ار والغيوم والبيوت، مطر
واهن يسقط، ريح ثقيلة شمطاء تتهيأ لانفجارتها الهوجاء ، الشارع البليل
الواسع امامي في المدينة الصغيرة خال تماماً من العربات والمارة ، ثمة شئ
مخيف سيحدث هذه الليلة هكذا انا متورط دائماً في فن التنبؤ المتوحش
بالكوارث وامتلك العين والاذن الثالثة.
. وحيداًاقود عربتي القديمة المهترئة في الليل الصموت الذي يفتعل الامان
وينتحل السلام ، متأخرة كانت الساعة ، صداع وحشي يعشش في اعصابي ، ينخر
مخيلتي، يتلف اطرافي، آه علي ان اتوقف هنا لبعض الوقت بالقرب من شجرة السرو
الوحيدة المترنحة المنطوية على خوائها الضاري واخضرارها المقتول ، علي ان
ارتب اوراق ذاكرتي المختلطة والملم مزق اشيائي المبعثرة واواصل طريقي
الغامض كبحار بائس فقد حكمة الاتجاهات ، غيوم سوداء تتدافع سكرى بمناكبها
الهلامية في السماء، صمت مدو تضج به شوارع المدينة الصغيرة ، حيوان في
داخلي احمق ومريض، يتململ ، يعوي،ينزف المخاوف والاشواق والاسئلة.
كنت امشي معها، اه معها كنت
امشي، ببطء الخاسرين الحائرين وفزع المنحدرين الى هاوية في شارع المدينة
الطويل غير مكترثين لتحذيرات السماء وهي تتوعدنا بطرقات موحلة، سقوف دالفة،
نوافذ مهشمة غير قابلة للجبر،تدفعنا الرياح من الخلف تطوح بكلماتنا
ومعاطفنا، وفجأة نصحو على خطونا المتناثر وقد توغل بنا عميقاً في ادغال
لعبة جنون بلهاء، اراها تتوسد الان فخذي في زاوية شعثاء من بيت قديم متداع
مهجور بلا سقف، اراني أمسد بأصابعي المبلولة جسارتها المتراجعة المرتعشة
واسوي ارتباكات جلدها المقرور، واربت بعيوني اختناقات نظراتها وتهدل
ابتسامتها.
قالت: العاصفة خلفنا والضباب امامنا ، ما العمل ايها الرجل السادر في
هشيمه؟
قلت: دعينا نناقش جذور المسألة ، من انت؟ومن انا؟ وماذا نفعل في هذا
المكان؟
قالت: هيا نفكر بطريقة آمنة مختصرة لوضع الحروف على النقاط.
قلت: تجربة " جان جينية" تسيطر علي هذه الايام، اراني اخطط ليلا على
الورق والجدران، مشاريع تدمير مخيفة، اصحو فجراً على يدي واسناني وهي تمزق
الملاءات والملابس، والوسائد ورسائل الاصدقاء وباقات الورد، والكتب،
والمرايا واشرطة الموسيقى الهادئة، وصور الاباء والاجداد والاخوة المعلقة
على الجدران، والاوسمة الفضية، التي منحت لأبي تقديراً لتفانيه في التدريس.
وحيداً في الظلام الراسخ اقف ممزق الرؤى ، بجانب شجرة السرو الوحيدة
المترنحة، أبفعل الريح تترنح هذه الشجرة اليتيمة، التي تنتصب بذل مفضوح عند
طرف احد الحقول البائرة المهجورة بمحاذاة الشارع ؟ ام بفعل تضور الروح
وظمأ الجذور ؟ لم استطع الاجابة ، وبذلك يضاف هذا السؤال الى حزمة الاسئلة
الكثيرة الحارقة التي يجيش بها دمي وتكتوي عظامي.
