بقي
اسم سلمان رشدي محظوراً ردحاً من الزمن، في العالمين العربيّ والإسلاميّ،
وذلك بعد نشر روايته «الآيات الشيطانيّة» 1988، ما أدّى إلى ضجّة كبيرة في
دول العالم الإسلاميّ، منعت على إثرها ترجمة الكتاب إلى العربيّة وبيعه.
وكانت إيران قد سارعت إلى إصدار فتوى بإهدار دمه، دامت حتّى 1998. تبع ذلك
حملة من التكفير والتحريم، بدأت بتتفيه وتسخيف المُنجَز الأدبيّ الروائيّ
لرشدي، دون الاطّلاع عليه أحياناً. واكتُفي بالنقل الذي يحلّ في كثير من
الأحيان محلّ العقل عند مَن يتطرّفون أو يراضون أو يعصّبون أعينهم
وأفئدتهم بعصابة تحجب عنهم ما يجب أن يروه. وقد ضمّن المفكّر صادق جلال
العظم مؤلّفه الهامّ «ذهنيّة التحريم»، فصلاً مطوّلاً بعنوان «سلمان رشدي
وحقيقة الأدب»، حيث يعدّ مؤلّفه انتصاراً للفكر الحرّ، ومحاولة لتبديد
العتمة والتعتيم الممارسين على العقل والفكر باسم الدين، حيث يدأب
الناطقون باسم الربّ؛ الزاعمون أنّهم خلفاؤه على الأرض، على تطبيق
السياسات التي تحجر على الراغبين في التغيير والتغيّر، تحتجزهم في دائرة
الأوهام المغلقة، التي تخشى من أيّ تسرّب أو اختراق لمنظومتها العقائديّة
التي تعتبر دريئة للامتيازات الأخرى الكثيرة.. وقد ركّز المفكّر صادق جلال
العظم على التذكير «بأنّ الرواية عمل أدبيّ، متخيَّل ومبتكر، يقيم مع
الواقع الصِلات التي يريد، لكن لا نستطيع محاسبته على أنّه الواقع». وعلى
النقيض منه، كانت الفترة نفسها قد شهدت ترويجاً لكتيب الشيخ أحمد ديدات
«شيطانيّة الآيات الشيطانيّة»، وقد بدا فيه مبالغاً في تحمّسه للنيل من
رشدي وروايته، ساعياً إلى إدانة المملكة العظمى التي قال بأنّ رشدي يبهدل
ملكتها في روايته. وقد سبق أن تُرجمت لرشدي أعمال «أطفال منتصف الليل»،
«العار»، ونشرت من قبل وزارة الثقافة السوريّة، والجدير بالذكر أنّه يعاد
نشر تلك الأعمال بحلّة جديدة، من قبل دار التكوين، التي أعلنت عن ترجمتها
لـ«زفرة العربيّ الأخيرة»، «هارون وبحر الحكايا»، كما أصدرت بالتعاون مع
دار الجمل رواية «غضب» ترجمة: فاطمة النّظامي. تقع الرواية في 302 صفحة من
القطع الوسط.
تسرد رواية «غضب» كثيراً من القصص والأحداث، تتّخذ من بداية الألفيّة
الثالثة خلفيّة زمانيّة، ومن مدينة نيويورك، بشكل رئيس، إضافة إلى عدّة
مدن ودول أخرى «لندن، مومباي، دلهي، صربيا…» خلفيّة مكانيّة، تدور عليها
مجريات ووقائع الرواية، وذلك عبر شخصيّة «مليك سولانكا»؛ المهاجر الهنديّ،
من مواليد بومباي حيث يبدو هنا تقاطع بين الكاتب وشخصيّته الرئيسة سولانكا
في أكثر من نقطة، منها: من ناحية التولّد، والترحال أيضاً، علاوة على كثير
من الأفكار المعروفة عن رشدي التي يقوّله إيّاها في سياق المتن الروائيّ.
