تبدأ الحكاية بما فيها مع امرأة عاشت حياة مأساوية مريرة، حدثت في عام 1899، إذ رزقت السيدة ميم، العروس الباريسية، أول مولودٍ لها. لكن ما حدث من صدمة أن رضيعها اختطف واستبدل بآخر غيره، والذي سرعان ما توفى أيضاً. ومن ثم رزقت بتوأم بنات; كبرت أحداهما، بينما اختطفت الأخرى، واستبدلت أيضاً بطفلة ميّتة غيرها. وكذلك رزقت بتوأم أولاد، اختطف أحدهما، وتسمّم الآخر ومات.
قضت السيدة ميم أيامها باحثة عن أطفالها المخطوفين؛ لكنها، على ما يبدو، لم تكن الضحية الوحيدة لهذا الكابوس المرعب، إذ لطالما كانت تسمع صراخ الأطفال المخطوفين تعلو وتتصاعد في أقبية باريس.
وكأن هذا العذاب لم يكن كافيا، فقد اختطف طفلها الناجي الوحيد واستبدل بآخر غيره متطابق المظهر، وسرعان ما أصاب زوجها المصير ذاته، فاستبدل بنسخة مطابقة للزوج الحقيقي! وهكذا قظت المسكينة أيامها تبحث عن أحبائها المخطوفين، محاولة تحريرهم، ناهيك عن الشروع بإجراءات الطلاق من الشخص المزيّف الذي حلّ محلّ زوجها.
في عام 1918، استدعت السيدة ميم الشرطة لمساعدتها في إنقاذ الأطفال المحبوسين في الأقبية. وتباعاً استشارت طبيباً نفسياً. وهناك قالت له أن سلالتها تنحدر مباشرة من لويس الثامن عشر، وملكة جزر الهند، ودوق سالاندرا الإيطالية. وإن لديها ثروة تتراوح بين 125-200 مليار فرنك في مكان ما، وإن قصة الاستبدال برمتها مؤامرة لتتنازل عن هذه الأموال. بل إنها تحت مراقبة مستمرة، وإن أغلب الناس الذين تعرفهم، إن لم نقل جميعهم، قد استبدلوا بنسخ بديلة مزيفة، بل حتى بنسخ بديلة للنسخ البديلة.
أصغى الطبيب النفسي جوزيف كابغراس بصبر وأناة، الذي كان يعتقد أن ذهانها الوهمي «الفكر المضطرب، زهو العظمة، والبارانويا» حالة مثالية جداً. ولكن مرة أخرى، لم يسبق لطبيب أن وصف وهمها المميّز في أن يتم استبدال شخص مقرب بنسخة بديلة مماثلة. فماذا يمكن أن تكون هذه الحالة؟
لاحقاً، كتب كابغراس مع جان ريبول-لاشو (الطبيب المتدرب لديه)، تقريراً طبّياً واصفاً فيه حالة السيدة ميم: «يتطور شعور الغرابة “strangeness” لدى السيدة ميم، ويتصارع لديها مع الشعور بالألفة familiarity الذي يتناقض مع كلّ ما تميّزه recognition. إلا أن هذا الشعور لا يغزو وعيها بالكامل، ولا يشوّه أدراكها أو صور ذاكرتها». وهذا الأمر، بالنسبة لكابغراس، خارج عن المألوف. وأثار الشعور بالتمييز والألفة لدى السيدة ميم عواطف مختلطة، وكانت مشكلتها أنها لا تستطيع التوفيق بين هذه المشاعر. لم يكن وهم النسخ البديلة وهم حسيّ، بل كان «نتيجة التحكيم العاطفي» بالمعنى الأدق.
أطلق الأطباء النفسيون، في نهاية المطاف، مصطلح “أوهام كابغراس” لتعريف الاعتقاد الدالّ على استبدال الأشخاص المقربين بنسخ بديلة متطابقة، ولم يكن الأمر محض شعور غريب أرشيفي. كما وإن فهمنا المعاصر للحالة يخبرنا الكثير عن كيفية امتلاك الدماغ وحدات منفصلة لتحليل الجوانب المعرفية من التمييز، وللشعور بالجوانب العاطفية من الألفة. وهكذا يتضح لنا أن من الممكن أن نفصل بين الإدراك والعاطفة من الناحية العصبية-البيولوجية، إلا أن السلوك يكون أكثر منطقية لو يترك وحده ليمزجهما معاً.
