[size=10]22[/size]
يولد الجهل، كاملاً، مع ولادة الإنسان، ويتناقص باطراد؛ وتولد المعرفة، مع ولادته، إمكاناً مفتوحاً، وتظلّ ناقصة، ولكنها تنمو باطراد؛ لا الجهل يضمحل ويتلاشى، ولا المعرفة تكتمل، مهما امتدت حياة الفرد. الجهل هو الحالة الطبيعية أو الغريزية، والمعرفة هي الشرط الإنساني الأول، وأول تجليات الحرية. الجهل والمعرفة، أو الجهل والعلم، بالمعنى الذي يعبر عنه الفعل (عَلِم)، بقدر ما تقترب دلالاته من دلالة الفعل (عرف)، ليسا نقيضين متخارجين، ما داما وجهين للطبيعة البشرية والفاعلية الإنسانية: سلبي وإيجابي، أو فاعل ومنفعل، بل هما متداخلان، أو متجادلان؛ علاقة التناسب العكسي بينهما لا تنفي تجادلهما، بل تؤكده.
- اقتباس :
الجهل هو الحالة الطبيعية أو الغريزية، والمعرفة هي الشرط الإنساني الأول، وأول تجليات الحرية
فإذا ما انغلق العلم على نفسه، واطمأن إلى منجزاته، يتحوّل هو نفسه إلى جهل، ويصير الأخير، أي الجهل، علماً جاهلاً، وإذا ما انغلقت المعرفة على نفسها، واطمأنت إلى منجزاتها و"حقائقها"، أو يقينياتها، وتجاوزها الزمن، تتحول إلى معرفة جاهلة، لا تصلح إلا للاجترار، وتزجية الأوقات الفارغة، أو "اللعب والمخاطرة"[1]، أي إلى نوع من ديونيسية (نسبة إلى ديونيسيوس)[2]، ليست مجرد بداية ومنطلق ومسار، بل مسكنٌ ومآلٌ مقابلان للكسل العقلي والهمود النفسي. ولما كانت المعرفة مصدراً لفعل، طليق، في المكان - الزمان، يتجه إلى الخارج، وإلى الداخل، في الوقت نفسه، خلافاً لغيره من الأفعال ومصادرها، فيقتحم مجاهيل الكون الكبير، أو الأكوان الكبيرة، ومجاهيل الكون الصغير، أو الأكوان الصغيرة، ويحول مجاهيلها إلى معارف وأعمال، تغير أشكال العالم، فإنه بهذا وغيره، مما لا نعرف، فاعليةٌ إنسانيةٌ طليقة، لكي لا نقول مطلقة، لا يحدّها حد، ولا يعوقها عائق، سوى الجهل العالم، الذي وصفناه والمعرفة الجاهلة، التي وصفناها وسلطته وسلطاتها الغاشمة. فالجهل العالم والسلطة المستبدة صنوان.
المعرفة فاعلية إنسانية خلاقة باطِّراد، وتتجاوز نفسها باطراد، وهي شقيقة الحرية، وشكل تعينها الرئيس، أو لا تكون معرفة، بل مجرد "ذاكرة" فردية و/ أو جمعية ومعلومات وسرديات. الجهل حد على المعرفة وسلطتها، بقدر ما تكون المعرفة حداً عليه وعلى سلطته، وحداً منه، ذلكم هو التجادل، الذي أشرنا إليه، علاوة على إمكان تحول المعرفة إلى جهل عارف، والجهل إلى معرفة جاهلة، يمكن أن تصير "جاهلية"، بالمعنى الذي قصده الشاعر بقوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا[3]. ما من شك في أن الجهل حجاب، والمجهول محجوب، (والمحجَّبة مجهَّلة ومجهولة)، والمعرفة هي كشف الحجاب، عن حقيقة المحجوب، وعن رؤى وتأويلات شتى لهذه الحقيقة. لكن التأويلات الممكنة كلها مشروطة بكشف الحجاب، وإنارة العتمة، عتمة العالم وعتمة النفس.
