ينخرط
مشروع مجموعة من الفلاسفة والمفكّرين المعاصرين في سياق تأسيس رؤية جديدة،
تروم فهم العالم وتمثّل وجهه الجديد المركّب الدّينامي الذي يخفي وراءه
عقلا أعمى، يحرّك الأشياء بطريقة تقود نحو الحمق أو الهذيان، وهذا ما تلمع
إليه مجموعة من منجزاتهم الفلسفيّة المتميزة.
فبشجاعة
قلّ نظيرها تمكّن كلّ من ادغار موران، وجلبير الأشقر، وأمارتيا صن من ولوج
العلب السّوداء، وتعرية الأعطاب التّاريخيّة والوقوف عند الوجه الآخر لكلّ
من أوروبا وأمريكا، المتمثّل في البربريّة والهمجيّة، التي طبعت تاريخهما
منذ ولادتهما إلى الآن تجاه الآخر لإخضاعه لسلطتهما السياسيّة
-الاقتصاديّة- الدينيّة ولأجل استغلاله ونهب ثرواته، بربريّة وهمجيّة
عمياء، اتّخدت أبعادا أكثر خطورة في القرن العشرين، فنتج عنها التعصّب،
والتطرّف، والحمق، والهذيان.
•ادغار موران : البربريّة الأوروبيّة كفعل مضادّ للأنسنة. تعد
النّزعة الإنسيّة علامة فارقة في الفكر الغربي إبّان عصر النّهضة، حيث تمّ
إحياء الميراث الفلسفي اليوناني، وتلقّف المشعل الفكري العلمي الذي حمله
العرب المسلمين، فمع إرازم ولابواسيي وديكارت وسبينوزا تمّ ردّ الاعتبار
للإنسان كسيّد للطبيعة، وكذات مفكّرة تدين ديانة العقل وتطمح للتخلّص من
ربقة الكنيسة التي انخرطت في حركة مضادّة للأنسنة، كما ظهرت في أروبا
الحديثة مجموعة من الأفكار التحرّرية، التي حمل لواءها فلاسفة الأنوار
فولتير، وروسو، ومونتسكيو،(1) الذين ضخّوا العقلانيّة والعلمانيّة في
شرايين أوروبا ورسّخوا مجموعة من القيم الإنسانيّة كالحريّة، والمساواة،
والتّسامح، مدشّنين بذلك عهدا جديدا، يعدّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
عنوانه الأساسي، غير أنّ هذا الوجه المتنوّر لأوروبا حسب موران، يخفي وراءه
وجها آخر أكثر قتامة وسوداوية، لبشاعة الإبادات الجماعيّة وعمليّات
التّخريب الممنهجة والسّلب، والاغتصاب، والاسترقاق، التي مارستها مجموعة من
الإمبراطوريّات والأمم الأوروبية كالغزو الرّوماني(2) في العصر القديم،
الذي نهب، وحاصر، وقضى بشكل تامّ على حضارات أخرى، وغزو العالم الجديد من
طرف مجموعة من الأمم أهمّها اسبانيا، والذي كان دافعه الأساسي الطّمع
والجشع ونتجت عنه إبادة جماعيّة وتطهير عرقي للسكّان الأصليين (إبادة
وتصفية الهنود الحمر…).
والغزو الكولونيالي الذي لم يتوقّف
إلّا بعد مرور سنوات من انتهاء الحرب العالميّة الثّانية، مخلّفا دمارا
فادحا، بفضل التفوّق العسكري المعتمد على الأسلحة النّاريّة التي صنعها
الإنسان الأوروبي، وتفنّن في تطويرها قصد تطويع الآخر المختلف ثقافيا،
ودينيّا بشكل قسري قهري.
لقد جعلنا ادغار موران نعي بشكل كبير
مدى خطورة البربريّة الأوروبيّة، التي دمّرت الدّيانات ما قبل كولومبيّة،
وطردت المورسكيين، وأحرقت اليهود، وهذا ما يترجم مدى تمركز القوميّة
الأوروبيّة على الصفاء الاتني، والطّهر الدّيني ممّا يجعل من الحضارة
الأوروبيّة حضارة بربريّة مضادّة للأنسنة.
