1ـ بربريّة أوروبيّة(*)
قد لا يصح تعريف الإنسان ككائن عاقل وفقط Homo sapiens، أو حتّى صانع Homo faber ، وإنّما هو أيضا كائن أحمق Homo demens.
ولعلّ هذا التّعريف الأخير إذا ما ربطناه بإنتاج الأساطير والتقنيات ومجتمع الاستهلاك المفرط، هو ما يميّز ما يسمّيه إدغار موران “أنثروبولوجيّة البربريّة الإنسانيّة”، فهناك إذن رابطة وثيقة بين العقلانيّة المفتقدة لأسسها التبريريّة وبين الهذيان والحمق والإنفاق والتّبذير والحقد والازدراء. “فعالم الأفكار والأذهان والآلهة وليدة الثّقافة الإنسانيّة”(صفحة 6)، إنّها صنيعة الإنسان ومن خلقه، إنّنا ” نشكّل آلهة تشكّلنا بدورها” (ص 6). فالإنتاج التقني مثلا يرتدّ ضدّ صانعه من خلال بربريته الخاصّة الّتي تتقوم كنمط حسابي خالص وبارد متجاهلا الوقائع والعواطف الّتي هي ميزة هذا الكائن البشريّ. أمّا إنسان الاستهلاك وإنسان الاقتصاد فهو يعلي من تلك السّلوكات المتمركزة حول الأنا المقصية للغير وللآخر، ممّا يجعلنا أمام عقلنة تتجاوز عقلانيتها.
إنطلاقا من هذا التّحديد الأوليّ يقيم “إدغار موران” مقارنة بين المجتمعات الأولى السّحيقة في القدم، وبين المجتمعات الكبرى الحديثة. فإذا كانت الأولى قد أنتجت ” تنوّعا هائلا في اللّغات والثّقافات والموسيقى والطّقوس الإلهيّة”، فإنّها على الأرجح كانت مجتمعات مكتفية بذاتها، لم تكن في حاجة لغز وأراضي مجتمعات أخرى، دون أن يعني هذا أنّها لم تعرف حروبا محلية واغتيالات. في حين نجد المجتمعات الكبرى الّتي عرفت ملايين الأفراد الّذين يشتغلون بالفلاحة ويبنون المدن والدول ويقيمون جيوشا ويطورون تقنيات، قد قامت في المقابل بغزوات وحروب تتقصّد من وراءها الحصول على مواد أوليّة واحتياطات للمئونة تحسبا لقسوة الطّبيعة وعدوانها، غير أنّها في سعيها المفرط “ستتجاوز الحاجات الحيويّة وستتمظهر في إبادات وعمليات تخريب ممنهجة وسلب واغتصاب واسترقاق. لقد اتّضحت معالم البربريّة واحتدّ طابعها في ارتباط مع الحضارة” (ص7).
لقد عرفت هذه المدن ـ الدّول على خلاف المجتمعات السّحيقة الّتي تعرف إندماج أفرادها في حياة الجماعة، نمو الانحراف والجريمة والمطالبة بالقضاء على العدو، ما دامت حياة الهامش متاحة في حدودها القصوى، فتاريخها إذن لا ينفصل عن تاريخ الحرب إنّها “بربريّة الحرب”. غير أنّ هذه المجتمعات من جهة أخرى عرفت “إزدهار الفنون والثّقافة وتطوّر المعرفة وظهور نخبة مثقّفة “.(ص8)
فالبربريّة -في تصوّر الكاتب- هي في المحصلة جزء لا يتجزأ من مكوّنات الحضارة، فقد لا توجد علامة أو فعل من أفعالها لا يعتبر في الوقت نفسه فعلا بربريا كما سبق أن وضّح ذلك “والتر بنيامين”.