يعمل سولانكا الغامق البشرة، مبتكراً للدمى، يتّخذ قراره بالفرار، بالعيش
وحيداً في نيويورك، تاركاً ابنه أسمعان في عهدة زوجته إيليانور في لندن،
يهجرهما إلى وحدته التي يفضّلها في عالم نيويورك الصاخب. وسولانكا هو شهرة
زوج أمّه اكتسبها منه بعدما هرب والده الحقيقيّ حتّى قبل أن يراه، وهذه
ثيمة متكرّرة عند رشدي في أكثر من عمل «أطفال منتصف الليل»، «العار»، حيث
يكون الأب غير معروف أو مُتوّهاً، عقدة الأب تلازم شخصيّاته، التي تحرص
على النيل من الأب، وتخرج على عمليّة التناسل الطبيعيّة، فيكون الأب
البيولوجيّ ضائعاً، والأب المزعوم غير لائق بالأبوّة، ما يدفع بالشخصيّات
إلى رسم مصائرها، واختطاط حياتها بعيداً عن سلطة الأب، أي تحمّل
المسؤوليّات دون تهاون أو تواكل، ربّما ذلك يندرج في إطار الحثّ على خلق
روابط جديدة وتمتينها بما يلائم روح العصر، أي كلّ فرد يتحمّل نصيبه من
الواقع دون لجوء إلى أيّة حوزة للاحتماء بها أو التمترس خلفها. أي نوع من
الفردانيّة التي انتعشت.
يتعرّض مليك للتحرّش من قبل زوج أمّه، الذي يحاول إقناع أمّه بوجوب
التريّض لينفرد به، حيث يلبسه ثياب الفتيات الصغيرات، يجدل له شعره
مثلهنّ، يبدأ باغتصابه، وعندما كان الطفل يخبر أمّه، كانت الأمّ تكذّبه
وتنهره عن العودة إلى مثل هذه الأكاذيب التي يتفوّه بها، وهكذا يستمرّ
الوضع حتّى يصاب الطفل بمرض يهدّه، يكشف عليه الطبيب الذي يهدّد زوج
الأمّ، الذي يكفّ عن العودة إلى جريمته. يغدو مليك سولانكا مبتكر دمى،
تكون وراء ذيوع شهرته، خاصّة ابتكاره الأوّل «سرﭬليت»، يصف أحياناً تلك
الدمى بالدمى الملوك، وأحياناً أخرى يشبّهها بالمثقّفين، مُسقطاً بعض
الأوصاف عليها. إن كان بعض المثقّفين دمى بأيدي الملوك، فالملوك بدورهم
يكونون دمىً بأيدي سلطة أقوى يرضخون لها ويتبعون تعاليمها، يرهنون لها
الملك كلّه، تكون تلك القوى أو القوّة غيبيّة، مختبئة، محتجبة، أو عندما
ينال الوهم من بعض الملوك يعلنون أنفسهم آلهة، يجب أن يعبدوا. وتلك الدمى
تكون حقائق النفس البشريّة، وهي صور الناس تماماً يقول: «كان من الممكن له
أن يسمع ثرثرة دماه التي غدت حيّة، كلّ واحدة تقصّ على الأخرى قصّة
الأحداث التي أدّت إلى أسرها في هذا المكان، قصّة خياليّة كان سولانكا قد
اخترعها لكلّ واحدة منها. فالدمية التي لم تكن تملك ماضياً كان سعرها
بخساً، وما هو حقيقيّ بالنسبة للدمى هو حقيقيّ أيضاً بالنسبة للكائنات
البشريّة. كان هذا هو ما يحضره المرء معه عندما كان يعبر البحار والحدود
والوجود: ذخرنا القليل من الحكايا الصغيرة ومن الارتدادات ومن خصوصيّاتنا،
الذي عاش ذات يوم. نحن قصصنا، وعند موتنا سيصوَّر خلودنا، احتمالاً، في
قصّة أو في أخرى. كانت تلك هي الحقيقة الكبرى التي أولاها سولانكا
ظهره….». ص 63.
