- اقتباس :
يجتهد الإنسان منذ ظهوره على وجه البسيطة، و كما يحكي لنا التاريخ و جل العلوم الأخرى الطبيعية منها و الإنسانية، في شيء واحد هو كيف يكون أعلى من شبيهه الإنسان. وفي مناح كثيرة من الحياة، ومن أعقدها الى أبسط الممارسات اليومية الاعتيادية، و التي تظهر في كيفية اللباس و الأكل و المشي و الجلوس، اخترع الإنسان طرقا و مسميات تميزه عن شبيهه الإنسان. واخترع أماكن و منشآت و أدوات لتكريس هذا التمييز الذي يفيئ الإنسان الى واحد أعلى وآخر أدنى.
لقد ظهر هذا الاجتهاد بشكل صريح عند الفلاسفة الأوائل حيث قسم أفلاطون الإنسان حسب طبيعته الى المصنوع من الذهب (الأعلى)، والذي يكون منه حاكم الدولة وحارسها، و المصنوع من النحاس (الأدنى)[1]، والذي تكون منه بقية الشعب. واعتبر هذا التقسيم محددا عند الميلاد وغير قابل للتغيير كطبيعة المعادن. ومن ذلك الزمان، وربما قبله، سارت العلوم أو بعضها على الأقل في هذا الاتجاه، فرغم موضوعيتها و معزوليتها عن الانسان، شكلت أداة لتبرير التمييز بين من هو أعلى و من هو أدنى.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، علم "فراسة الدماغ " او الفرينولوجيا [2] ( la phrénologie) لصاحبها (فرانز غالFranz Joseph Gall ) الذي صنف الانسان حسب شكل جمجمته. و نجد امتدادا لهذه الافكار في دراسة (لمبروزو Marco Ezechia Lombroso)[3] التي روجت لمفهوم المجرم بالفطرة "فمن خلال تشريحه لجثث بعض المجرمين اتضح له ان لدى الانسان المجرم صفات (ارتدادية atavisme... مثل طول الفك السفلي، والذقن قليلة الشعر أو الهزيلة، بالإضافة الى تميزهم بانخفاض معدلات الاحساس بالألم، والاندفاع في التصرف"[4]، ولقد روج لومبروزو لأفكاره خصوصا في كتابيه الموسومين ب(المجرم المولود) و (المرأة المجرمة) واللذين يعزو فيهما السلوك الاجرامي لأسباب وراثية. ولكن لمبروزو تراجع عن هذه الفكرة نسبيا عندما ألف كتابه (الجرائم أسبابها و علاجها) يجادل فيه عن الاسباب الاجتماعية و الاقتصادية للإجرام.
و تناسلت الدراسات التي تفيء الانسان بين ذكي (أعلى) وآخر أبله (أدنى) حسب حجم الدماغ كما فعل ذلك العالم الفرنسي (بروكا Paul Pierre Broca)[5]، ففي سنة (1861) كتب بروكا خلاصة أبحاثه التي تقول: " في المتوسط، تكون كتلة الدماغ عند البالغ اكبر من كتلة الدماغ عند المسن، وعند الرجل أكبر منها عند المرأة، وعند علية الناس أكبر منها عند العامة، وعند العرق الأعلى أكبر منها عند العرق الادنى...وهناك علاقة ملحوظة بين تطور الذكاء و حجم المخ"[6]. وبذلك كان سكان باريس أكثر ذكاء من غيرهم حسب بروكا، وكانت المرأة أقل ذكاء من الرجل. وهكذا تكون كتلة الدماغ معيارا للتمييز.
و قام جودار (Henry Herbert Goddard) عام 1912 بدراسة تأثير الوراثة على صفة الضعف العقلي، وانتقالها بين أفراد العائلة الواحدة، وذلك في المجتمع الأمريكي. وقدم جودار دراسته الشهيرة على أسرة عرفت في تراث علم النفس باسم (أسرة كاليكاك (la famille Kallikak الاسم المركب من الكلمتين اليونانيتين "كالوس" وتعني الطيب و "كاكوس" و معناها الرديء. الاسرة التي انتشرت صفة الضعف العقلي في أحد فروعها، بينما سلم الفرع الآخر من هذه الصفة. وخلص جودار الى أن الوراثة تحدد الضعف الذهني، و بالمقابل تحدد الذكاء أيضا. ولتحسين النسل وجب على المجتمع أن يمنع ضعاف العقول من الانجاب و ذلك عن طريق التعقيم القسري. وبهذا تكون الوراثة معيارا للتمييز.
