(قالت الأعراب آمنّا، قل لم تؤمنوا، ولكن، قولوا أسلمنا) آية قرآنية (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ح ش
مزّقت القطط السوداء والحمراء والبيضاء أكياس القمامة الّتي كانت تتراكم أمام المنازل..بكت الأكياس وهي ترى ما في داخلها يتسلّل بعجل قططي إلى الخارج..
كانت الجرذان تتسلّل إلى الدّاخل الكيسي فرحة..والديدان كانت تتلوى راقصة، سعيدة..
سأل الكيس أخته الكيسة: متى تأتي شاحنة جمع القمامة؟.. أردف: كرهت وجودنا الطويل هنا..كرهت نظرات النّاس المشمئزة إلينا..أحلم برؤية عالم آخر أخيتي، عالم أفسح وأبهى..
ردت الكيسة: يبدو لي أنّ ذلك العالم لن يأتي أبدا، أبدا..سيمرّ هذا الصَّيف الحار ويأتي الخريف بأمطاره الغزيرة علينا أُخَي..
علّق الكيس حزينا: ستجرفنا مياه الأمطار..ستمزّقنا الحجارة أكثر.. سيغمرنا الطّين ونتلاشى بعدها، وكأنّنا ما كنّا هنا، في هذه الحياة..
***
قال لهم بعد أن أنهوا صلاة جمعتهم: لماذا تصلون؟..إذا كانت صلاتكم لا تدفع بكم إلى أن تتحرّكوا منظّمين أنفسكم مطالبين بحقوقكم، فالأولى أن تتركوها وتلازموا منازلكم الّتي تحاصرها أكياس القمامة بديدانها وجرذانها وناموسها وذبابها وروائحها النتنة من كلّ الجهات..قال كلّ ذلك بألم حزين يحاصره الغضب الصَّاخب..
قال بعضهم: كلامه حقّ، ووقفوا ساكتين..
قال بعضهم الآخر متسائلا مستنكرا ساخطا: وما دخل صلاتنا في الموضوع؟ استغفر الله يا رجل..
ردّ عليهم بصوت بدا خافتا: إنّكم تقرؤون كلّ يوم: إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر..وما يحدث لكم منكر، لا منكر أكبر منه..ولم يسمع منهم هم الّذين تساءلوا أي كلام..
قال آخرون متذمّرين: لم لا ننقل أكياس القمامة إلى الطريق الوطنيّة..نكدّسها على جوانبها ليراها المارّة..ربّما يتحرّك المسؤولون ويحلّون المشكلة..وافترقوا جميعا..
ولم ينقلوها..لم يفعلوا شيئا..بقيت الأكياس في أمكنتها تتكوم فوق بعضها أكثر، أكثر..ازدادت القطط السّوداء والحمراء والبيضاء شراهة..الديدان والجرذان واصلت مرحها في كلّ الجهات مغتبطة تعانق بعضها بعضا..
***
كان اقتراح وضع أكياس القمامة على حافتي الطَّريق قد وصل إلى مسامع رئيس البلديّة ونوابه..أوصلته إليهم عيونهم المتلصصة في الحيّ..
وكانت سيّارات الدّرك متبخترة بخضرتها اللاّمعة تجوب الطَّريق ليلا ونهارا لتقبض على بعض الَّذين يمكن أن يتجرؤوا ويرموا أكياس قمامتهم هناك.. ولم يقبضوا على أحد.. لقد رأى النّاس سيّارات الدّرك وأدركوا قصد الدركيين وامتنعوا من ثمّة عن رميها..وحتّى في غياب سيارات الدّرك ما كانوا ليتجرأوا ويفعلوها..كان الخوف الشّديد يكبّل أيديهم وأرجلهم من فوق ومن تحت..من يمينهم ومن شمالهم..
***
بعد صلاة الجمعة الأخرى وقف أمام المسجد ..صاح في المصلين وهم يخرجون مسرعين مطأطئين رؤوسهم، كما تعودوا: يا مواطنين..يا سكّان الحيّ تعالوا إلى هنا..كان يقف مع زميل اتّفق معه على مخاطبة المصلين وطرح مشكلة القمامة ومشكلة الماء أمامهم للنّقاش..استمع إليه بعضهم وتقدّموا إليهما..بعضهم الآخر تصنعوا عدم السّماع وواصلوا سيرهم مسرعين مبتعدين..
تحملوا مسؤولياتكم يا إخوتي تجاه أسركم، وتجاه أطفالكم خاصَّة..إلى متى تسكتون عن أوضاعكم المترديّة هذه..الصَّيف يتقدّم مسرعا، والحرارة تشتدّ.. والأمراض ستأتي حتما، هي على أبواب منازلكم تقف متهيئة لاقتحامها..
قال زميله: فكّروا، ماذا نفعل؟..اقترِحوا طريقة مَّا للخروج ممَّا نحن فيه..
تكلم أحدهم: علينا برمي أكياس القمامة في الطَّريق الوطنيَّة..
قال آخر: نكدسها في مقر البلديّة..
ثالث قال: ليحمل كل واحد منكم كيس قمامته على ظهره ووعاء فارغا لا ماء فيه بيده ونتوجَّه إلى مقرّ الولاية سائرين على أقدامنا..سيرانا النَّاس ونحن على تلك الحال..ستأتي الصُّحف لتأخذ صورنا ونحن نسير مصطفين واحدا خلف الآخر وعرقنا يتصبَّب غزيرا..
رابع قال: نحتلّ مقرّ البلديّة ونغلقه بالسلاسل ونمنع دخول النّاس إليه وخروجهم منه..ونطالب بحضور الوالي لطرح مشاكلنا عليه ودعوته إلى زيارة حينا..
