله. وبالرغم من ذلك، فإن كنتُ متفائلا، فذلك يرجع أول ما يرجع، إلى كون أوّل البلدان الّتي يَهرُب فيها النّاس من التطرف، هي البلدان الّتي يسود فيها التّطرف. والمعلوم أنّ الشباب، هم الأكثر تأثرا بالتطرف، في كلّ أنحاء العالم الإسلامي، وذلك لأنّ التّطرف، يمنحهم هويّة مّا، مثلما يُعطيهم الكرامة والامتياز بل ونوعا من القيمة في العالم. لكنّ الإرهاب، ولئن كان يمنحهم نوعا من السّلطة والشهرة، فهي تبقى مع ذلك، أمورا عابرة. حيث إنّ المرء لا يضحى ذا شأن إلّا لحظة العمليّة الإرهابيّة. هكذا تسود خيبة الأمل بكلّ سرعة. ولذلك، نلاحظ، ضمن الجماعة الإسلاميّة البريطانيّة، سيادة نوع من الاشمئزاز، والنفور من هؤلاء المتطرفين الّذين يزعمون أنّهم مُمثِّلوها؛ مثلما نرى أيضا، تصاعدا لنوع من التنظيم الإسلامي، في العديد من البلدان الأوربية، لا يقوم على الإيمان ولا يتزعمه الموالي، لكنّه تنظيم ذو غايات ديمقراطية. وهذا ما رأيناه في الدنمارك، بعد قضية الرسومات الكاريكاتورية. ويُعتبر مؤشرا جيّدا، لأنّه على ذات النهج سوف يُهزَم التّطرف. ويكفي فقط أن يصيح المسلمون:“ليس باسمنا”.نفس الشيء نلاحظه في إيرلاندا الشماليّة، حيث يشمئز الكاثوليكيون من عنف الـ“IRA”. وإذا كان علينا أن نحارب الإرهاب، فهذه الحرب لا يمكنها أن تتمّ إلّا من داخل العالم الإسلامي، لا ضدّه. ذلك أنّ المسلمين هم وحدهم القادرين على القضاء على الإرهاب. يكفينا أن نتذكر هنا، كيف تَقلَّصَتْ بسرعة مذهلة، شعبية الفيس“FIS”(جبهة الإنقاذ) والجماعة الإسلاميّة الجزائريّة “GIA”؛ وكيف حدث نفس الشيء في بلدان الشرق، إذ لم يُعَمِّر النظام السوفياتي إلّا سبعين عاما، أي مدّة حياة إنسان بالتمام؛ وهو ليس شيئا كبيرا بالقياس التاريخي. لكنّ الخطاب المُحِقّ سياسيا، والّذي مافتئ يُواجِه التّطرف الإسلامي، بـ“إسلام أصيل”هو خطاب أشبه ما يكون بخطاب اليساريين الأوربيين، الّذين يميزون بين الستالينية والشيوعية “الحقة”.و إنْ لم يستطع هذا الخطاب أن يستمر، بعد انهيار الكتلة السوفياتية، فذلك ليس إلّا لأن لفظة “الشيوعية” قد تَعرضَتْ منذئذ فصاعدا، للإبتدال. ومن الخطأ كذلك، القول بأنّ الإسلام، مثلما يوجد، ليس بالإسلام؛ وذلك حتّى ولو كانت هنالك بالفعل، طرق أخرى لِتَمَثُّلِه.
لكنّ المؤسف، إنّما هو ما نشهده منذ خمسين عاما، من انحطاط للحضارة الإسلاميّة. و لاشكّ، أن الغرب يتحمل مسؤوليّة كبرى في هذا الشأن، حيث أن سياسة القوى العظمى، عَملتْ على تشويه تَقدُّم ومستقبل هذه البلدان. لكن لا ينبغي أن نُبرِّر كلّ شيء بالتّدخل الأجنبي. إذ يجب على هذه البلدان أن تعترف بمسؤوليتها، في ما لحقها من انحطاط، بعيدا عن كلّ تَطفُّل. لقد سَئِمتُ كثيرا، من سماع كلام من قبيل: الإسلام هو من أبدع علم الحساب(الجبر)، لأن ذلك يعود إلى عهد أقدم من الإسلام بكثير. أمّا العصر الذّهبي لفنّ الرسم، سواء منه الفارسي أو التركي أو الهندي فقد وَلَّى منذ قرنين. إن الانحطاط الحضاري للبلدان الإسلاميّة، أمر بادي للعيان، ويجب الإنكباب على تحليله، بنفس الوضوح الّذي نُحلِّل به السياسة الكارثية الّتي نَهَجَها“بوش” في العراق.
