الشعرُ هو جنون اللغة. إنَّه عملٌ استثنائي على قارعة الحياة. قد لا يعبأ به أحدٌ وسط الزحام. بينما هو يراقب كلَّ الأشياء عن كثبٍ. وحين يتكلّم ينكشف صمتُ العالم. فالصمت بمثابة المادة الأولى لما يقول. دوماً الشعرُ خارج التَّوقُع لأنَّه يفيض بما يستحيل قوله. وقديماً تفاخر شاعر العرب: إنّي وكلُّ شاعرٍ من البشر… شيطانُه أُنثى وشيطاني ذكرٌ. كدلالةٍ على فحولة الشاعر ونسبِهِ الخيالي العريق. لكنه أيضاً تنويه بقوى اللغة ورغباتها. قيل الكلام البليغ: ما كان لفظهُ فحلاً، ومعناهُ بكراً. أي يجمعُ بين جينات الذكورة والأنوثة معاً. حيث الرغبات حروف هجينة تصوغ دفق الخيال والمشاعر ورؤى الوجود.
-1-
في كلمات الشعر تتفتح الكائنات، تحيا، تتلاشى. وتنتصب المعاني بأعلى الذُرى فوق السحاب أو بالأعماق مع نبض المصير. لكن المسألة البارزة: بأية طريقةٍ يحس الشعر نبضاً كهذا؟….فقط حيث تعتبر لغته خالقةً لسواها. هذا الطابع البدئي لكلِّ عملٍّ أصيل. الشاعر ليس بينه وبين العالم إلاَّ ذاته القصوى. حيث يأخذه التيه في تكوينها كآلهةٍ مشغولةٍ بأقدار المجهول ومساراته.
هل يطلعنا الشاعر محمد سعيد أبو الخير[1] على تلك الفكرة؟ كيف يستعير “كتاب الأماني”؟ (أبو الخير، استعير من عينيها كتاب الأماني، سلسلة الابداع العربي، دار النابغة للنشر والتوزيع، طنطا- مصر، الطبعة الأولى 2016). وما هو كتاب الأماني ابتداءً؟ أهو الحب، القصيد، تجاوز الحدود النائية؟! بأية سطور جاءت عباراته ورسومه؟ وبخاصةً أنَّ الاستعارة واحدةٌ. إذ يتداعى طلبُ شيءٍ نادر كاللآلئ العجيبة أو صوّر بلاغية لا تنضب. “ملتصقاً أنا بالمستحيل
يا مدينتي الحزينة…” (الديوان نفسه،29)
يصوغ الشاعر جميع متون الحياة في حواشيه. إذ ذاك يفجر طاقة الكلمات التي ترسم الأحاسيس داخل لوحاته الفنية. وبذات الوقت يتجاوز فراغ الأشياء بلوغاً إلى رابطها المشترك. فالانا عدسة مجمعة لأشعة التجليات والأوهام النفسية. وريثما يمسك بها الشاعر لن يجد غير اللغة، هذا السراب المترهل تحت قيظ الآخر. لا مفر للأنا من آخر داخله. ماء الشعر يبلّل الوجوه كالرسوم المائية. ويتسرب تحت الطباق المنتشرة لتربة الأفعال اليومية. المدينة الواردة بالمقطع هي الحزن، لم تخرج من دوائر الأنا بعدُ. “مدينة بلا قلب” كما يشير عبد المعطي حجازي.
قصائد سعيد أبو الخير تزرع النباتات المتسلقة والغنَّاء. ليس لها صنفٌ خاص بل القصيدة فسيفساء وشذرات من الأحداث والأخيلة. وفوق ذلك تتفرع في سيولة وتدفق فوق الجدران القديمة وعبر الممرات والذكريات الغارقة في الماضي. لأنَّها تنهض من رقدتها بمجرد تركها للريح. في كل الاتجاهات والتواريخ هي تغوص. وتعرف أسفار النفس وهوامشها قدر ما تموج كأمواج البحار. وشوشتُّها تنزف همساً منحوتاً كرسالة هيروغليفية من عصر قديم. وفوق ذلك تنضفر بمفردات حية قادرة على الحوار والحكي. ليس هناك نغمة مفردة تستوطن العبارات. لكننا نسمع كورالاً من المشاعر تتلاطم في دفقاته حيواتٌ مختلفة.