باعتباري عالماً عصبياً معاصراً، أرى أن تاريخ متلازمة كابغراس يعطينا مثالاً نموذجياً على تحوّل منظورنا عن الدماغ والسلوك، فقد أعطت المتلازمة خاصية فكرية، بادئ الأمر، للعلماء الذين قالوا أن العقل لا يرتبط بالدماغ. فقد كانت أوهام كابغراس، بالنسبة إليهم، مثل جميع الأوهام والأشياء الأخر التي تقع ضمن حقيبة الطب النفسي، قضية ميتافيزيقية للعقل والروح.
إلا إنه وخلال هذا القرن، أصبح من المسلم به أن كلّ فكرة، وكل عاطفة، أو سلوك، لا بدّ أن تكون نتاج مباشر ونهائي للدماغ المادّي. وكذلك تخبرنا الوسائل التي ترى متلازمة كابغراس نتاج النزعة المادية الكثير عن الاختلافات بين الأفكار التي تثير التمييز والشعور الذي يثير الألفة. وكما سنرى، فإن الخلل الوظيفي في الدماغ الاجتماعي، حين يقترن بتطورات عالم الإنترنت، قد ولّد جيل فيسبوك معاصر، جيل جعل من متلازمة كابغراس نافذة على ثقافتنا وعقولنا الآن، حيث لا يوجد شيء يمكن تمييزه بالرغم من إن كل شيء يبدو مميّزاً ومألوفاً.
تبدو أوهام السيدة ميم منطقية كلّياً بوصفها رد فعل للصدمة التي تعرضت لها خلال حياتها; من اختطاف أطفالها وتسمّمهم، ومن وفاة أربعة من أصل خمسة صغار. ومن هذا المنطلق، قد تحدث أشياء أسوأ من الاعتقاد الوهمي الوقائي بأن الأطفال ما زالوا على قيد الحياة في مكان ما. إلا إن الأطباء النفسيين، في ذلك الوقت، لم يكونوا مدركين لاحتمال أن تكون الأوهام ناجمة عن شدّة سبّبت تلفاً دماغياً بيولوجياً.
بدلاً من ذلك، أخذ التنظير حول مصدر متلازمة كابغراس منحى تحليل نفسي. إذ أعلن فرويد في عام 1911، أن الأوهام تتوّلد بسبب دوافع مكبوتة; وإن الطابع العام لهذا التفسير قد تبلوّر على أساس خصوصيات متلازمة كابغراس. وفي ثلاثينيات القرن العشرين، اتفق الرأي النفسي العام مع تفسير التحليل النفسي لمتلازمة كابغراس. وتنامت العقيدة الفرويدية، بكل الأحوال، وشملت القمع الجنسي، ومشاعر الحب والكره المتضاربة التي نحملها جميعنا بخصوص الأشخاص المقربين. وعلى هذا المنوال، كان الشخص الذي لا يتمتع بإرادة نفسية كافية للتعامل مع هذا التناقض يختبر متلازمة كابغراس- حيث يرى الشخص المقرب منه منقسماً إلى نسخة سيئة (النسخة البديلة الحاضرة في المشهد) وأخرى جيدة (التي تم اختطافها). وهذا بيت القصيد! (إلا أن هذا التفسير لم يشرح لماذا كان على السيدة ميم أن تختبر هذه المشاعر المتناقضة مع أغلب سكان باريس ، بالإضافة إلى البدائل الذين يكون لهم بدائل خاصة بهم).
ومع حلول التفسير الفرويدي في مكانه الصحيح، تحّولت النقاشات حول متلازمة كابغراس إلى شأن تصنيفه، ورأى البعض أنه وهم قائم بحدِّ ذاته (مع أسبابه النفسي-ديناميكية الخاصة به)، ورأى آخرون أنه ببساطة أحد متلازمات أوهام اللاهويّة delusional misidentification syndromes المتجذّرة في التحليل النفسي. وتشمل; متلازمة فريغولي Fregoli’s syndrome، التي يعتقد المصاب بها بأن أشخاص كُثُر، في الحقيقة، هُم الشخص نفسه ولكنهم متنكرون. ومتلازمة كوتارد Cotard’s syndrome، التي يعتقد المصاب بها بأن دمه أو أعضائه قد تلاشت، إن كان لها وجود في الأساس. وظلال الذاكرة المتكرر reduplicative paramnesia، التي يشعر المصاب بها بأنه قد تم نسخ الأماكن المألوفة أكثر من مرّة وتم استبدالها، أو أنه يتواجد، وفي ذات الوقت، في مكانين أو أكثر. وفي الختام، ارتأى أطباء آخرون أن تخلط التصنيفات سوية بمعيّة إن المتلازمة، مع أوهامها المتداولة، تعتبر ثانوية لمرض الذهان.