*الكتابة:
لعلّ ما يثير الاستغراب في الكتابة، إنّما هو كونها تبدو بالتأكيد، كما لو كانت فعلا حميميا، وعالما خاصّا بوسعنا الولوج إليه أحيانا، لسنوات طوال ودونما انقطاع. لكن ذلك مجرّد وَهْم. حيث ما أن يتمّ نَشْر الكِتَاب، حتّى نُدرك بأنّه لا ينطوي على أيّة خصوصيّة، وبأنّه جزء من العالم، بالرغم من أنّنا لكي نَكتُبَه، يلزمنا الانعزال عن العالم، في مكان افتراضي لا ينتمي إلينا. هذا هو ما يجعلني أكره لحظة النشر. إنّي أحسّ دوما، باشمئزاز أَوَّلي، وأجِدُني في أمَسِّ الحاجة إلى التواري عن الأنظار. أريد بالطبع أن أكون مقروءا، لكن دون أن أكون مرئيا. أرغب أن يقرأني النّاس أَوَّلا، ثمّ يَعُودوا بَعد عامين أو ثلاثة أعوام، لِيُحدِّثوني عمّا قرأوه. وبحسب تجربتي الخاصّة، يمكنني أن أؤكد، على أنّ كتابا مّا، لا يمكننا أن نعتبره قد نُشِر تماما، إلّا بَعد مُضِيِّ خمسة أعوام تقريبا. وهو الزّمن الّذي سيقرؤه فيه النّاس بالفعل. ومن الضروري، انتظار هذه المدّة، للحديث عن الكتاب ومحاورة صاحبه.
عندما أَقْدَمَ،في عز ق.18،“جونتان سويفت”Jonathan Swift على نشر روايته بعنوان:“رحلات غوليفر” “Les voyages de Gulliver ، كان اسمه غير بارز، تقريبا على وجه صفحة العنوان: بالكاد نستطيع أن نقرأ”J .Swift“في الركن الأسفل، جهة اليمين. ولاغرو أن مَرَدّ ذلك، إنّما هو كون الرواية، هي العمل الإبداعي للشخص نفسه، تماما مثلما كان الشأن بالنسبة لـ”روبنسون كروزو“(6) و”تريسترام شانداي“(7).لقد كان بوسع كِتاب مّا، في تلك الحقبة، أن يكون مشهورا، بينما صاحبه منسي كليًّا. أمّا اليوم، فالعكس هو ما يجري: إنّنا نعرف الكاتب، أكثر ممّا نعرف كُتُبَه. فـ”جون أبديك“John Updike و”نورمان ميلر“Norman Mailer هُمْ كُتَّابٌ، أكثر شهرة من كُتُبِهم. وذلك ما يبدو لي أكثر وقاحة، بل ورمزا، لعبادة الأشخاص الّتي صارت تقوم عليها حياتنا الثقافيّة.
*سلطة الخيال:
إنّي للأسف، لا أعتقد بأنّ الكتب تُؤَثِّر في العالم. فلا سلطة لديها ولم تكن لها، أبدا أيّة سلطة. لكنّه ، خلافا لذلك، كنتُ دوما أشعرُ بأنّ شخصياتي تَنفلتُ من رقابتي. والحال أنّ قوّة الروايات، إنّما تعود إلى كون الشخصيات تسكن ذهن القارئ. وذلك بعكس شخصيات فيلم مّا أو قطعة مسرحيّة معينة، الّتي تتمتع بحضور مباشر. إن الرواية تُؤسِّس لنوع من الحميميّة، مابين كائنَين مجهولَيْن، وتُقِيم علاقة عميقة مابين كاتِبٍ وقارئ، لا يعرف أيٌّ منهما الآخر. ولعلّ ذلك هو السرّ الّذي يجعل القرّاء، إبّان المحاضرات أو أثناء مناسبات توقيع الكتب، يَتَوَجَّهون إلى الكُتَّاب، تماما كما لو كانوا على معرفة وطيدة بهم. هكذا تكاد تنعدم بينهم أدنى مسافة احترام، بحيث يَتجَرَّأون على مُناداتهم بأسمائهم الشخصيّة. إن من يُحِب كِتَابا ماّ، هو من يُدرِك بأن هذا الكِتَاب، هو من أتى ليندمج مع تصوّره للعالم، قبل أن يُغَيِّرَه