لأول وهلةٍ يبدو أثر الاستعارة خلف الكلمات معجوناً بأطياف اللغة. لأنَّ المعنى ظلال تترسب بعدما يُصاغ الكلام وقبله. فالاستعارة بلاغياً تزحزح صوراً لرسم دلالات أخرى أكثر انفتاحاً. ومن ثمَّ يصبح الفعل” استعير” انكشافاً متواصلاً للقصد البعيد. ولا ننسى التقارب اللغوي بين” القصد” و”القصيد” و”القصيدة”. وهو يعبر عن زخم الشعر كحياةٍ ناقلاً القارئ من مضمونها المباشر إلى ميلاد اللغة الجمُوح.
“أمتطي جواد الخيال
وأمتشق سيف الاستعارة
وأخوض جغرافية عينيك…” (الديوان نفسه،70).
الشاعر إذ يستعير شيئاً -يبدو مادياً- يفتح النوافذ نحو الانطلاق. قال أحد الصوفية ذات مرة: ” رب أدعوك أن تحررني… فاستجاب الإله إلى دعوته: سَلَبَ عقله”. لم يحرره فقط من وجوده. بل من عالم الإله ذاته!! من كل أسر ما دون نفسه. الحرية تكسر القيود ولو كانت عقلاً. فالأخير يأتي في معجم العربية من العِقال الذي يقيَّد به البعير خوفاً من الشرود. ونزع العقال وظيفة الشعر كدلالةٍ على التأله المختبئ داخل صياغته. ليس شاعراً إلاَّ من يهجس بروحٍ عليا في قاعه النفسي.
-2-
ماذا تكون الكلمات سوى الرغبة الشاردة الآن… وبعد الآن؟ القصائد تروّض قوى المعاني كترويض الوحوش في الغابات، كترويض الأساطير في كهوف النفس. ذلك كي تخرج دالة في سياق النظم. باختصار هي تنحت عالمها الخاص…عالم الشعر والحياة والتاريخ. هذا لعدة اعتبارات ضمن عنوان الديوان:
- “أستعير” … دال حطم الحدود بين التناول المادي والاستعارة بمفهومها البلاغي. وجعل اللغة على أهبة الاستعداد لسلب العقل من صوره القاتمة. واللغة محط الاختلاف المرتبط بالتنوع والترحال. في العهد القديم: أنَّ الربَّ حينما غضب على شعبه ” بلبل ألسنتهم”. والبلبلة هي انسحاب الوضوح من معاني الخطاب. لكنها دعوه للتفكير الحر خارج المسلمات. ذهب شعب الرب إلى كل مكان ناءٍ، نشأت الحياة وتفرقت على مساحة العالم.
- “استعير”… أيضاً كدال لا يعني أخذاً إنما باعتبار العيون فضاءات لا متناهية للرغبة. وليس هناك مثل الشعر يفتح الأزمنة، الآمال، يقذف البدائل خلف بعضها البعض.
“سأنظر في عينيك كثيراً كثيراً
حتى أنسى لونهما”……
“أفكر في عينيك بعمق عينيك
إذاً: أنا مجنون”….
” نظرت في عينيك ألف مرة ومرة
فغرقت، وغرقت كل قراراتي….”(الديوان نفسه، 44-45).
- “استعير” … فعلٌّ يمارس” عطاءً، تنويعاً. فالأماني لا حدود لها. وهي تتجسد بحالٍ سرعان ما تتركه لتأخذ غيره. الأمر يسمح بتدرج التعبيرات وانتقالها مع حركة اللغة إزاء مواقف الحياة.
” أنت الوجود
والرغبة الجامحة
أنت الوطن الواحد
والرحلة الناجحة
إلى جنتي وتنعيمي……” (الديوان نفسه، 59)
- “أستعير”… تشكيل فني للوجوه المتخيلة. فإذا كانت العيون هكذا ملهمة فكيف بالوجه. الوجوه مصائر كما هي الروح منطبعة بمعالم غائرة. والشعراء يجيدون قراءة الوجه كصفحات مطوية من كتاب الشعر.
