المراسلات دوائر لا تكتمل بغير العداوة أو الموت، تُشبه حركتها خفقان القلب ومداعبة اليد لكلب الزّمن، يجري لاهثا خلف حلول الطّريق، دون أنْ يجد الماء في البئر. هكذا يؤوب الجنس الرّسائليّ دوماً إلى صيغة من صيغ العطش: الرّسالة الأولى، ثمّ ماذا؟ الرّسالة الأخيرة، ما الحلّ؟ أيّا يكن الحلّ المفترض، فإنّ كلّا من عبد الكبير الخطيبي (1938-2009) وجاك حسّون (1936-1999)، على مدار خمس سنوات، بين 29 يوليوز/يوليو 1980 و17 مارس/آذار 1985، لم يكُفّا عن تبادل رسائل متقاطعة بلغت 45 رسالة، عبَرت مكاتب البريد في باريس والرّباط ونيويورك وطنجة والإسكندريّة والهرهورة...، وساءلت بصرامة معرفيّة، ودُعابة أدبيّة ونوستالجيّة أحياناً، رموز الكتابة الدينية في التّراثين العبريّ والإسلاميّ، وعلامات النّزاع السّياسيّ والعسكريّ بين العرب والصّهاينة. يجيء صيف العام 2014 باعتداءات متبادلة، متباينة الضّرر، بين قوّات الاحتلال الإسرائيليّ وفصائل المقاومة الفلسطينيّة. رسائل تخرج، هذه المرّة، ككلّ مرّة، من البنادق وقاذفات الصّواريخ، ومن حناجر «أجيال جديدة» تقرأ الواقع بنفس المرارة، وبذات القلق الذي يقدّمه كتاب جمع الخطيبي وحسّون رسائلهما بين دفّتيه تحت عنوان “نفس الكتاب” (Le même livre): نفس الكتاب يعني نفس التصدّي لمراجع عداء الغيريّة، ونفس الرد على محفّزات تسييج الإنسان وقتله، وأساساً نفس الرّغبة في الخروج من مأزق وجوديّ، يبدأ بسوء الفهم وينتهي بالدّم، تُؤزّمه مستويات «ميتافيزقية» شتّى، منها الرّمزيّة والتّخييليّة والشّبحيّة، إلخ. “نفس الكتاب” ليس إذن الكتاب نفسه الذي يجسّد الأزمة العربيّة الإسرائيليّة، من حيث مضمون الرّسائل ومشهوديّة الأحداث، نظراً لاجتماع الطّرفين على إدانة الاستيطان والعنف، ومواجهة غائيّة التّاريخ وتفاضل الإيطيقي والدّيني؛ إنّها مراسلة تطرح المشكلة من خلال تفاوت فهم الأسطورة والممكن، وتقويض الاستبداد القائم على تأويلهما للهيمنة على أدوات النّزاع وأسباب الغلبة.
بين أهل الكتاب وأصحاب الأرض
يرى المفكّر والأديب المغربي عبد الكبير الخطيبي أّنّ “المسلمين واليهود يكتبون في نفس الكتاب، دون علم بذلك. الكتاب باعتباره الحكاية الخرافيّة للواحد” (ص.17). تظهر هذه الجملة، بين جمل الرّسائل الأولى، كـ«فكرة افتتاحية»، فهي تُمسك بخيط تموّج الصّراع على النص والجغرافيا، وتسُوقه أمام أعيننا. ما يتحدّث عنه الخطيبي هنا، بشكل مكثّف ورمزيّ، كان قد أورده سيجموند فرويد في كتابه «موسى الإنسان والديانة التّوحيديّة» عن تمازج اليهود النّازحين من مصر، مع قبائل سكنت فلسطين وشبه جزيرة سيناء وجزيرة العرب، أخذوا عنها عبادة إله الهويان، هويان الرّعد والحِمم، وتوحيده. اهتمامٌ بدئيّ بهذا الإله بقي يتكرّر بعد قدوم نبيّ العرب، فمعلوم في كتب التفاسير، أنّ يهود (دون تعريف اسم النّكرة ولا تنوينه) استفسروا محمّداً عن الرّعد، وأجابهم فصدّقوه. كما يوجد في التّراث الإسلاميّ دعاءٌ شهيرٌ، أورده مالك في الموطّأ والبخاري في الأدب المفرد، يقال عند سماع الرّعد، وهو متجانس مع دعاء العاصفة، الوارد في سِفر حزقيال والتّلمود. لكن هذا التجانس أضحى كَدِراً، بعدما أذاب فيه الإسلام، بتعريف النبي للرّعد على أنّه ملاك، ألوهيّة الله.