•جلبير الاشقر : الهمجيّة الأمريكيّة كشكل من أشكال الهيمنة. تحاول
الولايات المتّحدة الأمريكيّة منذ استيلائها على النّفوذ الكوني واندحار
أعدائها التّقليديين، أن تظهر "العالم-القرية" من بقايا "العصيان" وجيوب
التمرّد، والمكابرة وأن تقوم بدور "شرطيّ العالم" (3) الذي يهيمن ويتحكّم
في خصومه، ويتدخّل في شؤونهم، لإخضاعهم لسيطرته، التي لا تبالي بالمعاهدات
العالميّة وتهزأ بالقانون الدّولي وبرأي باقي العالم، والطّريقة التي ردّت
بها أمريكا -حسب جلبير الأشقر- على اعتداءات الحادي عشر من شتنبر تعدّ
مثالا ساطعا على نزعة انفراديّة تسلطيّة تميّز سياسة الولايات المتّحدة
الأمريكيّة أكثر من أي وقت مضى. (4)
فباسم مسمياّت عديدة، مثل
الحرب على الإرهاب، أو الحرب العادلة، أو الحرب المقدّسة، قتلت أمريكا
ملايين العراقيين، والآلف الأفغانيين، وفرضت عقوبات على دول أخرى، كما تمّ
إيقاف آلاف المهاجرين المسلمين، الذين وقعوا في شباك القمع الذهاني،
الهذياني الجماعي لأمريكا، بعد تلك الأحداث حيت ثم وضع المئات منهم رهن
التّوقيف التعسّفي، وغالبا في السرّ، وهو انتهاك لحقوق الإنسان، التي يعترف
بها دستور أمريكا وأقرّها الإعلان العالمي لعام 1948، (5) ولعلّه بإمكاننا
أن نفهم الآن كيف استثمرت الولايات المتحدة الأمريكية سيناريو الحادي عشر
من شتنبر، من واقعة غدر وإرهاب شبحي، إلى واقعة تشريعيّة وتاريخيّة نادرة،
فقد كانت بالفعل الفرصة التاريخيّة السّانحة لإظهار سلطانها الكوني، رغم
فشل أجهزتها الجاسوسيّة، والأمنية في إحباط تلك الضّربات.
إذ
أظهرت للعالم أنّها باتت القوّة الكونيّة الوحيدة المستهدفة بالغدر، لذلك
فمن حقّها المطلق أن تشرّع لنوع جديد من الحروب تسمّيه بالحروب
الاستباقيّة، ومعناه أن تأخذ هي بزمام المبادرة بالهجوم على العدو المفترض،
قبل أن يباغتها في عقر دارها،(6) وبهذا تكون أمريكا قد خلقت بغطرستها
وهمجيتها نوعا من الانهيار العالمي للقانون، وصنعت كذلك مشهدا مقلقا لعالم
ما بعد الحرب الباردة.
•أمارتيا صن : بربريّة الوهم الغربي المتفرّد وهمجيّته. لعلّ
أهمّ ما تولد عند اشتغال أمارتيا صن(7) بقضايا فلسفيّة متنوّعة، مثل
التعّدديّة الثقافيّة وما بعد الكولونياليّة والأصوليّة والإرهاب والعولمة،
هو إقراره بأنّ الصّراع والهمجيّة المعاصرة، يدعمها وهم هويّة متفرّدة،
ترى أنّ الدّيمقراطية ابتكار غربي وجب تصديره إلى الآخرين، ديمقراطيّة عملت
أمريكا على توطينها بشكل قسري في العراق، عبر التدخّل العسكري الذي اتّخذ
بتهوّر، بناء على معلومات منقوصة وقلّة تأمّل وتفكير(8) أدّى إلى تمزيق
البلد طوائف متناحرة فيما بينها.
إنّ الهويّة الغربيّة التي تزعم
التفرّد والتميّز حسب صن، تتّخذ من فرضيّة صراع الحضارات لصمويل هنتنغتون،
مرجعا لها لإثارة صراعات كوكبيّة بين الأديان الكبرى، فالمسلم إرهابيّ
بالنّسبة إلى أمريكا، فبعد أحدات الحادي عشر من شتنبر سيعلن بوش الابن حربا
صليبية على المسلمين مفصحا عن إنجيله وعصاه التي سيغيّر بها العالم وفق
مصالح أمريكا العليا مقسّما العالم إلى معسكرين غير متكافئين، تقوم بينهما
حروب باردة وساخنة : أمريكا ومن معها في الحرب على الإرهاب ومحور الشرّ.
(9)
و يحتجّ أمارتيا صن على رؤية النّاس حصريّا بناء على
انتماءاتهم الدينيّة لكونها رؤية انغلاقيّة، عمياء، وتشخيص خاطئ متجاهل
للتنوّعات المهمّة داخل كلّ حضارة، ومتغاض عن التّفاعلات التي تقوم بين
الحضارات، في مجالات متعدّدة كالتّجارة، والعلوم، والآداب…
وهذا
ما يومئ إلى فهم شديد المحدوديّة والضّحالة لخصائص البشر الموسومة
بالتّأثير والتأثّر اللامّحدود، وعلى هذا النّحو يتّضح الوهم الغربي
المتفرّد، الذي يلغي الآخرين بفضاعاته وانتهاكاته التي ولدت مشاعر النّفور
تجاهه، كرد فعل على سوء المعاملة والاستغلال والمهانة التي مارسته
الكولونياليّة، وما بعد الكولونياليّة الغربيّة.
في الأخير يمكن
أن نخرج بانطباع عام يؤكّد الشّجاعة النّقديّة لهؤلاء الفلاسفة، وتصدّيهم
الجريء للبربريّة والهمجيّة في مختلف أشكالها، وتمظهراتها، فلقد اخضعوا
البربريّة والهمجيّة الغربيّة للمساءلة، قصد الوقوف عند الأخطاء والجهالات
المرتبطة بالاستعمال المنحطّ للعقل المؤدّي إلى الانغلاق، وهذا ما يعني
ضرورة التّفكير الجيّد في البربريّة والهمجيّة الغربيّة، للانعتاق والوعي
الجيّد، بأخطارها لتجاوزها والمساهمة في إحياء الإنسيّة لإزالة الغشاوات
والعتمات التي لازمت المركزيّة الغربيّة.