لتوضيح هذه النّتيجة سيقدّم إدغار موران في تتمّة هذا الفصل الأوّل على إدراج أمثله كثيرة ووقائع تاريخيّة مهمّة: كالغزو الروماني في العصر القديم، نهب كورانتيا في اليونان، حصار نومانسيا في إسبانيا، القضاء التّام على قرطاج. أو حتّى ما حدّت في الأزمنة الحديثة مع الاتّحاد السوفياتي وألمانيا النازيّة. معرجا على ما سمّاه “بربريّة دينيّة” والّتي تجلّت في البربريّة المسيحيّة الّتي استعملت الشّيطان كسلاح يزرع الفتنة بين النّاس، أو في الشّيطان الّذي يسكن الخطاب الاسلامي في أكثر صوره احتدادا. دون إغفال صورة البربريّة التطهيريّة الّتي نهجت اللاّتسامح والتّطهير الإثني من خلال الحروب والإبادة كما هو الحال مع السّكان الأصليين في أستراليا والهنود الحمر في أمريكا ومن خلال أوجه الاستعمار الكولونياليّ في إفريقيا.
من هنا يطرح المؤلّف السّؤال التّالي: مالسبيل لمقاومة البربريّة أو كبتها؟ كيف يمكن الفكاك منها وهي مكوّن أساس للحضارة ليس من اليسر التّخلص منه؟ ماهو الترياق المناسب لهذا السمّ؟
2ـ الترياقات الأوروبيّة : الثّقافات الأوروبيّة كمضادّات واقية
لقد تأسّس التّحوّل الّذي عرفه العالم الغربي في القرن 16 مع بدايات عصر النّهضة الأوروبيّة على إعادة إحياء التراث اليونانيّ واللاتينيّ، وتطوّر” النّزعة الإنسيّة” والّتي عرفت كذلك فكرا عقلانيا في صلب اللاّهوت كمال هو الحال مع توما الاكويني، إضافة إلى تطوّر العلم القائم على أربعة مرتكزات: “النّزعة التجريبيّة، العقلانيّة النظريّة، التّحقّق والخيال”. (ص23)
ولفهم النّزعة الإنسيّة وماهيتها يقدّم موران منبعين:
الأوّل: مستمدّ من اليهوديّة والمسيحيّة، ففي التوراة ” نجد الله خلق الإنسان على صورته، و في الإنجيل نجد الله يتجسّد في كائن إنسانيّ”. (ص24)
الثّاني: هو التّفسير الّذي نجده عند الفيلسوف التشيكي “يان باتوكا” الّذي يعترّض على الموقف الأوّل معتبرا أنّ منبع النّزعة الإنسيّة هو “يوناني”, فالذّهن الإنساني وعقلانيته عرفا استقلاليتهما الذّاتيتين في الفكر اليوناني.
ينتج عن القولان حسب موران عدم تعارضهما، فالمنبع الأوّل حيث الإنسان صورة للإله وتجسيد له قد أدى إلى احترام الحياة الإنسانيّة، غير أنّه أدى إلى وقوع الإنسان في جنون العظمة من خلال النّزعة السّاذجة المتمركزة حول الإنسان. وهنا نجد انقلابا في المركز “من الله إلى الإنسان” الّذي سيصبح بدوره مركزا للكون.
كما أنّ لهذه النّزعة في تصوّر موران وجهان اثنان: أحدهما مسيطر والآخر أخوي. فمن خلال وجهه الأوّل يأخذ الإنسان مكان الله ويخصّه بمهمّة غزو العالم. وهو الأمر الّذي تبلور مع فلسفة ديكارت: ” أيّها الإنسان كن سيّداً ومالكا للطبيعة”، وهذا المبدأ القائم على ركيزة العلم هو ما سيتمّ استئنافه مع بوفون ثمّ مع كارل ماركس والّذي كان من نتائجه تدهور الحياة والمحيط الحيوي بحكم الطّابع الانتحاريّ لهذا النّمط التحكميّ.