الضباب المتكاثف الجهم يهبط على الارض هائل الاكتاف ، فظ التنفس، رجيم
الابتسام ، مبتلعاً الشوارع والبيوت والشجرة اليتيمة وانا وكل شئ كل شئ،
قبر أبي لا يبعد عن قبر امي سوى عدة امتار وفي كل مرة كنت ازورهما فيها كنت
اشعر ان القبرين يتباعدان عن بعضهما البعض وعندما سألت امي عن ذلك قالت
لي: شعورك صحيح يا بني فشخير ابيك وضراطة لا يجعلاني انام تماماً كما ايام
الحياة الدنيا ،لذلك اضطررت مراراً للنهوض ليلاً بتواطؤ وتضامن احد
الملائكة الطيبين لحفر قبور جديدة مجاورة، اما ابي ذو القامة المديدة
والابتسامة الساحرة فقد قال لي والدموع تترقرق في صوته: هذا الموضوع لا
يستاهل غضبي او استيائي ، فالوحدة هنا قاتلة لا احد يزور احداً لا ضحكات
حولنا لا اصوات باعة، لا كركرة اطفال، لا خرير مياه، لا فناجين قهوة ،
الموت قاس يا بني، الموت قاس. >. هل آن او ان العودة الى البيت؟ من
سيفتح لي باب غرفتي؟ سكان بيتي نيام،والرياح ستخنق صوتي إن صرخت عليهم، ولا
مفتاح معي آه لا مفتاح، لا مفتاح.
يداي تتشبثان بالمقود، قدمي على الفرامل، عيناي المنهكتان تبحثان عن منافذ
للرؤية وسط الضباب , ببطء اسير وبندم ورعب ايضاً، فجأة شعرت بعجلات العربة
تصطدم بحجارة وتتوقف، اصابني ذهول، اذ المفروض انني اسير باتجاه معهود
طالما عدت منه الى البيت في الليالي المعتمة الضبابية، هبطت من العربة،
فاذا بي اصل لنهاية شارع معبد طويل يسلم بصورة غير مبررة لحقل غريب ممتلئ
بالضباب والعتمة واصوات غامضة، هي مزيج من الضحكات والنداءات والاستغاثات،
عدت الى العربة، قدتها باتجاه اخر بعد ان اقنعت نفسي مرتعشاً بأنني ضللت
الطريق الشارع الجديد مليء بالمطبات لكنه يبدو مسالماً وحنوناً، المفاجأت
كانت مشابهة تماماً اذ سرعان ما سلمت للحقل الغامض المعتم ولكن من طرف اخر،
يا الهي ما الذي يحدث لي؟ هل اطرق باب احد البيوت واسأل سكانه عما يجري في
المدينة؟ حاولت طريقاً اخر معبداً وطويلاً فإذا به يتخلى عني ويهرب
كسابقيه خائناً متراجعاً امام سطوة الحقل المرعب، رأيتها فجأة تبزغ بصعوبة
بالغة من طيات الضباب متجهة نحوي بخطو مكسور وذاو؟، تحاول ان تركض لكنها
تتعثر وتسقط، لا ادري اكانت تبتسم ام تستعد تقاطيعها للنحيب، توقفت امام
زجاج العربة الامامي، الان اراها بوضوح، صديقة الاسئلة والجنون والرحيل،
كانت تبتسم، تشير لي بيدها لأن اخرج من العربة واتبعها باتجاه الحقل المعتم
المرعب، رأيتني اهبط من العربة ممتلئاً نشوة وفضولاً واسرع نحوها، اغرقتني
بالقبلات، امسكت يدي، قادتني باتجاه الحقل وعند حافة الشارع المرتفعة
قليلاً والحادة وقبل ان نخطو، اقتربت من وجهي وهمست: جهز جناحيك ايها الرجل
السادر في هشيمه، وقبل ان احرك جناحي لاختبر صلابتهما سمعت اصوات اشخاص
ليست غريبة عني قادمة متهدجة من جوف الحقل، كان ابي وامي ومعهما جمع من
العراة شاحبي الوجوه يقفون امامي هلعين يلطمون وجوههم، يصيحون في وجهي
والقزع يتطاير من نظراتهم وعظامهم الصفراء: - عد الى البيت عد الى البيت،
نظرت الى صديقتي ، فإذا بها تقترب وتهمس في اذني بصوت كالفحيح: هؤلاء هم
اعداؤنا، تقدم، ولتشحذ جناحيك وتضرب بصيحاتهم عرض الضباب، وبينما كنت انقل
الطرف المرعوب الحائر المشروخ بين صيحات امي وابي والجمع العاري وبين
ابتسامة صديقتي المغوية القوية العميقة، كانت روحي الغضة الصغيرة قد غصت
بالذهول.