فالعالم وجه. الرؤية وجه. الحزن وجه. التاريخ وجه. الأمل وجه. لنلحظ في قصائد سعيد أبو الخير رسماً لملامح الوجوه: الرجال، النساء، الأطفال، الأمكنة، الأزمنة. وجه الوطن، وجه الحقيقة، وجه العالم، وجه الموت، وجه الأصدقاء، وجه الحزن. الإنسان في النهاية هو الكائن ذو الوجه anthropos كما يقول أفلاطون. يميزه عن سائر الأشياء الأخرى مانحاً الفائض الرمزي لوجوده.
حيث: ” تعجز كل الكلمات على نقل الصورة
تعجز “كاميرات” الشعر
يتلعثم كل ملوك النحو….” (الديوان نفسه، 52).
- “أستعير” يوازي أكتب وأقرأ وأرسم. لأنَّ ايراد الكتاب يعوزه عمل من هذا القبيل. لعلَّ الشعر- ذلك الساري ضمناً- يؤكد المعنى ويرسم الملامح. سعيد أبو الخير يكتب- يقرأ بكيانه كمجمل التجارب الشعرية الأصيلة. فالشاعر بخلاف أيِّ إنسان سواه تكتبه القصيدة، تعجنه، تطرحه في اتون الحياة. لأنَّه كتلة حية من ذواته العميقة. هو يختصر كافة اللاوعي، كافة الأكوان، كافة الأسماء، كافة العوالم في أحاسيسه.
” وقفت عيني تفتش عن معنى في أقصى حدود قاموس الوصف”(الديوان نفسه، 52).
القراءة نحت فني للوجوه، تتحسس تفاصيلها. وهي الجانب المفهوم ضمناً في الكتابة. لدى الشاعر القراءة هي الكتابة. والرسم هذا الاستنطاق للمعاني داخل الأشكال، بلغة اللاهوت نفخ الروح في جسد العبارات.
“إلى أخر كلمة شوق من صفحة وجهك
فأعيد قراءة وجهك مرة أخرى
أسجل في هوامشي بعضاً من عباراته القديمة
أعيد فهرسته من جديد
من ألف الترنيم إلى ياء العبرات…..” (الديوان نفسه، 38).
وبالتالي ليست الأشعار نُسخاً لغوية من وجوه حية نصادفها في الحياة. بالأحرى الوجوه كائنات شعرية على الأصالة. تعيش فوق الأوراق، تعبث بين السطور وتنام طي الصفحات. تتغذى بالعواطف، تتألم، تتذكر داخل كتاب الشعر. يعبر كلام جبران في قصيدته” المواكب” على أنغام فيروز الهامسة.
… “أعطني الناي وغنِّ.. وانسَ داء ودواء
إنما الناس سطورٌ.. كتبت لكن بماء”….
إنَّ ماء الشعر هو ماء الحياة في الأساطير والأحلام. وهذا يفسر علاقة الشعر بالأسطورة وأسئلة الوجود الأولى. حتى أن فيكو في كتابه ” مبادئ العلم الجديد” لا يفرق بين الثلاثة. يعتبرهم شيئاً واحداً في الخيال البدائي. الشاعر يصوغ أسطورة الجماعة على نحو سردي. وربما أنه لم يذكر سبب هذا الارتباط. فهناك اللغة التي تشترك بين هذه العناصر. إنها كما في الفكر اليوناني اللوغوسLogos. الكلام الذي يجمع عناصر العالم في حالة حضور. برأي هيراقليطس هو القانون الكلي للكون، الأشياء، الانسان، الطبيعة. باختصار اللوغوس خطاب هذا القانون.
- “استعير”… يُرهص بمجمل الأزمنة والأفعال. نظراً لاستمراريته على غرار الأحوال العرفانية.
“حين تسبح ذاتي في ذاتكِ
…………..