الغضب في «غضب»: لا تستمدّ الرواية اسمها «غضب» من طبع الشخصيّة الرئيسة سولانكا
الغضوب، بل يكون الغضب متواجداً، بشكل مباشر أو غير مباشر، في كلّ الفصول،
ملقياً بظلاله وآثاره على كلّ الشخصيّات. فهو خطيئة قاتلة من بين الخطايا
السبع القاتلة، يتجلّى في الرواية بكلّ الصنوف والأشكال، يرتجف جرّاءه
الصوت، يزعزع أينما يتوغّل: «كان صوته يرتجف نتيجة لغضب شديد، لم يكن
يسوّغه التطفّل، غضب يزعزعه كلّما كان يتغلغل في جملته العصبيّة، تراجعت
المرأة الشابّة أمام هذا الغضب وتلفّعت بالصمت». ص7. كما يكون الغضب أحد
مكوّنات الحياة الرئيسة متواشجة مع مكوّنات أخرى يظنّ بها التنافر، لكنّها
في الحقيقة متكاملة، تخلق بالنتيجة الإنسان بما هو عليه: «من الهيجان
وُلدت الحقيقة، والإلهام، والإبداع، والهوى، بل العنف، والدمار المحتوم،
وتبادل الطِّعان الذي لم يسبق لأحد أن شهد له مثيلاً. ترقص تشايفا رقصها
الهائج كي تخلق وكي تهدم أيضاً. أمّا الآلهة فلا أهمّيّة لها. كانت سارا
الغاضبة عليه أشدّ الغضب تمثّل الروح الإنسانيّ بأكثر أشكاله نقاءً،
والأقلّ مَشْركة. هذا هو ما نحن عليه، ونقنّعه مشذّباً داخلنا ـ الوحش
الإنسانيّ المريع القابع فينا، الربّ ـ الخالق، الممجَّد المتعالي،
المدمَّر ذاتيّاً وبلا عائق». ص38. لا يكون الغضب مدمِّراً دوماً، فقد
يمارس عليه إعلاء أو تصعيدا، يحوّله إلى ميادين أخرى، فنجد سولانكا يلوذ
بدماه وتقنيّاته عندما يتصاعد الغضب الواهن داخله، حين تذكّره لابنه
أسمعان، فيسعى إلى توجيه غضبه على دريئة خارجيّة، على أهالي ميامي الذين
يصفهم بالمخرّبين إيديولوجيّاً. حيث جعل منهم التسلّط متعصّبين في الرأي.
يعنّفون الصحفيّين ويشتمون محترفي السياسة المختلفين عنهم في الرأي. ص47.
وقد يغدو الغضب نفسه إعلاء للقصاص، أي مرحلة مصعّدة منه، «لم يكن في صوتها
أيّ شيء ينمّ عن الغضب، ومع ذلك فقد هجرها دون أن يترك لها أيّ تفسير.
سينتهي القصاص عاجلاً أم آجلاً بأن يتحوّل إلى غضب. ربّما أنّها ستترك
المجال لمحاميها في التعبير عن ذلك نيابة عنها، وربّما ستثير عليه غضب
العدالة الهادئ». 150. تكون هناك أسرار تؤجّج الغضب، منها عدم تقبّل المرء
في المجتمع الذي يرمي إلى الانخراط فيه، حيث تنتشي بذرة الغضب ضمن تلك
الأرضيّة الرافضة، أو المنغلقة، فمثلاً كان سولانكا يستطيع رؤية الغضب
الذي يعتمل في صدر جاك الذي يجد صعوبة في تقبّله عضواً إيجابيّاً في مجتمع
يسعى إلى الاندماج فيه، لكنّه كان يكبت هيجانه الذي كان مرآة غضبه، والذي
لم يخفَ على سولانكا. ثمّ قد يكون الغضب وحشاً كاسراً، أو عدوّاً آسراً،
يغدو إرهابيّاً مريعاً لا يكفّ عن أسر ضحاياه كرهائن لا يستطيعون فكاكاً..
