يبدو ان الحديث عن الاشكاليات المفاهيمية للسياسي والثقافي لاتنطلق الاّ في سياق الحديث عن الازمة العامة، تلك الازمة التي تتكشف عن الصراعات السياسية والصراعات المجتمعية، وعن تصدع مشروع الدولة، وعن صعود رهاب الجماعات العنفية، ومنظورها للسياسي بوصفه مثالا للقوة والحاكمية، وللثقافي بوصفه المؤول والمفسر والمهرج والحكيم او البهلول او موظف التزجية النفسية..
هذه التداخل الملتبس للسياسي والثقافي مابين التاريخي المتحفي، ومابين التاريخي الصراعي، يكشف عن الحاجة الى اعادة مراجعة وفحص هذه المفاهيم، ليس في ظل تحول استعمالاتها حسب، بل في ظل تموضعها داخل سياق مؤسساتي، محكوم بالقانون، اذ ان غياب هذا السياق يعني غياب التاطير الحمائي للمفهوم الثقافي وللجماعة الثقافية، وللوظيفة الثقافية، وللحقوق الثقافية، وهو ما يعني التماهي مع السياسي بوصفه السلطة وراس المال، وبوصفه ايضا القوة المادية والرمزية..
ازمة السلطة السياسية في عراق مابعد عام 2003، كشفت عن هشاشة التحول المؤسساتي، والتحول المجتمعي وعن غياب التاصيل الحقوقي والمفاهيمي للفكرة الثقافية، لان السلطة الجديدة اعادت انتاج الكثير من مظاهر السلطة القديمة، خاصة على مستوى صناعة الحشود والمراكز الايديولوجية والدينية/ الطائفية، والمراكز الجماعاتية، والمراكز العنفية، أي ان السلطة بوصفها الاطار التوصيفي للفعالية السياسية، ظلت متجوهرة في سياق حيازة القوة، والتفويض باستخدام العنف، مقابل تعويم حقوقي للاجتماعي والثقافي والنقابي المدني، والذي يعني غياب القوى الاجتماعية الكابحة لجماح السلطة، وهذا ما افضى الى الغلو السلطوي السياسي، والى الهشاشة الثقافية المدنية، وبالشكل الذي يصعّب من اية عملية تحويل في الوظائف والادوار، لاسيما وان الموازنات الوطنية ظلت الوسيلة الكبرى لتعزيز قوة السلطوي، وتامين حيازته للمال، وللشرعنى القانونية، مقابل الافقار والتهميش للمجتمع المدني والمهني الذي يكون الثقافي جزءا منه، وهو ما يعني الافقار الوظيفي، او افقار المنافسة، او ما يعني بشكل دقيق العودة الى اخضاع الثقافي الى سلطة المال والقرار التي يملكها السياسي المؤسساتي، والسياسي الجماعاتي، والسياسي السلطوي..
ولعل اية دعوة لفك الاشتباك مابين الحيازات السلطوية/ السياسية وبين التمثلات الثقافية، يعني الدخول في مجالات غير مسيطر عليها لتفسير القانوني الخاص بتنظيم الحقوق، وبالتوصيفات، والصلاحيات، وبالفقه الاقتصادي الخاص بتامين حقوق مالية للثقافي المدني، ولمؤسساته، لكي تعبر عن استقلاليتها ومهنيتها من خلال انتمائها لمشروع موازنة الدولة وسياساتها الثقافية والادارية، وليس الحكومة بوصفها جهازا تنفيذيا، يرتبط عمله بعمل المؤسسات الخاضعة لبرامجه وسياساته..
السياسي/ الثقافي...المسؤوليات المشروعة..