على مدى أكثر من نصف قرن، تربت متلازمة كابغراس مستريحة على عرش الطب النفسي. إلى أن حلّت ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وصار من الواضح أن هذه الأوهام قد تحدث أيضاً لدى الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات أخرى مثل الشيزوفرينيا والزهايمر. بالرغم من أن هذا الاكتشاف لم يعكّر صفوة التصنيفات. على كل حال، إذا كانت ذاكرتك تجه نحو نقطة لا تستطيع أن تميّز بها الأقربين، فإن تزلّفهم وادعائهم القرب منك تبدو مشبوهة جداً، وإن أفعال النسخ البديلة. (أن يصرخ والدي، الذي يعاني من خرف متقدم، بهياج في وجه والدتي: “أين زوجتي، أين زوجتي الحقيقية، أنت لست زوجتي، أنك محض، أيه، محض شيوعية!”). كان ينظر إلى وهم كابغراس المصاحب بأنه محض وهمٍ ذو لون مختلف، تخاريف ثانوية للفشل الإدراكي، في حين إن أي أمثلة أخرى لا تزال تحمل معاني نفسية ديناميكية.
على أي حال، كانت متلازمة كابغراس على وشك أن تقع تحت طائلة أحد أكبر الثورات الطبّية في القرن العشرين، مدفوعةً بالموجة التي أعقبت اكتشاف العقار المستخدم في منع نوع معيّن من مستقبلات الناقلات العصبية (neurotransmitter receptor)، في خمسينيات القرن الماضي، والذي كان عوناً كبيراً في علاج الفصام مقارنة بسنوات العلاج النفسي العجاف. وهذا الشأن بدوره عزّز فكرة أن السلوكيات متجذّرة في علم الأحياء، وأن جميع التعابير السلوكية والاضطرابات العصبي-نفسية هي “حقيقية” بيولوجياً مثل مرض السكري إن صحّ القول.
ومن المفارقات، أن كابغراس نفسه، في كتاباته المبكرة، تكهن أن الأوهام يمكن أن تعكس نوعاً معيناً من أمراض الدماغ، قبل أن يلتحق بركب التحليل النفسي. ثم اقترح في ورقة مبهمة (عام 1930) الشيء نفسه، ثم تجاهلها بشكل كامل. وبقي الأمر على هذا الحال حتى سبعينيات القرن العشرين، إذ ظهرت سلسلة من الدراسات مستنتجة حقيقتين اثنتين:
أولاً، إذا قمنا بفحص دماغ شخص مصاب بمتلازمة كابغراس، فغالباً ما نجد دليلاً بيّناً على وجود مرض دماغي، وعلى الرغم من أن تقدير هذا الدليل جاء بطيئاً، لأن التقنيات المتاحة ذلك الوقت بسيطة – تخطيطات الدماغ (EEGs)، وماسحات الدماغ الضوئية – التي التقطت شذوذاً في مجموعة فرعية في أشخاص قليلين. ولكن مع ظهور المزيد من التقنيات الحسّاسة، مثل التصوير الدماغي الوظيفي، صار من الواضح أن نسبة كبيرة من مرضى كابغراس يعانون من أمراض دماغية عضوية، تتركز في العادة حول خلل أو ضمور القشرة الأمامية.
أما الحقيقة الثانية (التي تقف في الجانب الآخر من الحقيقة الأولى): إذا كان الدماغ، وبالأخص بعض الأجزاء من مناطق القشرة الأمامية، قد تضرّر أو تضرّرت، فإن المصاب غالباً ما يولّد متلازمة كابغراس.