مع اختلاف سورات الغضب من امرئ إلى آخر.. يلجأ البعض أحياناً إلى الغضب:
«لنلجأ إلى الغضب». ص86. يستعبد الغضب بعضاً آخر، كما يحصل لسولانكا الذي
لا يدري بذلك إلاّ عندما تعنّفه زوجته إيليانور على الهاتف: «مليك، أنت
تقول بأنّك تريد أن تنسى نفسك. أظنّ أنّه قد حصل آنفاً. تقول إنّك لا تريد
أن تبقى عبد غضبك. أظنّ أنّه لم يسبق للغضب أن سيطر عليك بهذا القدر
أبداً». ص101 – 102. كما يحضر الغضب بشكل مختلف، عندما يعاود سولانكا
الغضب على دميته سرﭬليت التي تخرج عن سيطرته، يغدو غضبه كالورم الذي يكبر
في داخله «وطالما كانت تتكلّم كان يحسّ بالغضب القديم يتورّم داخله. بسبب
حنقه الظمِئ على سرﭬليت الذي بقي ضمنيّاً ومتعذّر الوصف طيلة هذه
السنوات». ص110. ثمّ يبدأ هذا الغضب المتورّم يقضّ مضجعه «كان الغضب يهوي
عليه كواحدة من منحوتات هولزي. فسرﭬليت ابنته قد أصبحت عملاقة ثائرة تجسّد
مذ ذاك كلّ ما كان يحتقره». ص117. يكون الغضب معرّضاً للتصاعد أو
الانحسار، ذلك تبعاً للشخصيّة، وللموقف الذي تجد نفسها فيه، فقد يصبح
متوحّشاً، وقد يتواصل، فيولّد معارك لا تنتهي، غضب يكنس غضباً، يتغوّل
الغضب فلا يعود هناك مجال للسيطرة عليه أو تسويره، أي يستشفى به، يتحوّل
إلى وسيلة للتداوي، يترقّى من داء إلى دواء، يتلعثم، يبرطم، لكنّه يرسم
المصائر في مبارحته. «كان الغضب يبارحه. لكنّ العالم كلّه كان يبدو من
حوله حاقداً بشكل لا يحتمل. كانت ميلا تعزّل إلى مسكن آخر، وإيدي قد
استأجر من أجل ذلك شاحنة فان غو». ص245. وعند الاقتراب من النهاية، لا
يبقى الغضب علة حاله التي يبيد فيها كلّ شيء، حيث تفرّ إلهة الغضب، «فهم
سولانكا أنّه قد تحرّر وأنّه قد أبلّ من حالته الغريبة. لقد فرّت إلهة
الغضب. وبطُل سلطانها عليه. لقد طُهِّر من قدر كبير من السمّ الذي كان
يجري في عروقه وأعتق من كان يمكث حتّى اللحظة حبيساً». ص255. ثمّ يكون
هناك سرد وإيجاز لبعض نتائج الغضب الكارثيّة، وذلك تمهيداً للانعتاق
والتحرّر منه، يأتي ذلك على لسان سولانكا في حديثه المناجياتيّ: «من صميم
الغضب الجماعيّ لهذه الجزر البائسة أيّها الغضب، يا أيّها الأعظم والأرسخ
من غضبه الذاتيّ الذي يدعو على الرثاء…». 287. «لقد مضيت بعيداً بسبب
الغضب الذي ألمّ بك فجأة… لقد دوّم الغضب وما زال يتصاعد..». ص289. وفي
النهاية يكون هناك قلب للمفهوم، بتحويله إلى نظير للجمال، مرافق له، معطوف
معه وعليه، «في أثينا، أخوات الجحيم كنّ أخوات أفروديت: كان الجمال
والغضب، مثلما علم ذلك هوميروس، ينبثقان من ذات النبع». ص292. كأنّما يكون
جهر بالغضب، تجسيم له للقضاء عليه، أو تبديه، إخراجه من طور إلى آخر،
وتفنيد المزاعم التي تزعم بأنّ الغضب طريق الخلاص. يفكّك الكاتب شيفرات
الغضب، يجرّده من لغميّته القاتلة، يروّضه عن طريق اللهج بكلّ أشكاله..