أتعلم منها كيف يصير القلب مروجاً
في كل فصول الأزمان
أتعلم منك كيف يكون الصمت حديثاً
والعين المعصوبة تستبصر عاشقها
أكثر مما كان…”(الديوان نفسه، 19)
- “استعير” …مرآة لما يأتي خاطفاً. لهذا “القادم” الذي افتتح به الديوان جميع الأزمنة.
“لا يا سيدي…
تمهل قبل أن تقطع يدي
أنا ما سرقت شيئاً ممن غدي
لكنه هو دائماً
يأتي إلينا في المنام
وهل أسأل عن كمون رغبتي….”(الديوان نفسه، 7)
- أستعير” … عودة ثانية وثالثة…. دون توقف. فهي تحمل ذاكرة. لأن الاستعارة تأتي بدافع العودة الطافحة بالمزيد.
” ربما يكون لفجر عينيك علامات
إحداها…أنك أيقونة الوقت الأصيل
وكل المنى منك وإليك” (الديوان نفسه، 64).
- “استعير”… دال ينطوي على مفارقة. لأن الاستعارة ستصبح هي العيون. فإذا كان الشاعر يستعير(من عينيها) فالكتاب حالما ينقش القصائد سيوفر رؤى نافذة للمشاعر والعواطف. كأنه يعرض عيوناً جديدة بملء العالم والحياة لالتقاط المعاني غير المطروقة.
وتلك حيلة الشعراء: تفتنهم العيون ثم سرعان ما يفتنون القراء طوال الوقت. لأنَّ العيون لا تشاهد، لا تكون حيادية. بل هي الناظر والمنظور، الرائي والمرئي، هي العاشق والمعشوق. هي المرايا المتقابلة، فالقصائد بمثابة مرايا اللغة بطبيعة الحال. والاَّ فكيف يستعير الديوان كتاباً اسمه الأماني ثم يحدثا عنها؟
-3-
هكذا فإنَّ ارتباط عنوان الديوان بالقصيدة القلب الحاملة لكلماته(استعير من عينيها كتاب الأماني) يومئ إلى التحولات الأخرى. لأنه لم يصبح لافتة عامة دون سواها. العنوان دروب مشرعة تفترق إمام التعبيرات. لعلّه من تلك العتبة كلام حول الشعر في الشعر. إذ ذاك تختلط به صور الحقيقة والمرأة والانا والسياسة والزمن والذاكرة والجغرافيا والأحداث السياسية والماضي.
الكلمات تتطلع إلى التوحد بالـ(هو -هي) الغائبان عادةً. وإذا كان المتكلم يستعير فأين المستعار منه؟ أي كيان له؟ ما تجسيده المفترض شكلياً؟ هذا الخط مفقود من جهة الماهية. والفقد يقف بإصرار هناك داخل تفاصيل المعاني كلما استطاع القارئ الغوص وراءها.
الاشارة الخفية أن الأماني ليست موضوعاً بعينه. فالـ “هي” بوصفها ضميراً مفتوحاً على كل الوجوه، ضمن جميع العيون يبقى الكتاب مفتوحاً. لأن ربط العنوان بقلب الديوان يسرب احساساً بخروج شجرة وارفة من منتصفه. لو نتخيل: تلك الأوراق، الساق العملاق، الجذور، الأغصان المتدلية وسط الصفحات( الديوان نفسه، ص ص32-35). كما أن الضميرين الغائبين(هو- هي) مكتوبات بكتاب الشعر. فالأماني تلخص تلك الأحبار السرية لتكوين العلاقة حلماً ورغبة.
” فاتنتي…
وجهت وجهي شطر قلبك
فأنا احتاج إليك” (الديوان نفسه ص32)
الفتنة تستحضر الغائب وتقصيه في نفس الوقت. عليك ألاَّ تتوقع هذا الشكل أو ذاك. فالافتتان ليس ظاهرياً ولن يكونً. لأن أي نمط اعتيادي من الوجوه لن يسقط تحت الفتنة. واستعمال مدلولها(فاتنتي) لا عينها لهو دليل على نقطة اللاتحديد. بسبب كون المتكلم لا يدرك هو نفسه ما هي. فالأمر ملتبس إلى حد المستحيل. هذا الذي رآه الشاعر لصيقاً بأناه.
