لا أعرف كيف ومتى انفجر نقاش هادئ في شكل تواصله، لكنه عنيف في اختيار الكلمات والجمل القاتلة، كما لو أن الرجل أدرك تورطه البشع في وحل الجريمة وهو لايملك ما يكفي من المبررات لتبييض صفحته الملوثة بدماء الابرياء. إن تعبيرات ما، في ملامح جسد الرجل المتفاعل في أعماقه الممتدة، عبر تجاعيد رحلة العمرالمنعكسة على محياه بياضا، مع ما يريد لكلامه أن يصل الى التعبير عنه، تجعلني واثقة من أن أمرا خطيرا، يشبه عملية تفجير حزام المتفجرات المكتومة الصوت، سيحدث في مقصورة القطار الذي يقلني من مدينة مكناس الى مدينة طنجة. يبدو الرجل متحررا من كل شيء في نقاشه مع صديقه، فهو غير مهتم بباقي الركاب الذين يشاركونه المقصورة نفسها. لم يكن حزينا ولا متوترا بما يشي بحالة من الغضب المخنوق في داخل النفس، بل كان له عمق ما، مغر وجذاب، لكن فيه الكثير من الضباب الملزم للتحسب والتأمل الحذر. لأول مرة أرى انسانابهذا الشكل الرائع المثير للدهشة والألم، الى درجة جعلني مأخوذة بسحر هذا الموقف الفجائي الذي لم أكن أحلم أن أعيشه يوما ما في حياتي وأنا أصادف عن قرب حالة انسانية تتمزق من صفاء الألم والعذاب باختناق العجز عن الدفاع عن الحياة. هل شف الرجل حتى رأيت عمقه، أم أنني أسقطت عليه مكرهة شيئا من نفسي؟
انتابتني أحاسيس متناقضة بين الفرح والحزن، وكعادتي في المواقف الغريبة سرعان ما أحمل تأويلاتي المتطرفة ما يحدث لي، إذ ربما تشتط تخيلاتي الجنونية، وإلا ما الذي يجعلني الآن غيرقادرة على استعادة ما حدث؟ وهل أستطيع حقا ألا أقول شيئا آخر غير الذي عايشته عن قرب في ذلك السفر الجميل؟ وأية حرية في عيني تكرهني على كتابة هذا النص، وفي قصدي أنني أنقل متن المشهد كله كما هو، وأنا صراحة لا أستطيع أن أكون وفية صادقة إلا من خلال خيانة ما لمسته بكل جوارحي؟
هكذا أدركت بأن التذكر أكذوبة كبيرة يجهلها الانسان، و إلا ما مبرر هذه الغبطة العظيمة التي تغمرني الآن وأنا أقول لنفسي بنوع من الاعتداد بالنفس والثقة في الذات على قدرة تنزيل وحي الخيال الخلاق في نسج الحكمة : لا نستحم في اللغة مرتين؟
فكيف لي بنقل كل تلك اللغات المتفاوتة التركيب والدلالات والايحاءات، والمتشظية المعاني والافكار، التي كانت تنبعث من جسد ذلك الرجل، ومن مكان ما في منعطفات ألم حرقة عمره، وهي جزء منه، لكنها معتمة في عيني القاصرتين، أو أنها لا تدركها الأبصار؟ رأيت في عينيه انكسارا عميقا كما لو ضرب غدرا بمدية حادة، لكن هالات عناد المقاومة تسربل نظرته، والتفاف اللغة في فمه كخيوط العنكبوت يجعله ساحرا آخاذا. آه.. لو أمكن لهذا النهر الهائج لجنون اللغة في سر تلك اللحظة التي تسع الكون أن يهدأ اضطراب جريانه العنيف في ذاكرتي لأستعيد كلام الرجل:
لم أكن أعتقد بأنني سأكتشف نفسي بعد أكثر من ثلاثة عقود من العمل على أنني مجرد حارس مقبرة جماعية للاطفال وهم أحياء بين جدرانها، يتشربون فيها الموت وهم يبتسمون لوهم جنة الحياة في عيش الكينونة، وصيرورة تحولات الذات في وجه هذا الزمان الغشوم. في بداية العمر تلبستني هلوسة خدعة أنني من ورثة الانبياء في قول الكلام الفصل في بناء الانسان، في وقت كنت فيه نذلا، مجرد آلة حقيرة لتبريرتصفية عمق أحلام كينونة هؤلاء الصغار، وهم يتقافزون، يبتسمون، يرددون أغاني أنشودة الحياة بعيون محفوفة بفرح الأمل، وهم يجتافون سرا، دون ان يدركوا ذلك، قذارة عشق الرغبة في الموت، بعد أن تعدم كينونة الانسان في دواخلهم. بعضهم يلتهم عن ظهر قلب بآلية التلقين كل ما يخرج من أفواه المعلمين الانبياء المولعين بصحبة معجزة عصا موسى في التهام فرح ونزق وعناد أجساد الصغار. كانت صفوفهم مكتظة وهم يتدافعون من تسرب لآخر، ومن أمية لأخرى، بعد سنة لأختها، في وحل رعب الخوف واعتناق عادة خراب النفس وفناء الروح. دون أن تتاح لهم فرصة اخراج حزمة الضوء التي تحرقهم في الاعماق، حالمة بإلتهام صمد موسى التي لا تأخذها سنة ولا نوم، وهي تنشر ظلمة الرعب والرهبة في قلوب وعقول هؤلاء الصغار.
كم تكون الحياة قاسية ومؤلمة وأنت ترى، وتشهد على نفسك أولا كيف تشارك بقلبك الخائن، و لسانك الصامت الأخرس عن الجهر بالحقيقة، في قتل أحلام طفولة في عمر الزهور، وهي تستبدل كرها وقهرا نسغ الحياة في عروقها بأسياخ الخوف من عذاب القبر، ونار جهنم وهي تقول هل من مزيد؟ فيزهر في نفوس الصغار جحيم الكراهية و القتل و الحروب، وتنمو مخاطرركوب حلم الهجرة الى الفردوس عبر قوارب أو قنابل الموت. فكيف نستغرب أو نتذمر من مشاريع الخراب والدماء والدمار التي تخترقنا طولا وعرضا؟ ألم نكن نهيئهم لعشق الموت في مقابر جماعية تسمى مدارس؟
كيف كانت السماء تمطر في تلك اللحظات، والقطار يسابق الوقت على سكة من حديد، بسرعة تذبح حنين العودة من الوريد الى الوريد، كما لو كان يكشف سرا تغير وجه البلد، ساخرا من ثوابت مستقرة العادة، وهو لا يكف عن الصهيل، كأنه حصان هذا الزمان؟ في وقت كان فيه القطار يطوي المسافات بين المدن، كما لو أن الوطن كان يغيرجلد زمانه ومكانه رغما عنه، وهو يسحل من ماض بعيد، كان كلام الرجل يحاور الزمن في عمر اغتصب منه في واضحة النهار، دون ان يقدر على دفع شبهة خدعة هلوسة تلبسته في فقر الحال بوهم أنه من ورثة الانبياء.
فجأة شعرت بتذمر قاس وشديد الألم بسبب وجع الكتابة، لكوني عاجزة عن نقل كل مشهد اللغات المحتضن لولادة كلام الرجل، الذي يعي بأن يداه ملطختان كما قال بجريمة تواطئه مع سراق كينونة الانسان، وصيرورة أحلام الصغار. هكذا وجدت نفسي مرة ثانية، أو ثالثة.. لا أستطيع ألا أحكي شيئا آخر غير الذي قاله الرجل، فهل كان بامكاني أن أخفي حكايتي، وأستحم في اللغة مرتين؟
الخميس سبتمبر 27, 2018 1:36 pm من طرف نابغة