فلا يعود قاتلاً بقدر ما يصبح مدجّناً..
أمريكا على المِحكّ: يضع رشدي أمريكا على المحَكّ، ذلك على ألسنة الشخصيّات التي تختلف
نظرتها لأمريكا، وتتباين طرائق تعاطيها معها، منها ما تراها الحلم، ومنها
ما تعتبرها «الشيطان الأكبر»، فهاهو البروفيسور سولانكا الذي يتوجّه إلى
أمريكا يستجديها كي تفترسه عساها تطهّره من آثامه، من ماضيه، وتعيد إنتاجه
وطرحه بحلّة جديدة، «أكبر إلهة أسطوريّة كانت تحاصره من كلّ الجهات:
أمريكا في ذروة سلطتها الشرهة الهجينة. أمريكا التي قصدها كي يمّحي فيها،
كي يتخلّص من كلّ رباط، بل أيضاً من كلّ غضب، من كلّ خوف ومن كلّ ألم.
افترسيني. تضرّع الأستاذ سولانكا بصمت. افترسيني يا أمريكا ودعيني وشأني».
ص55. تكون أمريكا هي المحجّ، ليلقي بكلّ ثقل الماضي خلفه ويبدأ بداية
جديدة لا يلتفت بعدها إلى الذكريات التي تجثم على صدره، لتكون أمريكا هي
المستقبل وحده، المستقبل المنقطع عن كلّ جذر، كأنّما أمريكا تُجبّ ما
قبلها، «لقد جاء إلى أمريكا، كما سبقه إلى ذلك الكثيرون كي يتلقّى البركة
الجزيريّة للقدّيس إلياسن وينطلق ثانية من الصفر. عمّديني يا أمريكا،
سمّيني بوذا، شيب أو سبايك. ارميني في فجوة الذاكرة ودثّريني في لا وعيك
الجبّار. خذيني في مغامرتك وضعي لي قبّعتي، قبّعة ميكي. هبي أنّي لست عالم
تاريخ، بل رجلاً بلا تاريخ. سأجتثّ لساني من جذره وسأتكلّم لغتك الهجينة.
قطّعيني إلى تفعيلات، اجعليني رقماً، احمليني بعيداً». ص63- 64. ثمّ
يتطوّر الإعجاب بأمريكا بعد اللوذ بها، إلى اغتياظ من مزاعم الأمريكيّين
وزيفهم فيما يزعمونه، عبر رغبتهم في أمركة الأشياء، في نسبتها إلى أمريكا،
إذ وجد فيها علامة الرأسماليّة الأكثر ابتذالاً، وذلك عبر حرصهم على إدراج
بادئة لغويّة تدفع خصوصيّتهم في كلّ مكان، «حلم أمريكيّ، نقش أثريّ
أمريكيّ، متعهَّد أمريكيّ، تحليل نفسي أمريكيّ، طرب أمريكيّ». ص69. ينتقل
بعدها إلى الحديث عن الهوس المتعاظم لأمركة الأشياء، وإلى السعي المحموم
للتأمرك من قبل الكثيرين، كأنّهم بذلك يلحقون بركب الحضارة والمستقبل،
«كلّ العالم صار اليوم أمريكيّاً، أو مُؤمَركاً على الأقلّ: الهنود،
الإيرانيّون، الأوزبكستانيّون، اليابانيّون والليليبيانيّون جميعهم.