وليس أكثر استحالة من اللغة. فالرغبة هناك تكاد تنزوي، تتمنع إلى درجة الافلات. كمن يركض خلف أشباح عبر فلاةٍ. وهذا الكتاب الفاتن الذي هو كتاب الشعر لن يغلق. لقد بدأ كما تبدأ الاكوان. تتورق الحروف وتتكاثر كغابات ملتفة. فالأماني المشتهاة… أهي أحلام الحياة أم شيء سواها؟ لا يخفى الاستبدال الضمني لسائر المعاني على هذا الصعيد. من تلك الجهة الكتاب آمال ضاربة في المجهول. لتُسطِّر بين دفتيه خلسات الآخر.
والفتنة انكشاف، تجلٍّ لرغبة ما. فداخل النفس تشكل الفتنة امتزاجاً بالمحبوب. نحن روحان حللنا بدنا إذا ابصرته أبصرتني وإذا أبصرتني أبصرته كقول الحلاج. هذا التماهي الخيالي الذي لا يكف عن الالحاح. وبناء عليه لا تحتاج الفتنة إلى تبرير كعادة كل العلاقات. إنها كافية لتبرير وجودها. هي ذاتها المبرر والفعل والآثار في عمل واحد. وليس غريباً أنْ تتطلع كل فتنة إلى حقيقتها رأساً. لا ترضي بديلاً عنها. فالحب امتلاء. امتلاء داخل المحب بكل كيانه.
” لأني أحبك
أطلقت طيور الرغبة من قلبي الموصد في واحة صدرك
وبذرت حنيني في دربك
قاسمتك شيئاً من حلمك” ( الديوان نفسه، 32).
الحب لا يُبرَّر. لو تم تبريره لفقد حياته. كما سنظهر تباعاً. من هنا كان تلقائيا أن تنطلق طيوره نحو الواحة. وكأنها كانت حبيسة الصدر إلى الصدر. فالواحة هي جنة الرغبات. والمعنى أن الأحلام دوما هناك حيث البذر والنمو. وتلك القسمة الضرورية تندس في تربة واحدة. ولعلنا نلاحظ أن البذر جاء بالحنين. وهذا يعني أن ما كان مغروساً في صدر الأنا(القلب الموصد) قد اثمر وترك بذوراً عطشى للتخلق. والبذر يحمل جميع الاحتمالات الممكنة. لأنه عالم وافر بالقوة كما يعتقد أرسطو.
دائما الرغبة مقسومة على اثنين. لا تطير إلاَّ إلى محلها الآخر. فهي رغباتنا لكونها رغبات الآخرين. وما لم تكن كذلك لن تغدو مطلوبة. ولن تكون موضعاً نقابل فيه أنفسنا. من هنا لا تتوقف عن التوقد إطلاقاً. والرغبة تلتهم الأنا بتجسيدها كموضوع أحياناً. رغم أنها كتلة من جسم الأوهام اللذيذة.
” و “تنرجس” اسمي في ثغرك
ولأني أبصرتك من نافذة تمرد نفسي
خرجت من طيات القصص كفارس…” (الديوان نفسه، 32)
يتناص المقطع مع اسطورة نارسيس اليونانية. وهي أصل فكرة النرجسية(الأناً – الزهرة) حيث غرق الأنا توحداً بصورته. والمقطع: تنرجس اسمي يعزف على هذا الوتر الوهمي. فالثغر يستدعي معاني المرآة، ماء الروح. الثغر هو نقطة الالتقاء الحميم، رغبة التماهي مع المحبوب. ولهذا ولد الاسم من هذا القانون الرمزي. الاسم هو الجثة التي تركها نارسيس الشاعر. أخطر الظواهر أنْ تطفو الأسماء رغم كثافتها المحجوبة(كمون رغبتي كما يعبر الشاعر).