هناك مثال جيّد على ذلك تحدثت عنه دراسة أجريت عام 2013 حول امرأة تعاني من نزيف داخل الدماغ في قشرتها الأمامية اليمنى، وبعد سنوات من إعادة التأهيل، وبعد أن استعادت غالب وظائف جسدها، إلا اللهّم بعض المشاكل المتعلقة بالوعي الحيزي (spatial orientation). وبينما كانت تميّز بسهولة أغلب الناس من حولها، بما في ذلك ابنتها وحفيدها، فقد أصرّت على أن زوجها قد تمّ استبداله بنسخة بديلة، قالت: “نعم، نعم، إنه يبدو كأنه زوجي طبق الصورة والأصل، وقد كان عوناً كبيراً لي خلال مدّة نقاهتي، لكنه ليس زوجي بكل تأكيد، زوجي في مكان آخر”. لقد تعرفت على صور زوجها بسهولة، لكن هذا الرجل الذي أمامها ليس هو. بل إنها اعربت عن قلقها في أن يكون منزلها قد تم استبداله بنسخة بديلة أيضاً.
أصبحت متلازمة كابغراس تابعة للأضرار العصبية الحادّة. وبذلك يمكن أن يؤدي الضرر الدماغي إلى أن يستطيع المصاب بالتعرف على ملامح الشخص القريب منه، ومع ذلك فإنه يصرّ على أن الكائن الحي الماثل قبالته ليس سوى نسخة بديلة، وهذه الحقيقة تبيّن لنا الكثير عن أحد أكبر الصفات الازدواجية المتعلقة بالدماغ.
بدأ الأمر مع ديكارت، الذي كان يرى أن هناك تمييزاً ثنائياً بين “العقل” و”الدماغ”، أو في النقاش الذي احتدم بين علماء الأعصاب مؤخراً، بين “الإدراك” و”العاطفة”. من رؤية قياسية، فإن الأخيرتين مفصولتان وظيفياً وبيولوجياً، وهما -بشكل ما- في صراع ملحمي دامي حول السيطرة على السلوك. علاوة على ذلك، فإن الازدواج يعكس بشكل مثالي وجهة النظر التي مفادها أن أحدّ الاثنين، من خليط الأخلاق والجمال، يمكن أن يهيمن -بشكل ما- على الآخر.
إن الازدواج بين الإدراك والعاطفة، كما نعرف الآن، زائف، وهذا ما أثبته عالم الأعصاب أنطونيو داماسيو، في كتاب له صدر عام 1994، بجلاء خطأ ديكارت. حيث وجد أن الاثنين يتفاعلان بصورة لا نهائية، سواء من الناحية الوظيفية أو العصبي-بيولوجية. والأهم من كل ذلك، إنهما يعملان بشكل أفضل سوية، لأن ما نراه من وظيفة اعتيادية يتطلب تكاملاً شاملاً بين الاثنين.
ويبدو الأمر أكثر وضوحاً حين يتعلق باتخاذ القرارات، لا سيما المواقف المثيرة للعاطفة. وإن الأمر يرتكز في منطقتين رئيسيتين من القشرة الفصّ الأمام-جبهية. الأولى، قشرة الفصّ الأمام-جبهي الظهرانية (dorsolateral prefrontal cortex)، والتي هي واحدة من أكثر أجزاء الدماغ ذكاءً وفطنة وإدراكاً؛ وذلك يتناسب مع كونها أكثر جزء قد تطوّر حديثاً، وابطأها نضوجاً. إن الأضرار الانتقائية التي تصيب هذه القشرة تجعل المصاب يتخذ قرارات بائسة، فيكون المريض في الغالب مندفعاً، ولا يمتلك القدرة على كبح جماح رغباته، ولا القدرة على تغيير سلوكه في رد فعل أو استجابة لردود أفعال. وهكذا إذا أردنا أن نضع هذا المريض في سيناريو، سنجده يقول: “أنا أعرف كيف يعمل هذا، لكنني سأنتظر المكافأة الثانية لأنها أكبر بكثير”. وهكذا لا يستطيع التوقف عن اختيار المكافئات الفورية والرديئة في الوقت نفسه.