كليًّا وبلا رجعة. لذلك ليس بِمُكْنَتِنا حقيقة، أن نحب إلّا عددا قليلا من الكتب، قد لا يتعدى العشرات ربّما…إنّ الكتب الّتي نحبها تُغيِّرُنا. أمّا الخيال، فيعود إليه الفضل في تقوية الحياة، وإلّا أضحى بلا قيمة تذكر. لقد كنتُ أقضي باستمرار، أكثر من سنة، في إعداد رواية من رواياتي، وذلك قبل أن أشرَعَ في عمليّة التحرير. إن هذه الفترة الطويلة من المخاض،هي ما يسمح لي بمعرفة الشكل الّذي ستتَّخذُه الرواية. وطالما أنّي لم أجد حلا لهذه المشاكل الشكليّة، فإنّي أكاد أجهل مِن أين أبدأ. هذا بينما بعض الكُتَّاب، يبدؤون بشخصيّة معينة، ويَدَعُون الشكل يَفْرِض نفسه بنفسه. لكنّي ما أن أكون مُوقِنا مِن بِنْيَتِي، حتّى أجدني مستمتعا بِقَدْر وافر من الحريّة، في هذا الإطار المفروض وفي خضم هذا الشكل المحسوم. هكذا، أحتفظ لنفسي، بكامل الحريّة في تغيير قواعد اللّعبة. لكنّنا عندما نعرف شخصياتنا، يلزمنا الإنصات أكثر ممّا تلزمنا الكتابة. إنّنا ينبغي أن ننتظر أن تُبَادِر الشخصيات بالتّصرف،حتّى نرى أيّة وِجْهة تَرغَبُ في اتّخاذها. يستدعي الأمر هنا نوعا من الإنصات الداخلي المُكثَّف، والّذي غالبا ما يَؤُول إلى نتائج غير مُتوقَّعَة. لكنّه على الكاتب بالتّالي، أن يتراجع إلى الخلف، وأن يمارس النقد، ليقرر ما إذا كان هذا التطور الغير المُتوقَّع، يَخدُم الرواية أو لا يخدمها: هل هو مَسْلك خاطئ، أم أنّه النهج الأفضل لبولغ مَرْماه؟ يجب على الروائي إذن أن يُزاوِج ما بين الانغماس في”الإلهام“وإعادة القراءة على نحو منفصل.
*الكتب الثلاثة الّتي ينبغي لنا أن نَحمِلها معنا لو قُدِّر لنا السفر إلى جزيرة معزولة:
سأختار بداية، رواية ألف ليلة وليلة. لعلي أكذب إلى حدّ مّا، لأنّ ألف ليلة و ليلة عملٌ إبداعي يتألف لِوحْده من العديد من الكتب. وبالمناسبة فإنّي أفضل ترجمة”ريشار بورتون“Richard Burton بالرغم من سخافاتها، لأنّها مليئة بالملاحظات الشبقية والغير اللائقة، فيما يخص كلّ الانحرافات الجنسية المتخيّلة.
وقد جرت العادة، في بريطانيا، عندما يُطرح عليك هذا السؤال، أن يُسمَح لك، فضلا عن الكتب الثلاثة التّي تكون قد اخترتَها، أن يسمح لك، بحمل الإنجيل وكذا الأعمال الكاملة لشكسبير. لكنّي أستطيع بكلّ سرور، أن أتخلى عن الإنجيل، بينما يستحيل عليّ أن أتخلى عن شكسبير. لكن هل يلزمنا الاكتفاء بالرواية؟ ذلك أن الشعر أفضل بالنسبة لجزيرة معزولة.وثمّة شاعر بريطاني، كان صغير السّن إبان الستينات (1960)، يُدعى”كريستوفر لوغ“Christopher Logue، عمل منذ بضع سنوات على إعادة كتابة”الإلياذة“على طريقة أبيات حرّة، أكثر حداثة. وقد جُمِعَت هذه القصائد ضمن كتاب بعنوان : War Music، وحدث أنْ جَعَلَت هذه المواجَهة مع هوميروس، مِن”لوغ” شاعرا كبيرا. وإنّي لأستغرب كوني في فترات الحرب هاته، من يَنْكَبُّ على قراءة ذكريات هذه الحرب النموذجيّة في كل يوم.