أمريكا كانت حلبة ألعاب العالم، قانونه، حكمه، وكرته. حتّى معاداة الأمركة
كانت أمركة مقنّعة، لأنّها كانت تعترف بأنّ أمريكا كانت المباراة الوحيدة
المعلن عنها..». 106 – 107. تارة تكون أمريكا مصوّرة على شكل وحش كاسر
يرمي إلى إهلاك الجميع، أو ابتلاعهم، ثمّ تخرّ خوفاً من غضب ضحاياها، تارة
أخرى تكون وطناً للإبداع، ملاذاً آمناً للاجئين إليها.. تبقى أمريكا أمّ
المتناقضات، تنشر قيمها الجديدة، تفرض رؤيتها لعالم جديد تكون فيه السيّدة
والقائدة. قد تكون هذه نقطة قوّتها. تشتمل على كلّ شيء من كلّ شيء. ونقطة
ضعفها في آن.
استحضار الميثولوجيا: تستحضر الرواية الميثولوجيات التي ما يزال الاعتقاد بها سارياً
وفاعلاً، وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة، يستشهد بها الكاتب لتدعيم رأي أو
ربطه بجذر ما سابق كان معمولاً به شرقاً أو غرباً، ربّما ليرسّخ بذلك
مفهوم المواطن العالميّ أو المُعولم، الذي يعود بجذوره إلى لهذه البقعة أو
تلك، ويشكّل امتداداً لها في بقع أخرى مستجدّة بحسب الظرف التاريخيّ الذي
حتّم ذلك. مع عدم إغفال التأثير الذي يخلّفه عليه عبر التوارث من خلال
التربية أو مشاهدات الطفولة التي تتكرّس في الأذهان، قبل أن يبحث المرء
لها عن موجبات ومبرّرات معاً. يقنع بها، لأن يتقنّع خلفها. ومن تلك
الميثولوجيّات ما يعبّر عن الشرق ومنها ما يعبّر عن الغرب، حيث ترد في
سياق روائيّ محبوك ومتشظٍّ في آن. إيكارس: طائر أسطوريّ تخلّص من سجنه بأن
صنع جناحين وطار بهما. لاثالكيري فانوريْيْن على طريق هاري، التي هي
ميثولوجيّة جرمانيّة، آلهة أنثويّة، رسولات إله الحرب ومضيفات اللواتي
يصحبن الأبطال الأموات إلى حدود الفردوس. الألعاب البيتاريّة: مهرجان
إغريقيّ كان يقام في دلفي كلّ ثلاث سنوات تكريماً للإله أبولون. الساغا:
حكاية تاريخيّة أو ميثولوجيّة من الأدب الإسكندنافي. نمسيسة، إيرني: من
آلهة الثأر عند الإغريق. الملك ميداس: ملك من آسيا الصغرى عاش في القرن
الثامن قبل الميلاد، كان يحوّل كلّ ما يلمسه إلى ذهب. أورانوس فارونا:
الإله الذي يجسّد السماء عند الإغريق. براهما: إله مجمّع الأرباب عند
الهنود. يهوه: الإله الإسرائيليّ الذي ظهر على موسى في سيناء. بيتونيس:
إلهة الوحي باسم أبولون في معبد الدلفيات. دلف: معبد يونانيّ قديم مشهور
بمعجزة أبولون. وغيرها أيضاً كاحتفال المسارّة، وفيتشيميه..