في هذه الأثناء، هناك قشرة الفصّ الأمام-جبهي البطني الإنسي (ventromedial prefrontal cortex) العاطفية، وهي الرابط الذي يربط بين القشرة الجبهية (frontal cortex) والجهاز الحوفي (limbic system). إن الأضرار الانتقائية التي تصيب هذه القشرة تجعل المريض أيضاً يتخذ قرارات بائسة، ولكنها من نوع مختلف، إذ يمتلك هذا المريض صعوبة هائلة في أن يتخذ القرار بأي شيء; حيث يفتقر إلى أي جرأة بديهية في مثل هذه الأمور. علاوة على ذلك، فإن القرارات التي يتخذّها تميل أن تكون براغماتية قاسية باردة. فلو تصوّرته –عزيزي القارئ- يقابل شخصاً ما، فإنه سيقول له: «مرحباً، كيف حالك؟ أراك بديناً جداً اليوم»، وعندما يعود له لاحقاً وينتقد ما قاله، سيقول محتاراً من جديد: “لماذا تنتقدني؟ ما نطقت به حقيقي مئة بالمئة!”.
عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرار، خاصة في السياق الاجتماعي، فإن ما نعتبره سلوكاً مناسباً يعكس توازن بين العاطفة والإدراك. نجد متلازمة كابغراس تشهد توازناً مشابهاً لما يحدث عندما يتعلق الأمر بتحديد الذين نعرفهم بشكل أفضل.
كيف نحدد الشخص المقرّب إلى قلوبنا؟ حسناً.. لنرى: إنه يتملك عيون مألوفة اللون، شعرٌ ذو ملمس مميّز، هيئة لا يمكن نسيانها، ندبة كبيرة في ذقنه منذ كان طفلاً. تلك أشياء نعرفها عنه. وهذا المجال يرجع إلى جزء متخصص للغاية من دماغ البدائي، التلفيف المغزلي fusiform gyrus، الذي يتعرّف ويميّز الوجوه، وبالأخص الوجوه ذات الأهمية.
ولكن هذه نصف القصة فقط. وإلا كيف نحدّد المميّزات المهمّات الأُخر؟ حسناً.. إننا نتصور كيف احتضناه أول مرة، رائحة عطره منذ اللقاء المحمّل بآلاف الذكريات، ابتسامته الساخرة المتقطعة، نعرف أنه يشعر بالملل أيضاً من الضيوف وقت العشاء. تلك الأشياء التي نشعر بها. وهذا المجال العصبي لـ “شبكة معالجة الوجوه الموسّعة”، والتي هي عبارة عن شبكة منتشرة في الدماغ تتضمن مجموعة مختلفة من المناطق القشرية cortical region والحوفية limbic region.
يحدث التعرّف عند التقاطع بين تمييز الحقائق والشعور بالألفة. وفي هذا الإطار، تنشأ متلازمة كابغراس عندما يكون هناك تلف انتقائي لشبكة معالجة الوجوه الموسّعة، مما يضعف الإحساس بالألفة. بالرغم من إن تمييز الحقائق سليم ، هكذا يدرك أن الشخص الذي أمامه قريب منه، دون أن يشعر بأنه مألوف.
في عام 2013، أُخضعت امرأة تعاني من متلازمة كابغراس ناحية زوجها، بعد نزيف دماغي، إلى تصوير دماغي وهي تشاهد صور أشخاص مألوفين وآخرين غير مألوفين. وقد وجدت الدراسة في العيّنة غير المريضة، إن المنطقة المغزلية تتنشط استجابة لكلا النوعين من الوجوه، بالإضافة إلى إنها، واستجابة مع الوجوه المألوفة أيضاً، تتنشط مناطق الدماغ المرتبطة بالنيّة وبتقاطع العاطفة والذاكرة. أما بالنسبة للسيدة التي تعاني من المتلازمة، فقد كان لديها تنشيط طبيعي في المنطقة المغزلية، ولكن لا يوجد تنشيط في المناطق الأُخر. لقد كان تمييزها للوجوه على ما يرام، إلا إن المعنى العاطفي للوجوه قد تلاشى.