و لم تسلم العلوم الانسانية من هذا الاستخدام، فظهرت في علم الاجتماع مسميات من قبيل "الداروينية الاجتماعية" للفيلسوف و عالم الاجتماع البريطاني (سبنسر Herbert Spencer) الذي دافع عن فكرة "البقاء للأصلح". فاعتبر أن المجتمعات تتطور من أشكال بسيطة(أدنى) الى أشكال معقدة (أعلى). فظهر في هذا السياق مفهوم المجتمع المتطور الذي يتميز بالتقدم وتقسيم العمل و العلاقات العضوية المبنية عل العقلانية و الترشيد، والذي يسكنه "الانسان الاعلى". و في مقابل ذلك يوجد المجتمع التقليدي الذي يتسم بالعشوائية والعلاقات الآلية المبنية على الخرافة، و الذي يحيى فيه "الانسان الادنى".
و في علم النفس، اعتبرت مدرسة التحليل النفسي المرأة نصف رجل، على لسان مؤسسها (سيغموند فرويد Sigmund Freud) "فالنساء في نظر فرويد هن دون الرجال و قد أخذ هذا الشعور من الدونية التي كانت تعاني منها نساء فيينا في عصره، والتي فسرها بسبب الكبت و خيبة الامل الجنسيين وأطلق عليها اسم (عقدة الاخصاء) أو (حسد القضيب) ولهذا تكون المرأة رجلا ناقصا"[7]. فتكون حياة المرأة بأكملها حسب فرويد، تتمحور حول غيرتها من "التميز" الطبيعي للرجل، ومحاولة تجاوز النقص (التميز الذكوري) بالإنجاب. و بالتالي يكون معيار التمييز بين الرجل و المرأة (بين الانسان و الانسان) قائما على ما هو فيزيولوجي.
إن الحروب العلمية هاته لا تزال تحاصر الانسان حتي "يقتنع" بهذه التفيئة، و يجعل منها بنية فكرية وعقلية ينتج بها دافعيته، ويتمثل من خلالها الصور التي تلهمه، و المشاعر التي تحركه، و النماذج التي يتبعها، فتتشكل لديه ردود أفعال يسهل التنبؤ بها انطلاقا من/و اعتمادا على الدرجة التي رسمها لنفسه، و الدرجة التي رسمها للإنسان الآخر. إن اختيارات الإنسان موسومة بهذا التقسيم، فقبل أن يتحقق التدرج بين ما هو أعلى و ما هو أدنى كموضوع ملموس تحدده مجموعة من الاكراهات، فهو معقول في الادراك و مستدخل في الجسد(incorporer) .
و للتدليل على ذلك نسوق ممارسة تبدو في ظاهرها أمرا مألوفا و اعتياديا لكنها في واقع الأمر تحمل دلالة عميقة على هذا التمييز.
لقد اخترع الإنسان القطار بهدف التنقل من منطقة جغرافية الى أخرى بعيدة، و لكن السفر هذا لم يسلم من محاولة تفيئة الإنسان لنفسه. فاختيار نوع المقطورة في القطار يبدو أمرا عاديا، لكنه من بين الدلائل على الاقتناع و السلوك انطلاقا من الدرجة التي يضع الانسان فيها نفسه. فاقتناء التذكرة لا يعني إرادة الانتقال من مكان الى آخر، و إنما يحمل معان تكرس تفاوتا في الدرجة كامنا في تذكرة السفر. فعندما يحجز إنسان تذكرة من الدرجة الأولى "الانسان الاعلى" فهو يحمل ثقافة يعيشها في منزله لتستمر في القطار، بمعنى انه يبتاع نموذجا للحياة يتسم بالرفاه كالتكييف و نظافة الفضاء الى غيره من الطقوس و المسميات التي يعيشها في يومياته. و في المقابل يبتاع "الانسان الادنى" تذكرة من الدرجة الثانية ليستمر ذلك النموذج الحياتي المتسم بالدونية، فالتكييف معطل في غالب الاحيان، و أماكن النظافة غير نظيفة، و الفضاء العام غير مؤكد.
إن التمييز واقع معيش، بوعي من الانسان أو بغير وعي منه، يمارسه و يمارس عليه، فالتمييز ومحاولة الهيمنة، جبر و اكراه مزدوج. فالمنافسة على المواقع و الخيرات تؤدي الى الصراع المادي و الفكري، وبالتالي يستعمل العلم للتبرير في كثير من الاحيان ، وهذا بلا شك يدفع به الى التلبس بالأيديولوجيا.