هذا الإله، الذي كانت له «دولة»، و«أحوال» تخرّبت عند اليهود ثمّ سقطت عند المسلمين، يعود بطيفه نحو(نا)، ونحو الفلسطينيّين كـ“شعب ثالث”، لينتقم من “شعبين” أضاعاه في انعكاس الصّوت وصدى الصّورة: يهوه الغائب المتكلّم في الجبل، والله الحاضر “معكم أينما كنتم” الذي ينقل جبرائيل الكلام عنه، لأنّه أخرس. يقول الخطيبي: “أمّا بخصوص إسرائيل، أو بالأحرى دولة إسرائيل، فمن البديهي أنّها المختبر، مختبر متفرّد، بين موت الآلهة وتفوّق المخطّطين الاستراتيجيين” (ص.111). أي أنّها، على حافّة النص، الموضع الذي تتلاشى داخله أيّ محاولة حوار جوفيّ بين “الكتاب”، التّوراة باعتباره وجهاً من أوجه «فقه الصّراع»، وبين من يُفترض أنّهم أهله. تماما مثل العلاقة التّأسيسيّة، إذا جازفنا بالمقارنة، والمجازفة مطلوبة، لدولة الخلافة التي أعلنها قبل أسابيع عوّاد إبراهيم من الموصل، بالتّراث في عمومه، وبالقرآن على وجه خاصّ. يدخل القرآن بدوره، كمخيّلة شعريّة، مسرح الأحداث. يضيف الخطيبي: “في الإسلام، عندما نبعث جثة ما، فإنّها تصبح أثناء هذا الوقت مشهودة في الموت. صورة تنهي الحرف” (ص.18). صورة ما محنّطة، تشبه إلى حدّ ما الإنسان الذي غدرت به قداستـ(ه)، الـHomo sacer عند جورجيو أغامبين، لا يمكن معها إلاّ استدعاء الحرف مرّة أخرى، في ثنائيّة تحريم وتحليل اعتبرها الخطيبي مأساة الطّرفين معاً.
في نظر جاك حسّون، وهو عالم نفس تحليليّ - شيوعيّ من أصل يهوديّ مصريّ، يمكن اعتبار “الخروج من الدينيّ الحلّ اليوم لإيجاد إمكانية تهجّي، حرفاً بعد حرف، كذبة السياسي ومعها كذبة الهويات المُطلسِمة” (ص.68). لكن ذلك، في رأيه، لا يمكن أن يتأتّى إلاّ بالاشتغال على الذّاكرة والتاريخ، فالحاضر ما يزال يستجدي “إله البراكين القبيح” الذي لم يعد يهمّه (ص.89). يتأسّف حسّون أيضاً لـ“تفاهة أولئك الذين يحاولون تغيير المُثل المتهاوية بالعودة إلى إلى اللّيبرالية والدّين” (141). في تلميح منه إلى الصّهيونية، التي بدأت كإيديولوجيّة ليبراليّة، وارتدّت بعد إعلان قيام الدّولة إلى الأسطورة. يستحضر حسّون كذلك جزءً من الذّاكرة اليهوديّة: كيف أنّهم كانوا، كيهود مصريين، يتلافون ذكر «اسم الجلالة»، ويستعملون في موضعه كلمة “رَبِّنَا”. هذا الانحاء العفوي أمام المقدس الشعبي يظهر أيضا في استرجاع حسّون للغاية في الفرق الكاليغرافيّ بين “الله” و“اللـه”، داخل نظام الخطاطة، والتي تحقق عدالة بصريّة بين الحروف بخضوعها، هي نفسها التي ترسُم عنوان الإله، لاسمه. ثم، في ملحوظة على الهامش، يسأل ويجيب نفسه: “كيف يشتغل النّسيان؟” (ص.69) [...] “النّسيان يزحزح الجبال” (ص.61).
