[rtl]غذاء الروح: الإسلام والموسيقى[/rtl]
[rtl]هاهو صباحٌ جديدٌ يستأذن الدّخول، الشّمس المشرقة تدقّ النّوافذ، أملٌ للمستقبل يَرسم ملامحه على السّماء الزّرقاء الملطخة ببعض بياضات الغيم المتناثرة. هيّا لأفتح نوافذي، لأستقبل نسيم الصّباح المنعش محملًا برائحة قهوة الجيران الرّائعة، لتزيل ما بقي عليّ من آثار النّعاس، ومتلازمة الكسل الصّباحي المزعج. رائحة القهوة تزداد أكثر؛ إنّها قهوتي وقد بدأت تُسكب، فطوري البسيط مرتّبٌ على المائدة، وزوجتي الحبيبة قادمةٌ لتشاركني في فطوري. يومي الرّائع قد اكتمل الآن، كلّا لم يكتمل بعد، إنّه ينقصه شيءٌ مهمٌ، لا بل هو أهمّ شيءٍ، ينقصه صوت فيروزٍ، ونغمات (نسم علينا الهوا) تُطرب مسامعنا، وتبعث فينا روح الأمل ليومنا الجديد.[/rtl]
[rtl]حان وقت انطلاقي للعمل محمّلًا بمئات الأطنان من النّشاط، وآلاف الأرطال من التّفاؤل، ومن حسن حظي أن أركب أول حافلةٍ أصادفها لتأخذني مسرعةً نحو عملي.[/rtl]
[rtl]يعلو صوت مِذياعها بالقرآن كعادة معظم النّاس في بلدي، فبداية الصّباح تكون للقرآن دقائقَ قليلةً، ثمّ غيّر سائقنا مذياعه إلى خطبةٍ جَهوريةٍ في مسجل الحافلة تحث على التّفاؤل؛ فعلًا. فرغم وجود مكبر الصّوت في أذني، غير أنّ كلماتها تخترق الحواجز، ويعلو صوت الخطيب بالكلام عن الاستعداد للرحيل وتهيئة العدّة للموت، ليكمل صراخه موبخًا النّاس لتهاونهم في سماع الأغاني![/rtl]
[rtl]قلت في نفسي لعلّه يَقْصد الأغاني الهابطة التي انتشرت هذه الأيام، لكني كنت مخطئًا فهو يقصدها جميعًا. فكلّ أغنيةٍ صاحَبتها موسيقى مشمولةٌ بهذا المنع. أتقصد ألّا استمع لفيروزيات الصّباح؟ تبًا لك وتبًا لدينك.[/rtl]
[rtl]لقد اتّخذ الإسلام طريقًا مختلفًا عن معظم أو تقريبًا عن جميع المعتقدات والفلسفات الأخرى الموجودة على وجه الأرض، فبعد أن تدخل قليلًا في عمقه الفقهي تتفاجأ بوجود أحاديثٍ كثيرةٍ أكدت على تحريم الموسيقى والفنون، نهيٌ جازمٌ بهذا الأمر، ووعيدٌ وتهديدٌ لمن خالفه، أو حاول أن ينقضه.[/rtl]
[rtl](وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (لقمان 6-7)[/rtl]
[rtl]وعن ابن عباس قال في هذه الآية: هو الرّجل يشتري الجارية تغنيه (تغني له) ليلًا ونهارًا. وسُئل عبد الله بن مسعود عن هذه الآية فقال: والله الذي لا إله غيره هو الغناء، يرددها ثلاثًا. وقال الحسن البصري: نزلت هذه الآية في الغناء. وقال مجاهد: هو اشتراء المغني والمغنية بالمال والاستماع إليه، وإلى مثله من الباطل. وقال الواحدي: أكثر المفسرين على أنّ المراد بلهو الحديث: الغناء؛ فهذه الآية تدلّ على تحريم الغناء. وسأل ابن عمر النّبي فقال: إنّه الغناء. وبهذا فسّر الآية أئمة التّفسير على أنّ المراد بلهو الحديث في الآية هو الغناء، وعلى رأسهم الطبري وابن كثيرٍ.[/rtl]