ألم يقل مارتن هيدجر: الشاعر هو من يسمي الأشياء. كما لو لم تسمَّ من قبل. التسمية ليست عملاً اعتيادياً، لكنها ميلاد كوني لا يأتيه الموت بغتة. فاللغة أسطورة الشعراء القصوى. حيث لا يحق لأي مجهول أن يقارب نهايته. لأنَّ المناداة عمل شعري بالأصالة عن أية حقيقة. من هنا كان الاسم خطراً. لأنه يعكس الرغبة التي تحيل الأنا– الآخر إلى موضوعين. كما أنه يجسد اختلافاً من نوع ما حول المعاني.
في فيلم المحارب Gladiator – الذي تدور أحداثه خلال عصر الامبراطورية الرومانية- اشتهر المقاتل ماكسيموس(دور راسل كرو) بقدراته الخارقة في المصارعة. فحدث أن حاول القيصر ماركوس أوريليوس( دور ريتشارد هاريس) تعيينه قائداً للجيوش وتسليم سلطاته إليه. غير أن ابن الملك كومودوس(دور هوكين فينيكس) قتل أباه قبل أن يأخذ تلك الخطوة. فترك ماكسيموس روما إلى أماكن خارجها تابعة للإمبراطورية بعدما حاول الابن الفتك به. لكن بسبب مهاراته القتالية عاد ماكسيموس إليها لمواجهة المصارعين الأشداء. ليجدد الابن رغبته في التخلص منه بواسطة حلبة المصارعة هذه المرة. فوُضع ماكسيموس في قفص ضخم تمهيداً لمنازلة المقاتلين. وأثناء أحد الحوارات أبدى تخوفه من مؤامرة عليه فقال له محاوره: أنت لك اسم قاتل… اقتله قبل أنْ يقتلك!!
يتنرجس الاسم.. فيَقتُل ويُقتَّل. لأنَّ الرغبة أصبحت – بتعبير الشاعر- اسماً بعدما كانت طيراً في واحة. دخلت معابد الثقافة خاضعة لنظامها الرمزي. باعتراف (الشاعر والثقافة) جنباً إلى جنب كان على( الرغبة) أن تعترف بما فيها. إنها” تمرد النفس”. ولم يبق الأخير كذلك بل كان بمثابة نوافذ عالية يطل الشاعر منها. هنا صراع الأسماء قادم لا محالة.
كل رغبة طالما تشكلت(تنرجست) تصبح نهباً لغيرها. أن تكشفها ، تترصدها، أو تعكسها، أو تردد أصداءها. إنها سياسات الرغبة. هذا الوقع الجاري في تكوينها. لذلك ليس تناقضاً انتقال الرغبة إلى تسييس دروبها من باب الحب. فهذا الاسم على الثغر يصبح شبحاً خارج مجاله. لكنه يرصد جوانب الثقافة. لأن الرغبة واحدة ذات رؤوس متعددة. إنها تتصوب تجاه مناحٍ متباينة سياسياً واجتماعياً.
العاشق فارس خرج لتوه من بطون القصص. وهناك التاريخ يحتضن الرغبة. ويأتي الشاعر ليعرفهما إلى بعضهما البعض في سياق جديد. فرغم تباين الأشكال إلا أن الرغبة سارية داخلها. على مسرح القصيدة ترتدي أقنعتها التالية. وليس بعيدا كونها تستعيد ذاكرة السرد. فالقصص تُسْكِّن أبطالها في تفاصيل الرموز. حتي تنتج المعاني من تتابع الصور والربط المفترض الذي يضعه القارئ خلف العبارات. سواء أكان المقصود حدثاً معيناً أو مكاناً أو شخصاً مهماً في التاريخ.
هكذا توجد بذات القصيدة رحلة العاشق إلى المعشوقة (السفر إلى القصر…دون جواز السفر.. ودون تصريح العشق…وبلا قائمة الفهارس) (الديوان نفسه،32-33). طبيعة الرحلة أنَّها لم تكن في الزمن الحي الآن. لكنها تمرر الذاكرة بعصور وأبطال وحكايات قديمة هي امتدادنا نحن. هكذا( مسافات الغربة… السيف والحارس.. الأسوار.. الدسائس.. القلب الهاجس) ( الديوان نفسه، 33).