نهاية النص وبداية العالم
ثمّة مفارقة يشدّد عليها الخطيبي وحسّون، متمثّلة في تغييب النص والكفر به، بمعنى تغطيته وخزنه، أي حجبه عن الأنظار لتقويّة مشهوديّته الخاصّة (عبر طمسه !) على حساب مشهوديّة الأحداث التي يبرّرها، وهو غائب ومغيّب، رغم تواجد آثاره. يقول الخطيبي: “على اليهوديّ أن يخسر الأرض لكي يعثر على الحرف (هذا هو المعنى التراجيدي للشّتات)، ولكن بايجاد الأرض والحرف معاً، يستوجب أن يكون المصطلح الثالث، يهوه، دائماً ممكناً باعتباره توقيعاً (...) ما يجمع العرب باليهود: إنّه شكل من نرجسيّة مختلفة” (ص.132). ما يقترحه المتراسلان، وهما يتحدّثان عن مسائل العمى والبصيرة والأسرار (ص.18-34)، يمكننا تسميته مجازفة بـتمرين بيوسياسي للتراث. بالنّسبة للخطيبي، جاء تأسيس الدّولة العبريّة عبر اقتلاع اليهود السّفرديم، وغيرهم، من هويّتهم العربيّة وتحويلهم إلى «عائدين وأشباح». سياسة «لا استثناء» فيها، لا تأخذ بعين الاعتبار تقديم الأحياء، مع مراعاة سماتهم الأنثربولوجية، على الموتى والمحرّضين على الفناء الممثّلين في السّابق القريب بمخطّطي التّهجير الصّهيوني لـ«يهود الشّتات» وللفلسطينيين العرب واليهود، وبفقهاء «التّاريخ الرّسمي»، ويمثلهم اليوم دعاة الاستيطان، والدّولة الدينية الواحدة، وآخرون لا وجه لإلههم حتّى يخفيه أو يبديه.
“ابتعد عن هنا لكي أقيم مكانك مع دبّاباتي”. (ص.68) جملة مخيفة أخرى يخطّها حسّون واضعاً أصبعه في بؤبؤ اليهودية المتصهينة. نفس الأصبع، يغرزه الخطيبي في بؤبؤ(نا): “ما انتهى، هنا في العالم العربي، هو حضور يهوديّة متسامحة، يهوديّة تاريخيّة كانت ستكون لها مكانتها السياسيّة التامة داخل مدينة «الأمّة» التي تشتّت وتشرذمت هي نفسها”. (ص. 25). يقترح حسّون، في المقابل، كما لو كان ردّا مرجئاً على ضياع هذه الفرصة: “هناك استعجال لإعادة قراءة النّصوص التي كُتبت في زمن الحدائق الأندلسيّة، والزّمن الفاطمي، وفي زمن المدن التجارية الدّانوبيّة، ومواجهتها مع الزّمن الرّاهن” (ص.66). كأنّه «يحنّ»، من خلال التّراث، إلى «تاريخ متشارك» لم يعد ممكنا. تشاركٌ يجعل العادة في مالطا (لماذا مالطا بالذات؟)، كما يستذكر هو، تقتضي دفن اليهود والمسلمين في مقبرة واحدة: اليهود نحو الشّرق، والمسلمون في اتجاه الجنوب الشّرقي. ويتذمّر حسّون من عجزه على الاحتجاج بأيّ صورة من التّاريخ أو أيّ تعويذة سياسيّة قد تسمح له “اليوم دون يهوديّته” أن “يسمع عروبتـ(ه)”. بل، في خروجه من النص إلى العالم، يستحضر غربته، هو المصري، أثناء زيارته لمصر، والغرابة التي يُنظر إليه بها على عكس سيّاح قادمين من إسرائيل: “ماذا أقول عن تذمّرنا أمام مناهج الإسرائيليين الذين يتحرّكون بالآلاف في القاهرة بأريحيّة يانكي yankee للغاية” (ص.29).