يسعى رشدي إلى تغيير العالم بالكلمات التي يرمي إلى تحويلها إلى
أفعال.. نجده في الرواية، يؤلّه، تارة، الآلة، وتارة أخرى يؤلّل الإنسان،
ثمّ يعود إلى تأليه الإنسان، وذلك في سياق تطوّر متصاعد، يؤثّر في أكثر من
جهة، يحدّد أكثر من وجهة.. يبادل الأدوار بين الدمى والنساء الواقعيّات،
حتّى ليختلط بينهما، تغدو الدمية حقية، والمرأة دمية، أحياناً تتحوّل
الدمية إلى دامية للقلوب.. كما نجد الكاتب يستشهد بالكثيرين، من كتّابٍ،
مفكّرين، مشاهير، ممثّلين، سينمائيّين، قادة، «شكسبير، فرويد، ديريدا،
جويس، البابا، كاسترو، بوش، ميلوزوفيتش، كلينتون، ألبوتشينو، مليسا
إيثيريدج، ووارن بيتي، جينيفر لوبيز، أنجلينا جولي… وغيرهم كثيرون». وذلك
في معرض سرده لتواريخ شتّى، مراحل مختلفة، أماكن متعدّدة، ومواضيع
متشظّية.. يُسائل التاريخ، يستجوب بعض المشاهير، يعيد صياغة بعض أفكارهم،
هو بذلك يحرّض على إعادة القراءة، والاجتهاد في التأويل، للإجابة على
الأسئلة المعلَّقة، كدعوته إلى إعادة قراءة شكسبير للتعرّف عليه من جديد
والاجتهاد في وضع الإجابات: «إنّنا نجد في كلّ واحدة من مسرحيّات شكسبير
المأسويّة أسئلة لا جواب لها في ما يخصّ الحبّ، ولكي نفهم هذه المسرحيّات
جيّداً، يكون لابدّ لكلّ واحد أن يجهد بطريقته لتفسير هذا المتعذّر
التفسير. لماذا يرجئ هملت الذي يحبّ أباه المتوفّى ساعة الانتقام في حين
أنّه يدمِّر أوفيللي التي تحبّه؟ لماذا لير الذي يفضِّل كورديليا على كلّ
بناته، لم يفهم الحبّ ضمن صدق استجاباته الأولى فصار حينئذٍ فريسة أخواتها
الفاقدات الإحساس، ولماذا انقاد مكبث المخلّص لأقرانه بسهولة أيضاً بواسطة
الجنّيّة اللامبالية الليدي م. إلى عرش ظالمٍ ودامٍ؟». ص14. كما نقرؤه وهو
يستجوب التاريخ على لسان شخصيّاته، كأنّما يسعى إلى إعادة محاكمته: «لم
يكن سقوط روما يرجع إلى ضعف جيوشها، إنّما إلى أنّ الرومان قد نسوا ما كان
يعنيه أيكون المرء رومانيّاً. أليس جائزاً أنّ روما الجديدة تلك كانت أكثر
قرويّة من ضواحيها، وأنّ هؤلاء الرومان الجدد قد أهملوا ما كان يجدر أن
يقيموا له اعتباراً وعلى أيّ نحو؟ أكانت كلّ الإمبراطوريّات على ذات القدر
من عدم الجدارة أم هذه لم تشذّب جيّداً بشكلٍ خاصٍّ؟ ألم يكن هناك شخص
بعد، وسط هذه الفعاليّة المضطربة، وهذا الامتلاء المادّيّ يعنى بسبر القلب
والعقل؟». ص105. ثمّ نراه في ظلّ التسارع الرهيب للأحداث، يتساءل عن آليّة
التغيير التي تجتاح العالم من حوله، ولا تترك شيئاً في محلّه، ذلك أنّ
السرعة التي تسير فيها الحياة المعاصرة، تفوق قدرة القلب على الاستجابة.
لذا تأتي دعوة سولانكا «رشدي» إلى ردّ الاعتبار إلى الإنسان وتأليهه،
ليجتمع فيه الأب والابن معاً، وذلك في الخاتمة التي يتأمّل فيها أن يرى
أسمعان والده الواحد الأحد تحت قبّة السماء الزرقاء. «إنّه والده الحقيقيّ
الذي يطير كعصفور كي يمضي ليحيا تحت القبّة الكبيرة الزرقاء التي لم يسبق
له أن آمن بها إطلاقاً». 302.
رواية «غضب» هي رواية العالم المعاصر، بكلّ تشعّباته، بكلّ صخبه
وجنونه، تختلط فيه الأحداث وتتشابك الوقائع، لا يجري حدث بمعزل عن آخر،
كلّ أمر يؤثّر ويتأثّر، لا يبقى أحد بمنجىً عن التغيّر والتغيير