-4-
إنَّ دال الرغبة يخوض ترحالاً شاقاً لمعانقة المعنى عبر جميع الأشياء. حيث تصبح المعشوقة باكورة الأشعار. وتطوف المعاني بإيقاع السياسة وراء الأبواب المغلقة وتحت الحراسة المُحكمة. فالإلهام دوماً هناك متوارٍ خلف الجدران. بينما السيوف مسنونة في خصر السلطة القامعة لكل تحرر وانكشاف. أليس ذلك كافياً لسريان الرغبة أكثر وأكثر رغم المحاذير والدسائس؟!
بالطبع لا… لأن الشاعر يحمل قلباً هاجساً. وهذا الحذر ربما لا يغني عن قدر. بيد أنَّ القدر الأهم هو التجربة الأولى في شطح الجنون. يرجع إلى صوت داخلي أكثر التحاماً بكيانه. وهو في هذه الحظة يجعل من ذاته لغة ناطقة. وبحكم اللغة فإنها ستنفتح على اللغة الأخرى التي يقتنص حركتها. هذا الإحساس الذي يغيم بين العشق والخوف والتجريب والخلق.
” إنك لم تطرق من قبل
أبواباً مجهولة
ولم تمارس
قلت: سأعبر كل تخوم الحزن
كل حدود الرعب
والصوت البائس…”(الديوان نفسه، 33)
ربما يذهب الواقع وتبقى لغة الشعر أصداء وراء أصداء. لأنَّ عيون العشق كانت مصدر “الكتاب”. فلن تنطفئ، تظل بكامل اتساعها حتى مع الغياب. ربما تصمت كلُّ الألسن، تُصمُّ الآذان إلا حواس الشاعر. متيقظة كأحداق الجان، مسنونة كحد السكين. فالرؤى حروف موشومة بالمزيد من المغامرة. فمن الأم وإليها، من المعشوقة وإليها، من القصيدة وإليها، من الجنون وإليه…أين المفر؟ كما أشار عنوان الديوان حتى ستارته الخلفية. لتتحول أخيلته مادة(هيولى) تشكل باكورة الرغبات. فاللغة هي الأم، هي الحياة… تبيت بين أجفانها الأماني. وعلى دروبها تسير الأحلام.
ورغم حبكة العبارات كحوار بين القلب والانا والآخر والفضاء اللغوي سوى أن هناك اسقاطاً على جوهر الشعر ذاته. صياغته وجدواه وتجربته وآثار الحب التي يرسبها. ذلك كأنه قول داخل سياق القصيدة ليس أقل. فالرواسب أصداء تتسلل إلى القارئ ببأهمية أصواتها. لكنها تخرج عن حضور الشاعر لتوقظ عيوناً أخرى. حيث يمكن معرفة حدود لغة الشعر وامكانيتها.
لكل شعر حقيقي رغبات عاشقة تصهر غلظة الأشياء. من سرق النار في التاريخ غير بروميثيوس في الأسطورة اليونانية؟؟ أودعها أول ما أودعها قريحة الشعراء. انثالت بين أناملهم لهيباً في تفاصيل اللغة. بقايا، نثاراً، أزهاراً وجوهاً، شظايا، شطحات مجنونة… جميعها تخلق، تميت، تترك ثقوباً بسقف العقل. الشيء الوحيد الذي نحسه صهيل العبارات حين تخترق آفاقاً. وتلك الأخيرة وارفة الظلال إلى حد الاندلاق. لا ايقاع في الشعر بلا فيض. هناك المعاني أكبر من خرائطها، أعمق من جذورها، أبعد من أطيافها. لأن مملكته هي اللغة حيث تصغر دونها أية ممالك. ولكن هل هي كذلك؟ ماذا يعني التملك؟
“فالشاعر إذا عشق امتلك
قالت من خلف الأسوار:
هل غير الكلمة تملك؟ …”(الديوان نفسه، 34).
عشق الشاعر هو حدود سلطته. لغته تغطيها بإمكانيات عباراته. تهيمن عليها كالغزاة القدامى. من هنا يضع يده على أحد اسرار اللغة. أي تلك القوة الخالقة داخلها منذ بدء التأليه. “في البدء كان الكلمة”… هكذا ورد في العهد الجديد. لم تكن الكلمة سوى أخص قوى الإله. كل شيء يمر عبرها إلى العالم.