[rtl] قال ابن القيم: ويكفي تفسير الصّحابة والتّابعين للهو الحديث أنّه الغناء، فهم أعلم الأمّة بمراد الله من كتابه، فعليهم نزل، وهم أوّل من خُوطب به من الأمّة، فلا يُعدّل عن تفسيرهم. والآيات لمّا بيّنت تحريم الغناء؛ بيّنت حال أصحاب الغناء، وإعراضهم عن كتاب الله، فإذا تُليت عليه (أي صاحب الغناء) آياتٌ ولّى عنها وأعرض وثقل عليه سماعها، فإنّك لا تجد أحدًا اعتنى بالغناء وسماع آلاته إلّا وفيه ضلالٌ عن طريق الهدى، وفيه رغبةٌ عن سماع القرآن فلا يطيقه (ابن كثير).[/rtl]
[rtl] { واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورِجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعِدهم وما يعدهم الشّيطان إلا غرورًا } (سورة الإسراء):64[/rtl]
[rtl]جاء في تفسير الجلالين: (واستفزز): استخف، (صوتك): بدعائك بالغناء والمزامير وكلّ داعٍ إلى المعصية، وهذا أيضًا ما ذكره ابن كثير والطبري عن مجاهدٍ. وقال القرطبي في تفسيره: ” في الآية ما يدل على تحريم المزامير والغناء واللّهو، وما كان من صوت الشّيطان أو فعله وما يستحسنه فواجبٌ التّنزه عنه”.[/rtl]
[rtl]قال محمّدٌ: «لَيكونن من أمّتي أقوامٌ يستحلّون الحُرّ والحرير والخمر والمعازف، ولَينزلن أقوامٌ إلى جنب علمٍ، يروح عليهم بسارحةٍ لهم، يأتيهم لحاجةٍ، فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردةً وخنازير إلى يوم القيامة» رواه البخاري تعليقًا برقم 5590، ووصله الطبراني والبيهقي، وراجع السّلسلة الصّحيحة للألباني 91[/rtl]
[rtl] هذا فيضٌ قليلٌ ممّا ورد ذكره عن موضوع تحريم الغناء والموسيقى، القطعيُ غير القابل للنّقاش والمجادلة، عكس ما يصرح به شيوخ المسلمين الجدد كالعدنانيين (العدنانيون نسبةً إلى عدنان إبراهيم) في عدم فهم النّص، وأنّ فيه احتمالاتٌ وفرضياتٌ ومحاولاتٌ بائسةٌ لتجميل الوجه البشع للفقه الإسلامي.[/rtl]
[rtl]إنّ العدوانية التي يتصرف المسلمون بها تٌجاه الموسيقى تثير الغرابة والاستفهام؟ كلّ هذا الحقد تٌجاه بعض الأنغام والكلمات؟؟ هل هو حرصٌ علينا منها أم خوفٌ منها علينا؟[/rtl]
[rtl]
[/rtl]
[rtl]المسلمون خالفوا كما قلنا معظم المعتقدات في العالم، ولعلّ بعض الأديان كالمسيحية تَدْعم صِلاتها بالرّب ببعض الموسيقى، وتعتبر ذلك وسيلةً تقريبيةً في الصّلاة؛ كون الربّ لديهم جميلًا ومُحبًا، وأفضل ما تلاقي حبيبك به أن تغني له وتعزف الألحان.[/rtl]
[rtl] لنأخذ وِجهة النّظر الإسلامية من اتجاهٍ محايدٍ جدًّا، نتفحص أسبابها وتأثيراتها لعلنا نصل لنقطةٍ مفيدةٍ.[/rtl]
[rtl]سنبدأ البحث أولًا بالعلم الذي أوصلنا لهذه المرحلة، وجعلنا نضع الكلّ في قفص الاتهام لِتَثْبُت براءتهم، علميًا هذا الموضوع يُعد خطأً فطريًا وعلميًا في حكم الإسلام، ويخالف جميع الأبحاث والتّجارب العالمية، فالفطرة للإنسان والحيوان، وحتى النّبات تجعل منه يَطْرَب ويسترخي للنّغم الجميل، فيتأثر الجسم نفسيًا، وتتعالى قِيَمُه الإنسانية وتفيض المشاعر منه بشكلٍ رهيبٍ. فعند سماع الإنسان لنغمات الموسيقى تحدث بعض التغيرات الكيميائية، التي يمتد تأثيرها لجميع حواس الإنسان، بما فيها التّفكير والتّنفس والعاطفة، والسّبب في ذلك أنّه عندما يسمع شخصٌ منّا الموسيقى تُحفِز المخ على إفراز مادة الإندروفين التي تقلل من إحساس الإنسان بالألم. والعلماء مازالوا يثبتون فوائد ومزايا كثيرةٍ لسماع الموسيقى الهادئة، وكثيرٌ من الأطباء النّفسانيين يؤمنون بدور الموسيقى في العلاج، ولعلّ ابن سينا هو أول من أشار إلى دور الموسيقى في العلاج، وتهدئة النّفس والتّخدير، وأورد مصنفاتٍ كثيرةً في هذا، وتناقل من بعده العرب والغرب هذه الطرق العلاجية.[/rtl]