ولكن هذا التفسير لا يوصلنا إلا لمنتصف الطريق، افرض أنك مررت بلحظة من تلك اللحظات الغريبة التي تسمع “القريب الآخر” إلى قلبك يقول أو يفعل شيئاً خارج نطاق طباعه وشخصيته، كما لو أنه غير مألوف. فلابدّ أنك تفكر وتقول: “يا للهول، هذا الشخص لا يشبهه البتّة”، لكن ذلك لا يجعلنا نستنتج، على أي حال، أنه استبدل بنسخة مماثلة. بل وبدلاً من هذا، نجد تفسيراً أكثر مقبولية ونقول مثلاً: “ربما أنه لم ينل قسطاً جيداً من النوم”. إن الضرر العصبي المسبب لمتلازمة كابغراس لا يؤثر على الشعور بالألفة فحسب، بل يؤثر أيضاً على القدرة التقييمية والانعكاسية التي من شأنها أن تؤدي إلى عدم قبول فرضية النسخة البديلة لكونها منافية للعقل. وبدلاً من ذلك، يصبح المصاب بمتلازمة كابغراس متعلّقاً بالتفاصيل في ملاحظاته، كوسيلة لتكذيب التفسيرات التي لا معنى لها. وهذا هو السبب بالضبط، فنسمعه يقول: إن “قريبي الآخر” يمتلك فجوة بين أسنانه الأمامية، ولكنها لا تشابه حجم الفجوة بين اسنان هذه النسخة البديلة. محاولة ذكية، لن تستطيع خداعي يا صديقي.
إن تمييز كابغراس السليم مع شعور الألفة المتضرر له جانب عصبي آخر أيضاً، وهذا ما أكد عليه كل من هادين إيليس وآندرو يونغ (1990) في المملكة المتحدة. إنها البروسوباغنوزيا prosopagnosia «أو ما يسمى عمى تمييز الوجوه» وهو خلل يأتي مع ضرر التلفيف المغزلي fusiform gyrus. وفيه لا يعود المريض بمقدوره تمييز الوجوه، بما في ذلك وجوه احبائه الأعزاء، والنجوم المشاهير، والشخصيات التاريخية المعروفة. وقد يكون الأمر مقلقاً جداً، إذ يستطيع المصابون أن يلتمسوا طريقهم مرة أخرى إلى أساسيات الوظيفة الاعتيادية مع تمييز معظم الخوارزميات الميكانيكية. إيه، إذا كانت السيدة التي تزورني في غرفة المستشفى تمتلك هذا الوجه، وهذا الخال، إذن لا بدّ أن تكون زوجتي. لكن الشيء الذي يجعل من البروسوباغنوزيا المكتسبة مرآه تعكس متلازمة كابغراس هو إنها تقع في وسط الأذى اللاحق بالتمييز المعرفي، بالرغم من إن الحسّ العاطفي بالألفة لا يزال موجوداً.
أظهر لأي شخص يعاني من بروسوباغنوزيا مجموعة من الوجوه، سيقول: “لا، أنا لا أميّز هذا الشخص، ولا ذاك أيضاً”. حتى لو أظهرت له صورة أحد أفراد أسرته ضمن التسلسل، وسوف نسمع منه الإنكار نفسه: “لا، لا، لا أعرف هذا الشخص”. إلا إن الجهاز العصبي اللاإرادي يستجيب للألفة، فيتغيّر معدل ضربات القلب، وسلوك جلفانك التحفيزي للجلد. إذ إن التمييز هو لقطة صورية، أنت تصرّ على إنك لم تر هذا الوجه في حياتك قبلاً، إلا إن الدوائر العاطفية في الدماغ تعرف بالضبط من هو بالضبط: “إنه الشخص الذي يشعرني بالأمان، الذي ابتسامته وهيئته ورائحته وطلّته تستقبلني كل صباح منذ أن اخترنا أن تكون حياتنا معاً”.
تبيّن الاختلالات الرهيبة والتامّة لمتلازمة كابغراس وبروسوباغنوزيا ما يحدث عندما يختلّ التوازن المشترك بين الإدراك والعاطفة. إن الوحدات المنفصلة من أدمغتنا تكمن وراء الوظائف القابلة للانفصال، ولكننا من النادر ما نحقق أداءً جيداً عندما يتم فصل هذه الوظائف. إن الانفصال بين الإدراك والعاطفة، وبين التمييز والألفة، هو ما يجعل من أوهام كابغراس استعارة لحالة عقولنا اليوم.