الشعر يمتلك تلك الكلمة بأسراره الخاصة. وصحيح جاء المعنى تقليلاً من هكذا تملك. لكنه كان مصدراً لثروة رمزية طائلة. وقد استعاضها النص بتكملة رمزية أيضاً. ليمحو المعنى الأول بقاياه في المستقبل القريب. ذلك عندما يستعير الشاعر من عينيها كتاب الأماني. والأماني تساوي الوجود كله. لا شيء يخرج عنها.
هنا يبرز النص مساحة مجهولة للكلمة. وهي قوة الصولجان. فلم يكن للسياسة مرتع سوى الكلمات. فالحاكم هو من يتكلم، من يحفر أنفاقاً في أبنية الكلام. يؤكد الشاعر-كما نوهنا – أنه سيمتطي جواد الخيال بطريقة المحاربين. الخيال المتوحش حيث يعكس فكرة الحرب في أي مكان يغزوه. ليبحث عن المحال. بينما السيف هو الاستعارة البتارة. تلك التي تقدر على قلب المشهد.
ولئن كان الشاعر لا يمتلك سوى كلمات فإن ما دونه من محاربين مجرد زيف. الإمارة للشعراء بلا منازع. والشعر هنا هو سيف القبيلة القديم في الثقافة العربية. ذلك بحكم أن اللغة فضاء للصراع الأزلي.
” فينزف بين قوائم الحصان
دماء الملوك المستعارة
وأحلم أنا بالإمارة…”( الديوان نفسه، 35).
الحقيقة أن الأحلام تختلط نظراً لاختلاط الرغبات الساكنة. فالإمارة تستنهض حلماً عربياً غائباً. قمر التألق بين الأمم بعدما انزوي في حقب التخلف والجهل. وبذات الزحم يعارك الشاعر سلطة الرأسمال. معتبراً أنها طغت على سلطة الكلمة كما يمسك زمامها. فالصوت الآتي يردد بالأن نفسه كون هذا العصر هو زمن المادة. لا وقت للشعر. فصدح الكلمات لا يطرب مثلما يطرب صدح الذهب والجواهر( الديوان نفسه، 35).
وانزال الستار في نهاية القصيدة لا يتم بشكل تقليدي. لكنه يتكلم بذات اللغة الهائمة. وهذا يعني أنها انفتاح مطلق هذه المرة بلا حدود.
“فإذا الشاعر أحب
مات القلب مغموراً بالنور
يشهد أن الحب غفور
نشهد أن الحب غفور”(الديوان نفسه، 35)
الشعر يعود إلى براءته الأولى. لم يعد ليتسلط، ولا يضاجع السلطة. يصبح مطهواً في نقائه الإنساني. الحب هو الذي يشكل الكلمات عند منتهاها. لا تمتلك موضوعاً كما نمتلك أموالاً. لكنها أشبه بالأثير الذي يصفي ما يقابله. جنون خالص بالمعنى الطفولي. لم يتلوث بعد بمحاربة المجهول. ومع ذلك فإنَّ الحب صراع لكن في مستوياته الشفافة. لأنه يبقي على الجدل والتغير.
إذاً… كيف يموت القلب؟ يموت بمعنى التوحد والانكشاف تحت النور. هذا المسح الصوفي الخفي لنفايات الرغبة واختلاطها بالغرائز. الشعر صيغ بلا أنياب كما يعبر الكلام. ويعلن الشاعر أيضاً قذف اللغة إلى الأعلى. إلى رحابة أفقها الكلي. إنَّها تغفر وتتأله بفضل تراتيل الحب التي تحملها.
هنا يبدو النص الشعري سابحاً دون سقفٍ. إنه يفتح الحياة على ثرائها اللانهائي. إضافة إلى ذلك يتردد بأصوات الجمع. في أخر شطر(نشهد…) شهادة بلا اعتقاد. شهادة بلا يقين ثابت، شهادة لوجه اللغة في ذاتها. أليس الشعر، الحب، غفوراً رحيماً؟!