[rtl]لعلنا نظلم الإسلام وشرعه البدوي ونقسو عليه، فقد يكون هناك سببٌ وجيهٌ في تحريم الموسيقى بشكلٍ خاصٍ، والفنون كلّها بشكلٍ عامٍ، فلعلّ أبرز التّعليلات ما يدور في باب أنّها تلهي عن ذكر الله؟ لكن هل يُعقل أنّه يستعبد خلقه لدرجة أنْ يحرمهم من أروع مُتع الدّنيا؟ لكننا نقول لهذا الإله: إنْ وَجد الإنسان قدرةً على أن يوازن بين عبادتك ونشوة نفسه وغذاء روحها التي تدّعي أنّك خالقها، وهي جزءٌ منك، فهل تدعنا نستمع إلى قليلٍ منها، ونبقي الكثير الباقي لعبادتك والتهليل لك؟[/rtl]
[rtl] كلّا طبعًا؛ الموضوع ليس له أيّ علاقةٍ بالعبادة والتّهليل، المسألة فيها بعدٌ ذكيٌ جدًّا من محمّدٍ. محمّدٌ أدرك أنّ هيمنة دينه على العالم لا تأتي إلّا بالسّيف والدّم والإجرام، وهذا يحتاج لمحاربٍ جَلِدٍ، قاسي القلب، لا تَذْرِف له دمعةٌ وهو يقطع رأسك أمام أهلك ووسط عويل أطفالك، وما يلبث أن يكون رأسك طبقَ غَدَائِه الرئيسي، (للعلم، هذه الحادثة وقعت بالفعل ولا مجال لذكرها الآن)، لكن الفنّ والموسيقى على طرفي نقيضٍ من هذا السّلوك، فلم أسمع يومًا عن موسيقيٍ فجّر نفسه وسط سوقٍ شعبيٍ، أو رسّامٍ نحر جاره المخالف له في المذهب.[/rtl]
[rtl]
[/rtl]
[rtl]المشكلة الحقيقية تكمن في ليونة القلب التي تحدث بفعل الفنّ، وهي ستكون أكبر خطرٍ يهدد مستقبل الفتوحات الإسلامية الإرهابية، فلن يستطيع محمّدٌ ولا من جاء بعده من أتباعه غزْوَ شبرٍ واحدٍ مع هكذا رجالٍ يحملون كمًّا كبيرًا من الإنسانية والحبّ؛ لأنّهما بكلّ بساطةٍ على طرفي نقيضٍ من بعضٍ، و لعلنا قد كبِرنا وفهمنا، فَكَرْنا، ثمّ قررنا أن نُسْدل السّتار على تخاريف المعتقدات، لكن الجيل النّاشئ، أطفالنا الصّغار أكثر ضحايا هذا الإرهاب الفكري الشّرس، هم من ستقابلهم معلمة المدرسة المتدينة بوابلٍ من الحكم الدّينية الخرقاء ونصائح الحجاب وترك الموسيقى والاستماع للقرآن فقط، لأنّه غذاءُ الرّوح الحقيقي، نعم سنواجه هذا المد، لكن النّتائج السّلبية ستنعكس على أطفالنا.[/rtl]
[rtl] أخيرًا وصلت مكان عملي، وسأنزل من هذا المسجد المتنقل(الحافلة)، وفي داخلي قرارٌ حاسمٌ غير قابلٍ للتّفاوض، كما أنّ دينهم غير قابلٍ للتفاوض، سأُعلّم أولادي الموسيقى بكلّ ما أُوتيتُ من قوةٍ، سأجعل أناملهم تداعب الأوتار قبل أن تلفظ شفاههم الكلمات والجمل، سأنصح كلّ قريبٍ وصديقٍ أن يشتري آلةً موسيقيةً؛ ليتعلم العزف عليها، فالموسيقى والفنّ فقط هما غذاء الرّوح.[/rtl]
- اقتباس :
[rtl]“لو كان كلّ إنسانٍ منّا موسيقيًا لأصبح العالم أكثر أمنًا”[/rtl]
[rtl]ويليام شكسبير[/rtl]