كانت أصوات المجتمعين تحت الشَّمس وأمامها تتعالى غاضبة متحدية..وكانت جدران المنازل تستمع إلى صراخهم مبتسمة، لا تصدق ما تسمع، وهي الَّتي كانت تراهم يمشون جنبها دائما منحنين صامتين.. وكانت الرّيح القويَّة الّتي هبَّت في اللَّحظة نفسها من جهة الجنوب تحمل إليهم الكثير الكثير من الرَّوائح العطنة الَّتي أرسلتها إليهم أكياس القمامة المنتشرة بكثافة أمام مدرسة أطفالهم..وتحمل معها الكثير من الغبار..
ابتعدت العين الرَّئيسة عن المجتمعين وأخرجت هاتفها..وبسرعة البرق كان خبر اتّفاق المجتمعين على التّوجه بعد يوم الغد صباحا إلى مقر الولاية ومباشرة اعتصامهم هناك حتّى يستقبل الوالي ممثّليهم ويوجد الحلول لما يعانون منه وأطفالهم من مآس، قد وصل إلى رئيس البلديّة ونوابه..وكانت العين تسير عائدة إلى منزلها المحاط بأكياس القمامة مغتبطة بما أسدته من خدمة لسادتها..
***
ليلة يوم التّوجه إلى الولاية زارت شاحنة القمامة الحي..منتصف اللّيل كانت هناك تسرع سيرها غاضبة، حانقة، ترمي بالكثير من الشّتائم على النَّوافذ والأبواب والنّعاس يلفّ أضواءها ..صباحا كانت الأزقة تخلو من أكياسها الّتي ألفتها..
وقف وزميله في موقف حافلات النّقل الحضري ينتظران كهول وشيوخ وشباب الحي ليتوجهوا إلى مقرّ الولاية..السّاعة كانت تشير إلى السَّادسة والنّصف صباحا..رأيا هم، نساء وذكورا، رجالا وشبابا يركبون الحافلات متوجّهين إلى أعمالهم..انتظرا لعلّ وعسى..على الثامنة كان العدد قد بلغ العشرة، والغبار الّذي راحت تثيره الحافلات والسيارات كان يغطي وجوههم ويعانق المكان ..طأطأوا رؤوسهم متحسّرين متألمين وعادوا إلى منازلهم يجرون أذيال الخيبة..وكان الخوف يغوص عميقا،عميقا في نفوس سكان الحي الصامتين وهم يغادرون متوجّهين إلى أعمالهم..
كانت عين البلديّة في الحي تقف منعزلة، تنظر إليهم بابتسامتها الذئبية..لقد انتصرتْ عليهم ..وستتراكم أكياس القمامة من جديد أمام منزلها..
رفعت العين هاتفها وراحت تخبر رئيس البلديّة ونوَّابه بالهزيمة الَّتي حلت بالزّميلين ومن معهما..
***
في الغد قال الرَّئيس لعينه في الحيّ: لن أعطيكم اعتماد جمعيّة حيّكم إلاَّ إذا بدلتم العضوين اللّذين قاما بتجميع السّكان وتحريضهم بعضوين آخرين..
قال العضوان لعين البلديّة في الحيّ، وكانت هي رئيس الجمعيّة: أعطنا وصل استلام ملف الجمعية من مصلحة الجمعيات في البلديّة، لقد مرَّت سبعة أشهر منذ أن وضعنا الملف هناك..سنرفع دعوى قضائيّة برئيس البلديّة..
ماطلت العين..غدا، قالت..بعد غد..ثمّ: لن أعطيكم الوصل..
كانت الأخبار تقول: وعدها رئيس البلديّة بإعطاء ابنها سكنا..
كانت تقول أيضا: رئيس البلديّة يكذب على العين..لا توجد سكنات ..
وكانت تقول كذلك: العضوان النّشطان في الحيّ قررا، ودون رجعة، التّوقف عن نضالهما من أجل الحيّ وسكَّانه..
تقول: لقد مات سكان الحيّ.. ومازالت العين تقف حارسة في موقف حافلات النّقل الحضري تتابع حركات وتحرّكات موتى الحيّ..
ما زالت القطط تمزق أكياس القمامة الحزينة..والديدان والجرذان ما تزال ترقص في عمق المنازل سعيدة بشكل لا حد له..
***
…فجأة، ارتعدت المنازل..زلزالا، صاح النّاس وخرجوا نساء ورجالا وأطفالا فزعين فارين بأنفسهم ..حين وقفوا لاهثين بعيدا عن منازلهم رأوا ما لم يحدث أبدا..في الماضي أو في الحاضر.. هنا أو هناك..اقتلعت المنازل عرصاتها وتحرّكت هاربة.. خلفها كانت أكياس القمامة تتدحرج ..خلف الأكياس كانت القطط والجرذان تقفز.. وراء القطط والجرذان راحت الديدان تزحف..وحدها النتانة لم تتحرك.. وحدهم سكان الحيّ لم يتحركوا..كانوا يقفون مندهشين تائهين مطأطئين رؤوسهم في نفس المكان والنتانة تتغلغل في أنوفهم عميقا، عميقا..
كانت الرّيح الجنوبيَّة الَّتي هبَّت بقوَّة في تلك اللَّحظة ترمي بأكياس القمامة على الرُّؤوس المطأطأة..
وكان الدَّجاج يصيح مذعورا: قققققققققققققق..قااق..ققققققققققق..
وكانت العين الجافّة تجر رجليها الحافيتين وسط القطط والجرذان، والكثير الكثير من الديدان تلتصق بها..