تحضرنا هنا فذلكة نيتشه والنيتشويين في تمجيد الحجاب الشعري، الذي يغلف الحقيقة الواقعية، لا اعترافاً بتعددية الحقيقة ونسبيتها، بل خوفاً منها، أو ازوراراً عنها: "عندما يسقط القناع (الحجاب) تتداعى الاحتمالات، احتمالات لعبة النرد، لأن القناع ضيق بالحقيقة الواحدة، واختراق للمعنى الأوحد، وفتح لما أسماه هولدرين بنشوة الكلام في اللامعنى"[4]. لا ندافع، هنا، ولا ندافع قطعاً عن الحقيقة الواحدة والمعنى الأوحد، بل ننفر من "نشوة اللامعنى"، ننفر من العدمية المقنَّعة هي ذاتها بقناع الشعر، الذي يصبو إلى الفلسفة، ولا يبلغها. الحجاب لا يطرح علينا احتمالات، لأن الاحتمال هو الموجود بالقوة، بل يثير ظنوناً وحدوساً وتوهمات. - اقتباس :
إن الجهل حجاب، والمجهول محجوب، والمعرفة هي كشف الحجاب، عن حقيقة المحجوب، وعن رؤى وتأويلات شتى لهذه الحقيقة
نريد أن نتوقف مليّاً عند المعرفة المنغلقة على ذاتها والمطمئنة إلى منجزاتها وحقائقها ويقينياتها، المعرفة التي تجاوزها الزمن، ويتجاوزها، باطراد، ونعلل وصفها بالمعرفة الجاهلة، التي يمكن أن تولِّد جاهلية وكراهية وعدوانية. فهذه، حسب افتراضنا، ليست معرفة متحولة إلى جهل، فقط، أي معرفة متحجرة أو متكلسة، أو ميِّتة، بل معرفة ناتجه من جهل، فالجهل منتِجٌ أيضاً. المعرفة الجاهلة هي معرفة الإنسان المغترب عن نفسه وعن عالمه، الإنسان القابع على هامش العصر وعلى هامش التاريخ، والذي يشله الخوف، وينتظر الخلاص.
نفترض أن هذه المعرفة الجاهلة هي ما يسمى "التراث"، في "فكرنا المعاصر"، نعني التراث الحي في نفوس ميِّتة وأجساد مسرنمة ورؤوس فارغة إلا من اللغو والهراء، فليس من الممكن فصل "التراث العربي" أو "التراث الإسلامي" أو "التراث العربي الإسلامي" عن وارثيه، على نحو ما يفعل "فكرنا المعاصر". لنقرأ الآتي على مهل: "التراث العربي الإسلامي يغلفنا تغليفاً قوياً، وإذا ادعى أحد منا أنه مستغن عن هذا الغلاف متحرر منه فليعترف أنه مسكون بهوية أخرى غير الهوية العربية الإسلامية. إما أن يكون غلافنا العربي الإسلامي لباساً قابلاً للتجديد، ليغدو مناسباً لروح العصر وتحدياته ومتطلبات التقدم فيه، أو أنه قوقعة تكيف الجسد بدل أن يكيفها الجسد... فنحن لا نخفي أن مشروع نقد العقل العربي بأجزائه الأربعه محاولة لتحويل القوقعة إلى لباس"[5]. التراث غلاف خارجي أو قوقعة خارجية! نحن نعتقد العكس؛ التراث جزء من نسيج الشخصية، ونسيج الوعي، لو كان مجرد غلاف وقوقعة لسهل تغييره، ولسهل على من يريد التخلص منه أن يفعل ذلك، لأن التراث يفعل من الداخل، لا من الخارج، وفعله لا يستثني الجسد، ولا سيما جسد المرأة. خارجية التراث عن الوارثين صريحة، عند الجابري، كخارجية اللباس عن الجسد وكذلك استقلال مادته عن كيانهم. ومن ثم، إن نقد العقل العربي هو نقد القميص، لا نقد المتقمِّص. يضيف الجابري، ناقد "العقل العربي": "ما نشهده اليوم من تحديث للعقل العربي وتجديد للفكر الإسلامي يتوقف ليس فقط على مدى استيعابنا للمكتسبات العلمية والمنهجية المعاصرة، مكتسبات القرن العشرين وما قبله وما بعده، بل أيضاً ولربما بالدرجة