أمّا وجهها الثّاني: وهو ما ينبغي التّوجه إليه فيتمثّل في: ” احترام جميع الكائنات الإنسانيّة كيفما كان جنسها، عرقها، وثقافتها وأمّتها”. (ص25)
غير أنّ الغرب الأوروبي وعلى خلاف هذا الوجه الثّاني، قد سقط في مركزيّة أوروبيّة تعتبر فيها الشّعوب الأخرى تعيش حالة من التّخلف والبدائيّة منحبسة داخل الفكر السّحري. والواقع أنّ ما تغافلته هذه المركزيّة هو حضور العقلانيّة في كلّ شكل من أشكال الحضارة ” ففي كلّ مجتمع يوجد وبشكل متزامن فكر عقلاني تقني وعملي وفكر سحري أسطوري ورمزي”.(ص25)
وإذا كانت هذه النّزعة المتمركزة حول الذّات/ الأوروبيّة قد ذهبت إلى حدّ اعتبار المخالف لها بربريا، فإنّ هذه الأطروحة قد لاقت نقدا من داخل المنتسيبين إليها من مفكّرين وفلاسفة وشعراء فقد كتب لابويسيي قائلا: ” أولئك الّذين ينعتون بالبرابرة هم كائنات تنتمي لحضارة تختلف فقط عن حضارتنا… كلّ فرد ينعت بالبربريّة ما لا يدخل في نطاق عاداته واستعمالاته”. وهو النّقد نفسه الّذي يحظر في كتابات مونتيني واسبينوزا ومونسكيو وفولتير وكلود ليفي ستراوس وغيرهم، الّذين جعلوا من النّزعة الإنسيّة الأوروبيّة بمكوّنها النّقديّ تعبّر عن فكرة الاختلاف بين الثّقافات كفرصة للاغتناء والمعرفة والعلاقة بين البشر.
هذا العقل الإنسي لعصر الأنوار سيجد تجليه الأمثل في الإعلان العالمي لحقوق الانسان والمواطن 1789.
إنّ العقلانيّة الأوروبيّة المتمرّسة بالنّقد الذاتيّ تحاول أن تتجنّب فخاخ العقلنة. فإضفاء الطّابع الأداتي على العقل يجعله في خدمة غايات لا عقلانيّة كليا بل وبربريّة مثل الحرب. إنّ سياق العقلنة ينسينا ما سمّاه “روسو” بالحساسيّة أي نسيان طبيعتنا الخاصّة فرغم حظور الطّبيعة في أفكار روسو إلّا أنّ عصر الأنوار قد أغفلها وهو ما سيتمّ تداركه مع الرومانسيّة الّتي جسّدت الرّوح الشاعرية للعالم. فمع “فيجو و لا مارتين” سيتحقّق التّزاوج بين الفكر الأنواريّ والعقل الرومانسيّ.
وسيرا على النّهج المثنوي الطّاغي في الكتاب يستنتج إدغار موران فكرتين أساسيتين:
الأولى: تخص الوجه المركب لأوروبا، فهي من جهة: ” مقر أهمّ سيطرة لا مثيل لها في العالم، _ ومن جهة أخرى _هي أيضا مقر الأفكار التحرريّة الّتي ستقوض هذه السّيطرة. هذه الأفكار التحرريّة حملها الّذين يستلهمون النّزعة الإنسيّة الأوروبيّة الحديثة: المثقّفون المناضلون وبشكل أوسع رجال ونساء ذوي إرادة حسنة ينتمون لمختلف الطّبقات الاجتماعيّة”. (ص32)
هؤلاء الّذين سيفرضون على الغرب العودة إلى مبادئ الحريّة وحقوق الشّعوب. لقد ” كانت هذه الأفكار خميرة التّحرر من الإستعمار. ففي أوروبا مقر السّيطرة والغزو _ يضيف موران_ تشكّل ” الترياق” أي المضاد الواقي، الّذي هو الأفكار التحرريّة”(ص32)
الثّانية: تتعلّق بالسّيرورة الّتي يصطلح عليها “العهد الكوني” الّتي بدأت مع غزو الأمريكيتين والطّواف البحري للملاّحين البرتغاليين والإسبان حول الكرة الأرضيّة، وهي السّيرورة الّتي بقدر ما كانت مرتبطة بالغزو والاستعباد بقدر ما كانت حاملة لبذور القضاء على الاستعمار والتّخلص من الاستعباد. إضافة إلى هذه العولمة الأولى الإسبانيّة كانت العولمة الثّانية الأمريكيّة الحاملة للأفكار التحرريّة الّتي انتهت بقيام حركة عالميّة لتحرير المستعمرات (تونس المغرب والجزائر).