هكذا، كأنّ صوتين، يمتزجان ويتداخلان، يقولان معاً أنّ اختيار العودة إلى العالم يستدعي التخلي عن هويات الإله غير الموصوف، الذي اسمه لا يُنطق وملامحه لا تُرى، وتغييرها بعلائق حياتيّة هجينة تربك مركزيّة النص، وقداسة الأرض، أمام عفويّة الإنسان على الشّكل الذي نكتشفه هنا: “جاء بعض الأصدقاء [العرب] وهنئوني بمناسبة استرجاع سيناء. كان في هذا الفعل الكثير من السّذاجة، لكنه أسعدني، فقد كان الأمر احتفاءً بالإنسان المصري” (ج. حسّون، ص. 61، 62). هذا الخلط بين الهويّة والأرض، عبر ربط الفرد بالتراب، لا العكس، هو نفس الخلط الذي يسمح، على مستوى آخر، بفهم فكرة الخلق داخل منظومة الطبيعة، لا خارجها. طبيعة لا تنسى أبدا. يقول الخطيبي: “لم يمحى أيّ شيء (...) ليس هناك حبّ بين أهل «الكتاب المتشارك». ليس هنالك إلاّ هذه الصّلة بالكتاب والمقدّس” (ص.139). تنزل هذه الجملة، في غمرة الحديث عن الفرق بين الصّداقة والحبّ، وعن ولاء المرأة وصحبتها، كأنّها «نداء مقاومة»، بل إنّها – لمن يفهم أهوال القلب – دعوة ضمنيّة وصريحة لشعب فلسطين لمقاومة الاحتلال، خارج الغبن التاريخي للتّوحيد ولجينيالوجيا القبائل وبطونها.
في رسالة سابقة، مؤرّخة بنهاية فبراير/شباط 1981، كان الخطيبي قد عبّر عن فرحته بـ“التّفكير (أخيراً) في نهاية الكتاب”. كان يستعجل النّهاية، والمراسلة ما تزال في بدايتها. استعجالُ نهاية الكتاب، يعني أيضاً العودة إلى بدايته، من أجل فسخ هذه «الكتابة الشّاهقة» وعزلها، بالكتابة إلى شخص، إلى لا أحد، كما يقول هو نفسه، من خلال لغة وسيطة، بعيداً عن أيّ برج بابل فاسخ. لوهلة، وأنا أقرأ الرّسائل الأخيرة، حيث احتدم الجدال، وتشعّب الكلام بين الرّجلين، كان يحدث أن أفترض نفسي أمام كتابة ملغومة، “عدوّة” لنفسها و“عدائيّة” ضدّ الآخر، وكنت أحاول العودة إلى رشدي، الرشد الذي يضع العقلاء نُصب «نقد مزدوج»، لا ازدواجية للنقد فيه. وهو ذات الرشد الذي حرّض الخطيبي وحسّون، بعد التوقف عن الكتابة إلى بعضهما، على نشر كتاب استفسرا في مقدّمته الاستئصاليّة المعاصرة قائلين: “من سيعترف بالآخر في مواجهةٍ أمينةٍ وبدون خديعة مُخالِطة؟ أيّ وجه للآخر يحلّ، ويتبدّى في صورة هذه الرّسالة المعمّمة؟ بأيّ تبادل يتعلّق الأمر؟ أيّ تشارك للتّوقيع؟ أيّ اعتراف؟”. ما الذي قد يبقى، إذا بقي شيء، بعد كلّ هذا؟ : «شعب واحد» ممزّق، واسمان ودولتان، وإله يهوي إلينا لنستأنس بخرافاته البعيدة متى فتحنا الكتاب. نفس الكتاب.