الأولى يتوقف على مدى قدرتنا على استعادة نقدية ابن حزم وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتاريخية ابن خلدون، هذه النزعات العقلية التي لا بد منها إذا أردنا أن نعيد ترتيب علاقتنا بتراثنا بصورة تمكننا من الانتظام فيه انتظاماً يفتح المجال للإبداع، إبداع العقل العربي داخل الثقافة التي يتكون فيها. إنه بدون التعامل النقدي العقلاني مع تراثنا لن نتمكن قط من تعميم الممارسة العقلانية على أوسع قطاع من فكرنا المعاصر، القطاع الذي يُنعت بالأصولي حيناً وبالسلفي حيناً آخر.[6] علة الاغتراب هي الجهل بالأسباب الموضوعية للظواهر، الطبيعية منها والاجتماعية والسياسية، والشعور بالعجز إزاءها والخوف منها ومن السلطات الفظة والناعمة، التي تؤسسها، والتبعية لها، بدءأً من الشعور بالتبعية للطبيعة، بصفتها مصدر الحياة وشرط البقاء، مما دفع الإنسان إلى إضفاء خصائصه الإنسانية على عناصر وظواهر طبيعية، وتقديس هذه العناصر والظواهر، بعد تجريدها من خصائصها الشيئية أو المادية وتمثيلها برموز وصور، يُنسب إليها الخير والشر والنفع والضرر، فأصبح تابعاً لها، يغنيها بقدر ما يفقر نفسه، أي إنه يغترب عن خصائصه الإنسانية التي صارت خارجه. ومن ذلك تقديس الأسلاف، وتقديس الأب والزعيم والملك - الإله .. وعبادتها، وهذا مايسمى "الاغتراب الديني"، ويسميه بعضهم "الاغتراب الذاتي"، والعبودية الطوعية للرموز والصور، وهذه على الأرجح معادل رمزي للعبودية الفعلية.
- اقتباس :
العلم الحي ليس حداً على الجهل وقيداً لأوهامه فقط، بل حد على الحقيقة المطلقة والعقل الكلي أو الروح المطلق
فلا بد من البحث عن المعرفة الحية والعلم الحي، على نحو ما فعل فويرباخ[7]، لا عن العلم الميِّت؛ العلم الحي ليس حداً على الجهل وقيداً لأوهامه فقط، بل حد على الحقيقة المطلقة والعقل الكلي أو الروح المطلق. وأن نريد، على نحو ما أراد فويرباخ أيضاً، حقيقة مكتوبة بدماء القلب على صفحات التاريخ، لا بالمداد على ورق أجوف. الحقيقة هي الإنسان، لا العقل المجرد. انطلاقاً من هذه الحقيقة، يمكن تقليص الاغتراب شيئاً فشيئاً وصولاً إلى حذفه بإعادة الاعتبار للعياني والمشخص على أنه موضوع المعرفة، واستعادة الإنسان جميعَ خصائصه الإنسانية على أنها خصائص الفرد أنثى كان الفرد أم ذكراً، أمرأة أم رجلاً، وتمكنه من السيطرة على نتائج عمله وفاعليته وصيرورة المعرفة ومنتجات العمل والفاعلية ثروة للذات وسبيلاً إلى الإشباع والسعادة. الاغتراب تضحية بالعياني في سبيل المجرد، وتضحية بالفردي في سبيل الكلي، وقضاء على الإنسان في سبيل كائن متخيَّل ومفارق، بل وهمي، خلقه الجهل والخوف والعجز، طغت معه المعرفة الغيبية على المعرفة الواقعية أو الموضوعية، ولا تزال تلابس المعرفة العلمية في نظامنا التعليمي، وتراثنا وثقافتنا التقليدية، التي تذوِّب الواقع والتاريخ في الأسطورة والخرافة والمعجزة، ولا سيما أسطورة الخلق التوراتية وفكرة الخليقة العبدية، وتبخِّرهما في الحقائق المطلقة و"القوانين" الجامدة، حيث يتحول "العلم" إلى عقيدة تشبه العقيدة الدينية، ويصير معادلاً للإيمان.