ضرورة اعادة قراءة هذين المفهومين- السياسي والثقافي- ينطلق من ضرورة ان يكونا عند خط شروع واحد، وهذا التوصيف ليس شعارا للمرحلة سيرورة الدولة الجديدة، بقدر ما يعبّر عن ظاهرة التحول الاجتماعي والثقافي والسياسي القرين بمشروع هذه الدولة، اذ بات الحديث عن ظاهرة التكامل في الاداء وفي المسؤوليات هو الشرط والقياس المنهجي وحتى الفقهي الذي يؤطر عمل الفعاليات السياسية والثقافية في آن واحد.. واحسب ان فاعلية الثقافي رغم هشاشتها التاريخية، الاّ انها تفترض وجود فاعلية اسنادية للسياسي، مثلما ان مفهوم السياسة ومفهوم الثقافة لم يعودا توصفين لاجرائين متباعدين في العمل على طريقة توزيع الادوار والوظائف. فالسياسي بكل تاريخه الرمزي والرهابي يحمل في معطفه الكثير من من وصايا الثقافي، والثقافي يضع السياسي في متنه دائما بوصفه رمز للقوة والثروة..وان اية محاولة قهرية للفصل والتقاطع على حساب احدهما الاخر ستكون محكومة بالفشل، او ربما بالخروج عن سياقات العمل التي تنتظم فيها فعاليات الدولة ومؤسساتها، لان الواقع لم يعد يحتمل صورة السياسي القمعي والسلطوي المعزول عن الحياة والواقع والاسئلة اليومية، مثلما لم يعد هذا العالم يحتمل صورة المثقف المعلقة على الحائط، والذي لايعرف كيف تجري وتصطخب من حوله احوال الدنيا وكيف يمكن للظواهر ان تتشكل امامه وتفرض حضورها وصراعاتها وازماتها وشروط تحولاتها؟
السياسي والمثقف بقطع النظر عن من ضغط وجاهزية التوصيف القديم، وطريقة النظر اليهما، اصبحا اضطرارا امام منظور جديد، منظور يقوم على اساس تفكيك المركز القديم، المركز الايديولوجي والابوي والتقديس والشعبوي، فضلا عن المنظور الاجرائي وحيازته للشروط والقياسات والاحكام الواقعية والمعرفية والمعلوماتية، وبالتالي فانهما اصبحا امام سياق مفتوح اكثر شجاعة في التعبير عن معطياته، والذي يشترط في تنفيذ برامج هذا السياق فهما اكثر اتساعا واكثر عمقا للعالم وللظواهر والتحولات والصراعات والازمات، ينحاز الى فكرة النظر الممنهج والموضوعي للظواهر، يستقرأ ما تحمله من اجراءات واستحقاقات ومفاهيم، يخضع تداولها الى فاعلية معرفية تنتظم فيها الامور، مثلما ينحاز هذا التوصيف الى فكرة موت المثقف العاطل عن الوعي، مثقف البرج العاجي، والمثقف الارستقراطي، مقابل الموت الرمزي للسياسي العاطل عن ادامة دوره في الحراك الاجتماعي، اذ ان مرحلة بناء الدولة الديمقراطية بقطع النظر عما تعانيه من تشوهات واكراهات، قد انهت دور السياسي الانقلابي، السياسي الديكتاتور، السياسي العصابي، وانهت ايضا دور المثقف التابع، والثقافة(الكدية) وبالاتجاه الذي ينمي الدعوة الى صناعة الثقافة ومؤسساتها، واليات عملها وعلاقاتها، فضلا عن تنمية فاعلية النقد، نقد ما هو ميت وما هو باعث على الموت، اذ ان هذا العالم لم يعد جزءا من اساطير القوة والضعف، ولم يعد خاضعا لامبراطوريات الغاشمة، ولم يعد واقفا على قرن الثور المثيولوجي كما علمتنا جداتنا، ولم يعد العرافون والعرافات هم الذين يحركون اهواء السياسة ومزاج الحكام ودوران الاحوال من بين ايدينا ومن خلفنا.. كل ما في الارض من صراعات وتحولات واصطفافات اصبح قابلا للنقد والمراجعة والقراءة، يجري لمصالح وحسابات متعددة متوافقة اومختلفة، ويجري ايضا بمعرفة وحسابات وتصورات لها مقاديرها ولها منظروها وصانعوها...الحرية اصبح لها حساب، وازمة الطاقة لها حساب، وازمة الوقود الحيوي لها حساب، مثلما هي ازمة ازمة الحاكمية والديمقراطية وازمة الحوار الحضاري وازمات الثقافات الاثنية والحقوق المدنية، كلها اصبحت خاضعة للمقايسة والقراءة المتعددة الاوجه، لها حسابات اخرى ولها مرجعيات وقوى خفية وظاهرة. نعم كل هذه اصبح يملك نظاما وبرامج ومؤسسات وارادات وربما بنوك معلومات ومراكز استبيانات وبحوث، فيها مخططون ستراتيجيون يرسمون الاف الطرق والاتجاهات والخرائط في البيئات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية التي يظن البعض انها بيئة قصية وموحشة. في الحداثة ليس ثمة شيء بعيد او قصي او مهمل.