في 99% من التاريخ الذي مرّ علينا، كان ولا زال التواصل الاجتماعي يتألف من تفاعلات مباشرة (وجهاً لوجه) مع أشخاص نلتقطهم ونجمع بهم طيلة الحياة. إلا إنه قد تفككت أجزاء التمييز والألفة بعد ذلك من جراء التكنولوجيا الحديثة. وبمصطلح «التكنولوجيا الحديثة» أقصد الاختراع الجديد الذي جاء في الألف سنة الماضية، حيث أصبح التواصل مع أي شخص من خلال بضع خربشات حبرٍ على قطعة من الورق، بعدها ترسل الورقة في مسافات بعيدة لتفكّ رموزها. لحظة لطفاً، هل أنت تتعرّف على الأشخاص من خلال تعبيراتهم الدقيقة؟ من فيروموناتهم؟ كليّاتهم؟ لا بل من خلال التقييم غير المحسوس لتردد الكلمات في الرسائل وخربشة التواقيع. نعم، كانت تلك أول ضربة تكنولوجية للحسّ البدائي بالألفة. وتسارعت التحديات أضعافاً مضاعفة منذ ذلك الحين: “هل هذه الرسالة النصّية من حبيبتي؟ هل تبدو مألوفة؟ حسناً.. هذا يعتمد. ما التعبيرات التي استخدمتها؟”.
وهكذا، لم تقتصر الحياة العصرية على الزيادة في تفكك التمييز والألفة، بل إنها أضعفت الأخير في أثناء العملية. يتفاقم الوضع مع ممارساتنا المحمومة في تعدد المهام، وخاصة تعدد المهام الاجتماعي. أفادت دراسة حديثة أجرتها مؤسسة بيو: «أن 89% من أصحاب الهواتف الذكيّة يستخدمون هواتفهم في أغلب لقاءاتهم الاجتماعية». إننا بهذا نقوم باختزال روابطنا الاجتماعية إلى مجرد حبائل لكي نتمكن من الحفاظ على أكبر عدد ممكن من الأشخاص الآخرين. هذا يتركنا مع علامات ألفة ما هي إلا محض خرائب واهية من العلائق الحقيقية.
ويمكن أن يؤدي بنا هذا الحال إلى مشكلة; بمعنى إننا نصبح أكثر عرضة للنسخ البديلة. إن حياتنا في وسائل التواصل الاجتماعي تعجّ بالمحاكاة الزائفة، وبمحاكاة من محاكاة الواقع المعاش. إننا متصلون عبر الإنترنت بأشخاص يزعمون أنهم يعرفونا، والذين يرغبون في إنقاذنا من خروقات الأمن الإلكتروني، والذين يطلبون منا أن نفتح روابطهم المرفقة، والذين من المحتمل ليسوا تماماً من يزعمون.
ومن هذا المنطلق، يجدر بنا جميعاً أن نكون في حالة من متلازمة كابغراس، لنكتشف بعدها أن كل شخص نقابله نسخة بديلة. وعلى كل حال، كيف يمكن للمرء أن يقتنع بمصداقية من لا نصافحهم، أو من نرسل لهم المال ليرسلوه إلى شخص آخر يدّعي بأنه من مصلحة الضرائب؟
إلا إن ما حدث بالفعل كان مختلف للغاية عما كان متوقع، إذ إن هذا الإذعان للألفة البدائية في مواجهة التكنولوجيا دفعنا إلى أن نخطئ في اكتساب الأصدقاء، لمجرد أن شخصين لديهما بث سناب جات (Snapchat) مشترك في الأيام الأخيرة، أو لأنهما معجبان بصفحات الفيسبوك ذاتها. يسمح لنا هذا الحال أن نكون أكثر حميمية مع أشخاص قد تثبت الألفة أنهم العكس. وعلى كل حال، يمكننا الآن أن نقع في الحبّ عبر الإنترنت ممن لم نتمتع بشم عطر شعرهم على الإطلاق.
على مرّ التاريخ، كانت متلازمة كابغراس مرآة ثقافية للعقل الانفصالي، حيث تتشظى أفكار التمييز ومشاعر الحميمية. ولا تزال خير مرآة. نحن نعتقد اليوم أن ما هو زائف ومصطنع في العالم من حولنا موضوعي بحت وذات مغزى. ولا يعني ذلك أن الأقارب والأصدقاء مخطئون في مسألة المحاكاة، ولكن هذه المحاولات خاطئة بالنسبة إليهم.