وإذا كانت الأرض كسفينة فضائيّة تبحر على متنها الإنسانيّة -حسب تشبيه المؤلف- تسير اليوم بأربع محرّكات (العلوم، التقنيات، الاقتصاد والرّبح) فهي في اتّجاهها الغير مراقب قد تؤدّي إلى كوارث دون أن يتمكّن أحد من التّحكم فيها. فتعقيدات هذه العولمة المزدوجة تجعلنا نفكر في كيفيّة إنتاج ترياقات قائمة على الحوار والانسجام تنمي الحضارة دون الاقتصار على ما هو كمي، أي كمضادات واقية تضع الحدّ للسّباق نحو الهيمنة والسّيطرة.
وعليه، أفليس بإمكان النّزعة الإنسانيّة العالميّة الّتي خلقت في الماضي أن تعيد خلق النّزعة الإنسيّة من جديد؟ يتساءل موران.
3_ التّفكير في بربريّة القرن العشرين
يتناول هذا الفصل الأخير من الكتاب مسألة “التوليتاريات” في القرن العشرين كالنّظام الستالينيّ والهتلريّ، ويقوم المؤلّف بتشريح لهذه الأنظمة مبينا اختلافاتها الإديولوجيّة وصيرورتها التاريخيّة فهي تبقى بالنّسبة إليه إنتاجا كارثيا للبربريّة الأوروبيّة ” إنّها ثمرة سيرورة تاريخيّة ناتجة عن خطأ هائل تمثّل في الحرب العالميّة الأولى [والثّانية]”(ص40). تعمل التروليتاريّة ليس فقط من خلال المراقبة المتضخّمة للدّولة وإنّما عبر إقامة حزب يمتلك سلطة هائلة ويراقب الدّولة، فهذه الأخيرة تضحى مجرّد أداة في يد الحزب إنّها ” تنظيم شامل انطلاقا من حزب وحيد”(ص40). وإذا كانت الأنظمة الثيوقراطيّة تتأسّس على “فرعون_إله” عارف وقادر على كلّ شيء. فإنّ التوليتاريّة بالمثل ترتكز على قائد / قادة يفترض فيهم معرفة كلّ شيء وامتلاك حقيقة مطلقة الّتي على أساسها تقوم سلطة مطلقة. يبقى الوعي بالنّتائج المتحصّلة المأساويّة للقرن العشرين: (مخيمات الاعتقال والإبادة “أوشفيتز” ألمانيا النازيّة و”الغولاغ” السوفياتي و”هيروشيما” أمريكا) وما حصل من تصفية جماعيّة لليهود، استرقاق وترحيل واضطهاد كما هو الحال للسّود والغجر والأرمن، واستعمار الجزائر ومدغشقر… وما عرفه التّقدم المطّرد للعلم الّذي وضع في خدمة “مشروع تصفية تقنية_علميّة لجزء من الانسانيّة”(ص58). هذا الوعي – بما حصل – ينبغي أن يقود لا إلى النّدم فقط وإنّما إلى الاعتراف، إلى امتلاك القدرة على التّفكير في البربريّة الأوروبيّة لتجاوزها، من خلال إدماج البربريّة في الوعي الأوروبي من جهة وعلى التّركيز على أنّ أوروبا تنتج عبر الإنسيّة الكونيّة ترياق بربريتها الخاصّة. فهذا الوعي المزدوج هو شرط ضروري لتجاوز المخاطر الجديدة للبربريّة. فكما تحتاج ” الديموقراطيّة لبعث الحياة فيها بشكل دائم. فإنّ التّفكير في البربريّة هو المساهمة في إحياء الإنسيّة، وإحياء الإنسيّة يعني مقاومة البربريّة”