صناعة الثقافي السياسي وصناعة الظواهر..
التصور عن صناعة وظيفة مغايرة للسياسي والثقافي، يرتبط كثيرا بصناعة الظواهر، واعادة النظر الى الوظائف داخل عالمنا المجتمعي، وداخل عالمنا الكوني الذي نتناص مع معلوماته وافكاره وصراعاته كثيرا، والذي يحاصرنا من الجهات جميعا بعين الكاميرا والمعلومة والاقمار الصناعية، والذي يفترض شكلا داخليا للرقابة على هذه الصناعات، وعلى تداول واستهلاك المفاهيم، لان اعادة النظر بغابة المفاهيم التي نسوقها ونرطن بها بعمومية فاضحة، ومنها مفهومي المثقف والسياسي، بات لازما باعادة التوصيف الوظيفي والحقوقي والعولمي لهذه الثنائية، ومن خلال وعي اخر، وعي شجاع، صادم، احتجاجي، تظاهراتي ، وربما يكون تغريبا حتى باتجاه الدفع لالغاء صورة السياسي البسماركي والسعيدي، والغاء صورة المثقف البوهيمي، الوجودي، او المثقف الحكومي او العرضحالجي، لانه اعطى للسياسي توصيفات لايستحقها، ومنحته امتيازا وتعريفا وخندقا لانعرف من الذي اقترحه، واعطت ايضا للمثقف تعريفا قاصرا وقسريا، اذ جعلته المطرود والصعلوك والحالم والبعيد عن الارض، وربما ايضا اعطته امتياز المهرج وصانع الفرجة والضحك للملوك والسلاطين واصحاب بيت المال.
تحولات العالم المعاصر اصبحت تحولات عميقة الاثر، لاتعترف بالكثير من اوهامنا القديمة، وشروطنا التي تدربنا عليها عبر هيمنات التاريخ والنقل والجماعة والمقدس، وعبر ترسيمات المواسم والولاءات، اذ انها اعادت ترتيب علاقة المثقف بالسلطة بوصفه كائنا للارادة والحرية، وبعيدا عن الخوف او الرعوية. شرط وعي المعاصرة يفترض اولا شرط المواطنة التي يتساوى فيها الجميع امام القانون، مثلما هو شرط النظر الى السلطة، تلك النظرة الاجرائية الخالصة، لان السلطة ليست حكرا لعائلة معينة او حزب معينة اوطائفة معينة كما كرسته الانقلابات الدامية في حياتنا. وهذا بالطبع يقتضي من السياسي الشمولية في المعرفة، والحداثة في المعرفة، والوعي بقيمة الهوية كدافع للبناء والتحضر والحوار، ومعرفة الناس بدءا من شكسبير ومحمود احمد السيد وانتهاء ببائع الحديد في شارع الشيخ عمر. كما ان ذلك يقتضي من المثقف ان يعرف اسرار العالم وصانعي هذه الاسرار بدءا من اللورد تشرشل والسيد دوفلمان وانتهاء بقوائم المشاركين في انتخاب مجالس المحافظات..
انها دعوة حقيقية لتشارك الادوار وليس الاكتفاء بتبادلها كما قد يقترح البعض، فضلا عن الحرص على يمارس الجميع على ان الثقافة والسياسة باتا جزءا من ظواهر التحول باتجاه وعي الدولة الجديدة، ووعي شروط الديقراطية والحرية والتنمية والخروج الى فضاءات العالم الحر..